ومحاولة التحول الديمقراطي مرورا بتجربة الحركة الوطنية وتجربة الدولة الوطنية من جهة وتطور المشروع الإبداعي لا يمكن له إلا أن يلاحظ التقاطع الكبير بين المجالين ونقاط الالتقاء المهمة والأساسية في الصيرورة التاريخية .وقد مكننا البحث والتمحيص في هذه العلاقة مكننا من الخروج بفرضيتين أساسيتين .
- الفرضية الأولى تخص هذه العلاقة الوثيقة بين المشروعين السياسي والإبداعي والثقافي.فعلى خلاف عديد التجارب في البلدان الأخرى لهذه العلاقة الوثيقة والجدلية بين المشروعين أحد خصائص التجربة التاريخية في بلادنا .ويتفق اغلب المؤرخين وباحثي العلوم السياسية على أن المشروع السياسي الوطني يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية .المبدأ الأول يهم انفتاح التجربة السياسية التونسية وانخراطها في الأفق التاريخي الذي فتحته الحداثة الفكرية والسياسية.
أما المبدأ الثاني والهام في هذه التجربة فهو دور المجتمع المدني والمنظمات الاجتماعية التي لعبت دورا أساسيا في الديناميكية السياسية في بلادنا .وقد كانت لهذه المساهمة انعكاسات كبيرة وجعلت من الحوار السلمي والمدني الإطار العام للنقاش والتفاوض وحتى الصراع الاجتماعي .
أما الجانب الثالث فيخص أهمية المسألة الاجتماعية والتي لعبت دورا أساسيا وكانت ركيزة هامة على مدى تجربتنا التاريخية .ولعله من الحيف أن الدراسات التاريخية والسياسية لم تعط الأهمية التي يستحقها إلى المشروع الثقافي في نحت ملامح المشروع السياسي وخصوصية هويتنا .فقد عرفت بلادنا منذ عقود بروز حركة فنية وثقافية وإبداعية ساهمت لا فقط في إثراء المشهد الفني بل كذلك في تكوين وتدعيم خصوصية الذات وتفردها .فقد وقد ساهمت الحركات الفنية دورا كبيرا في القطع مع السائد ومع الموروث الثقافي التقليدي وبناء مشروع ثقافي جديد قوامه التعبير والاختلاف والقراءة النقدية للواقع السياسي والاجتماعي ساهمت هذه الحركة الإبداعية في دعم تفرد خصوصية تجربتنا التاريخية وتأكيد المشروع المدني ومبادئ المواطنة والتوق إلى الحرية والديمقراطية لتكون ثورتنا إحدى نتاجات هذا المشروع الإبداعي والثقافي.
- أما الفرضية الثانية فتهم طبيعة هذه العلاقة فهي في رأيي علاقة جدلية من حيث كونها علاقة تقاطع وانخرام ودعم للمشروع السياسي لكنها في نفس الوقت علاقة معارضة وتمرد وثورة .وبهذا المعنى تختلف هذه العلاقة عن العلاقة في عديد البلدان العربية من حيث أن المشروع الإبداعي امتداد للمشروع السياسي والدولة وهو بالتالي جزء من مشروع الهيمنة الفكرية بالمفهوم القرامشي .
و يختلف الوضع بطريقة كبيرة في بلادنا حيث حاول المشروع الإبداعي الحفاظ على مساحة وعلى هامش من الحرية في المشروع السياسي .وقد تجسد هذا الهامش في المضامين النقدية التي قدمها المبدعون في أعمالهم كما في معارك الاستقلالية التنظيمية التي خاضتها اغلب الحركات والمنظمات الثقافية في بلادنا .
وسنحاول في هذه المداخلة الوقوف على هاتين الفرضيتين في أربع محطات كبرى .
• مرحلة بناء المشروع الوطني
في الثلاثينات
هيمن التقليد والتبعية على مشاهد إبداعية أخرىفي الساحة الفنية في بلادنا .إلا أن ثلاثينات القرن الماضي كانت نقطة انطلاق نمط فني تونسي له رونقه الخاص وجماليته .وقد شهدت الحركة الفنية حركية كبيرة منذ تلك الفترة لتنتج الإرهاصات الأولى لحداثة أدبية وفنية تونسية.
وستكون جماعة تحت السور النواة الصلبة لهذه الحركية بما ضمته من روائيين وشعراء وصحافيين وملحنين ومطربين سيكون لهم دور أساسي في نحت اللبنات الأولى للمشروع الإبداعي التونسي.وستكون روايات علي الدوعاجي مثل «سهرت منه الليالي» التعبيرة الأهم عن خصوصية هذا المشروع الإبداعي .
