قهوة الأحد: تونس بين تصحر السياسة وربيع الفكر والفنون

تمر بلادنا بأزمة سياسية حادة منذ سنوات مع تراجع الثقة في الأحزاب السياسية وتآكل مشروعية المؤسسات المنتخبة .وقد ازدادت هذه الأزمة

حدة في الأشهر الأخيرة بعد الدخول في المرحلة الاستثنائية وفي ظل غياب مؤسسات منتخبة .
وشهد الوضع السياسي الكثير من النقاش والجدل الذي لم يقف عند المخاوف من انعكاسات هذه الأزمة على استقرار البلاد بل امتد إلى نقاش حول أسس النظام الديمقراطي وقدرة النظام التمثيلي على وضع أسس المشاركة الشعبية في المجال السياسي .
كانت هذه الأزمات وعجز التجارب المختلفة في العشرية الأخيرة عن النجاح في بناء نظام ديمقراطي والوصول بقارب التحول الديمقراطي إلى شاطئ النجاة وراء الكثير من المرارة والحسرة .فقد خلقت السنوات الأولى من الثورة ومن تجربة التحول الديمقراطي الكثير من الأمل في قدرتنا على بناء تجربة سياسية تعددية أكثر انفتاحا على التجربة الديمقراطية الكونية .إلا أن تعدد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووصول تجربة التحول الديمقراطي إلى نفق مظلم جعل الأمل يتحول إلى كابوس .

وقد فتحت هاته الأزمات بلادنا على بعض المشاريع والبدائل المخيفة في بعضها وغير الواقعية في البعض الآخر كحلم العودة والحنين إلى القديم أو وهم نفي ورفض المؤسسات الوسيطة والارتماء في أحضان النظام القاعدي.
ولئن نجحت هذه الأزمات والارتدادات في قبر الأمل وتراجع الإيمان بقدرة السياسي على فتح آفاق جديدة للتجربة الجمعية إلا أنها ساهمت في نفس الوقت في إفراغ المجال العام وبصفة خاصة الساحة السياسية من الثراء والحركية اللتين ميزتاها بعد الثورة لتصبح مجالا قاحلا تنتفي فيه الورود والإزهار ولا ينتب فيه إلا الشوك إلا أن المتابع للنقاش العام وللديناميكية الاجتماعية لا يمكن له إلا إن يصطدم ويتفاجأ بالقطيعة الكبرى والهوة العميقة التي تكونت في الفضاء السياسي والفضاءات الأخرى كالفضاء الفكري والفضاء الإبداعي وكأنها لا تنتمي لنفس الفضاء الجغرافي .

ولئن كانت المرارة والخيبة تهيمنان على المجال السياسي إلا أن ارتدادات وتأثيرات ثورة ذات شتاء في 2011 تعتملان في أحشاء الفضاءات الاجتماعية الأخرى من الفكر إلى الفنون والإبداع .فالبحث عن تجربة جمعية جديدة متحررة ومتضامنة لازالت تعمل في عديد الفضاءات الجمعية الأخرى التي لم تستسلم إلى الحزن ومرارة السياسية .ولعل تواصل هذا الزخم الفكري والإبداعي التحرري الرافض من شانه أن يزرع من جديد بذرة الأمل في المجال السياسي للخروج من الخنوع والقنوط السائدين والشروع في بناء تجربة جمعية جديدة.طبعا تتمتع مجمل المجالات الاجتماعية والسياسية باستقلالية عن بعضها البعض إلا أن هذه الاستقلالية ليست مطلقة بل هي نسبية مما يجعل كل هذه المجالات منفتحة على التأثر ببعضها البعض وتستفيد من التطورات الداخلية التي تعتمل في أحشائها .
وفي هذا الإطار فإن التصورات التي يشهدها المجال الفكري والاجتماعي والتي تواصل في البحث عن مجالات وسياسات التغيير والتحول من شأنها أن تؤثر في المجال السياسي وتخرجه من جو الخنوع والاستسلام الذي يسوده وتفتح أمامه آفاقا أرحب تعيد إلى المسار الثوري ومشروع التحول الديمقراطي بريقه ورونقه .