وفي نفس تلك الفترة ظهرت «الرشيدية» التي أخذت على عاقتها المحافظة على المخزون الغنائي التونسي وتطويره .كما ظهرت عديد الفرق المسرحية والجرائد والمجلات .
وقد عرفت الفنون التشكيلية نفس الديناميكية تنظيم أول صالون فني سنوي وظهور أكاديمية قرطاج للفنون الجميلة ثم معهد الفنون الجميلة في بداية الثلاثينات .وكانت هذه الفترة نقطة انطلاق لثورة فنية وظهور مدرسة فنية تونسية في بداية الخمسينات .
كما عرفت الساحة الإبداعية حركية كبيرة منذ بداية الثلاثينات ستكون نقطة انطلاق لمشروع وطني ولحداثة ادبية وفنية ستكون احد روافد المشروع السياسي الوطني.
وبالرغم من تعدد التعبيرات الفنية يمكن تحديد ثلاث خصائص أساسية للمشروع الإبداعي التونسي .الخاصية الأولى هي نجاعة بناء سردية فنية بمميزات محلية تغوص في أعماق الوجدان الشعبي والموروث الحضاري الوطني .
أما الخاصية الثانية فتهم المضامين التي تدخل في خانة الممنوعات والمسكوت عنه في الثقافة العربية الإسلامية كالمرأة والجنس والخمر .
أما الخاصية الثالثة فتهم اللغة والانتماء للغة العربية في نفس الوقت فتح الباب أمام اللهجات المختلف .
إلى جانب تأثيره الكبير في المخيال الجمعي ربط المشروع الإبداعي علاقات كبيرة بين المفكرين والسياسيين وقادة الحركة الوطنية ليصبح أحد الروافد الأساسية للتجربة السياسية في بلادنا .وستتدعم هذه العلاقة بين المشروع الإبداعي والمشروع السياسي مع الدولة الوطنية اثر الاستقلال .
• مرحلة بناء الدولة الوطنية
شكل بناء الدولة اثر الاستقلال تحولا كبيرا في علاقة المشروع السياسي بالمشروع الإبداعي الذي سيصبح منذ بداية الستينات احد الركائز الأساسية للدولة ومشروعها التحديثي.
وقد عرفت هذه الفترة تطورا كبيرا للفن والإبداع بعد الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الدولة لتطوير البنية التحتية في هذا المجال .اذ قامت الدولة ببرنامج ضخم لبناء دور الشعب والثقافة في كل المدن والقرى .كما قامت بانشاء مؤسسات عمومية للنهوض بالقطاع الثقافي في مختلف المجالات مثل الدار التونسية للنشر والساتباك والشركة التونسية للتوزيع.
كما ظهرت الجمعيات المهتمة بالنشاط الثقافي كجمعية السينمائيين الهواة وجماعة مسرح الهواة وعملت الدولة على خلق عديد المهرجانات الكبرى مثل مهرجان قرطاج ومهرجان الحمامات وأيام قرطاج السينمائية ومهرجان فيلم الهواة في قليبية ومهرجان مسرح الهواة في قربة .
وبدأت هذه الحركة الثقافية تشهد الكثير من الديناميكية والتطور في ميدان القصة مع محمود المسعدي والبشير خريف ومحمد العروسي المطوي ومحمد صالح الجابري وفي ميدان الشعر مع الأستاذ الميداني بن صالح .
وقد ظهرت مدرسة تونس للفنون التشكيلية مع عديد الرسامين مثل القرجي وعمار فرحات والأخوين التركي وجلال بن عبد الله وعلي بلاغة والتي استفادت من القانون القاضي بتخصيص %4 من ميزانية اي مشروع كبير للرسامين .
كما يمكن أن نشير في هذه الفترة إلى بدايات السينما التونسية مع عمار الخليفي والصادق بن عائشة وحمودة بن حليمة واحمد الخشين ورشيد فرشيو .
وقد لعب الفنانون دورا أساسيا في دعم المشروع السياسي للدولة الوطنية وتثبيته على المستوى الشعبي .إلا أن هذا التناغم في المشروعين سيشهد الكثير من الفتور لينقلب الى ثورة ثقافية على السائد وعلى نزعة الهيمنة وتراجع الحريات في نهاية الستينات .
• مرحلة التمرد على الدولة الوطنية منذ نهاية الستينات
شكلت نهاية الستينات نقطة انطلاق لتجربة التمرد عند الفنانين والمبدعين وبداية ثورة المشروع الإبداعي ضد انحرافات المشروع السياسي .وستلتحق الساحة الإبداعية بالمعارضة من اجل تحقيق مطالب الحرية والديمقراطية.
وقد شمل تمرد الفنانين والمبدعين ثلاثة جوانب أساسية .يهم الجانب الأول محتوى الإبداعات والتصورات الفنية حيث سعى الفنانون إلى نقد الجانب التقليدي وهيمنة العلاقات الاجتماعية الأبوية والدفاع على ضرورة التحرر الاجتماعي والابتعاد عن الهيمنة الثقافية العالمية.وجاء شعار الثقافة الوطنية ليختزل هذا التمرد على مستوى المحتوى .
أما الجانب الثاني لهذه الثورة الفنية فيهم أشكال التعبير والكتابة حيث سعى فنانونا ومبدعونا الى الخروج من الأشكال البالية وبناء أشكال جديدة للكتابة في كل المجالات الفنية .أما الجانب الثالث لهذا التمرد فهو سياسي ويهم حرية الإبداع واستقلالية الفنان والجمعيات الثقافية عن السلطة السياسية .
وقد تجلت هذه الثورة الفنية في عديد التجارب مثل حركة الطليعة مع محمد مصمولي وعزالدين المدني وسمير العيادي وصالح القرمادي والحبيب الزناد والطاهر الهمامي وفضيلة الشابي .
كما نجد هذه الثورة في المجال السينمائي مع أعمال رضا الباهي وعبد اللطيف بن عمار وسلمى بكار وفي المجال المسرحي مع رجاء فرحات والفاضلين الجعايبي والجزيزي وجليلة بكار وتوفيق الجبالي والمنصف السويسي.
وكانت هذه الثورة في مجال الفن التشكيلي مع مجموعة الستة التي ضمت نجيب بلخوجة والصادق قمش ونجاء المهداوي ولطفي الارناؤوط والهمامي التركي .
كما عرفت الساحة الموسيقية نفس الانتفاضة وظهور الأغنية الملتزمة منذ منتصف السبعينات مع عديد التجارب مثل «ايمازيغن» والبحث الموسيقي و«الحمائم البيض» و«أولاد المناجم» والهادي قلة وحمادي العجيمي والزين الصافي ومحمد بحر .وقد ساهمت زيارات عميد الأغنية الملتزمة العربية الشيخ إمام ومارسيل خليفة في تطور هذه التجارب وخروجها من الفضاء الجامعي ودخولها إلى المهرجانات الكبرى مثل قرطاج والحمامات .
وستساهم هذه الثورة الإبداعية في الثورة القادمة على النظام السياسي .
• مرحلة الثورة على الاستبداد
كان الفنانون والمبدعون في الصف الأول للمعارك السياسية والتمرد الذي شق البلاد من 17 ديسمبر إلى 14 جانفي .فقد وقع إيقاف مغني الراب «الجنرال» بضعة أيام قبل 14 جانفي .كما نظم الفنانون التونسيون وقفة احتجاجية يوم 11 جانفي أمام المسرح البلدي واجهتها قوات الشرطة بالكثير من العنهجية .
وقد واصل الفنانون مساهمتهم في الحراك الثوري في الأيام الأولى للثورة وخاصة في تجمعات القصبة1 والقصبة 2.ثم سيكون الفنانون في الصفوف الأولى للدفاع على حرية الكلمة والإبداع والديمقراطية مع صعود الحركات الراديكالية للإسلام السياسي والسلفية المعادية للفن والإبداع بهجومها على قاعة أفريكا في جوان 2011 وقصر العبدلية في جوان 2012.
وقد عرفت هذه المرحلة ظهور جيل جديد من المبدعين والفنانين مثل كوثر بن هنية وليلى بوزيد وفارس نعنع ووليد معطر ونضال شطا.كما سيعرف مجال الفنون التشكيلية ثورة كبيرة مع ظهور أجيال جديدة وأشكال تعبيرية جديدة كالرسم على الجدران والفوتوغرافيا والفيديو ومن ضمنهم مريم بودربالة وهالة عمار وسينا قلال وعاطف معطا الله ونضال شماخ وفخري الغزال وعثمان طالب وعائشة السنوسي ووسام العابد.
أما في مجال الموسيقي فقد دعم الراب هذه الثورة مع ظهور وبروز عديد الفنانين ومن ضمنهم بندرمان وكافون وبلطي وكلاي بي بي جي والسنفرة وغيرهم .
مكنتنا هذه القراءة التاريخية من تأكيد العلاقة الوطيدة والتقاطعات بين المشروع الإبداعي والتجربة السياسية التاريخية في بلادنا .ولئن ساهم الإبداع في دعم التجربة السياسية وفي خصوصيتنا إلا انه لم يتأخر على النقد والتمرد أمام انحرافاتها .
محاضرة في ندوة »منارات»
لجريدة الشعب