ويمكن لنا رصد هذه التحولات والتطورات وروح المقاومة في جملة من التظاهرات الفكرية والإبداعية التي اكتسحت الفضاء العام في الأيام الأخيرة .

• الفلسفة والبحث في قواعد العيش المشترك
كان البحث في قواعد العيش المشترك في ظل الأزمات والضبابية وغياب الأفق الذي تمر به المجتمعات الديمقراطية موضوع الندوة التي نظمها يومي 29 و30 سبتمبر 2022 معهد تونس للفلسفة بإشراف الأستاذ فتحي التريكي بمشاركة بعض المؤسسات الأخرى والتي من ضمنها المعهد العالمي للتحولات الديمقراطية .

كانت هذه الندوة فرصة طرح فيها الفلاسفة إلى جانب مفكرين من العلوم الإنسانية والاجتماعية من تونس ومن بلدان أخرى الأزمة العميقة التي تعيشها الإنسانية والتي تهم انهيار قواعد العيش المشترك الناتجة عن هيمنة العقل التقني والمالي في ظل العولمة .وقد أكدت هذه الندوة على أهمية الفكر الفلسفي النقدي لمساهمته ودوره الأساسي في نقد الواقع الحالي وصعود النزعات التسلطية والاستبدادية مع عودة الشعبوية والحركات اليمينية المتطرفة في أغلب البلدان .وتكمن مساهمة الفكر الفلسفي في ظل هذه الأزمات في رأي الفيلسوفة الألمانية هنا أرندت في النضال اليومي من اجل استعادة الحرية والأمل في خلاص الإنسان من كل أشكال الغربة والقهر والظلم .

ولا يتوقف دور الفلسفة في هذا المجال على النقد بل يساهم كذلك في بناء الجديد على أنقاض القديم من خلال إعادة زرع بذرة الثورة والرفض ومواصلة مسارات التحول والتغيير من أجل بناء تجربة جمعية جديدة .
وقد أعطى الفلاسفة في هذه الندوة محتوى وبرنامجا جديدين لقواعد العيش المشترك من حيث بحث علاقات اجتماعية تسعى إلى بناء الود مع الآخر واستضافته (convivialité) بين أفراد تجمعهم مبادئ العدالة والتضامن في إطار عقد اجتماعي جديد ينخرط في مبادئ التحرر الكونية والديمقراطية والتعدد والاختلاف .

ولعل أهمية المقاربة الفلسفية التي دافع عنها المفكرون والفلاسفة هي انخراطها في النقاش العالمي حول الجامع المشترك بين المجتمعات الإنسانية .

وفي رأيي فإن هذا التمشي الفكري والفلسفي لابد له أن يقطع مع نظرتين أصوليتين ومتطرفتين ساهمتا بدرجة كبيرة في التوتر وحتى العنف الذي طبع العلاقات الدولية في الآونة الأخيرة وفي تراجع السلم العالمية .النظرة الأولى هي النظرة الكونيةuniverselle)) المجردة والتي تشكل مشروع هيمنة الغرب على الأخر وإسقاط الحداثة المجردة على الآخر .أما النظرة الأخرى فهي الخصوصية المطلقة (relativisme absolue) والتي تدافع عنها بشدة اليوم نظريات ما بعد الكولونيالية الصارمة .

إن بناء قواعد العيش المشترك يتطلب اليوم القطع مع هذا التضادد وبناء مشروع فكري جديد يسعى إلى إثراء الكوني بتعدد تجربة الآخر المختلف .وهذا البحث على صعوبته يقدم لنا أساس الخروج من العنف والتشدد وبقاء التعدد والديمقراطية على أساس التعدد واحترام الاختلاف .
ولإنجاح هذا البناء الفكري الجديد لابد له من إخراجه من المجال النظري والتحول به إلى مشاريع سياسية وتصورات عملية وبرامج ورؤى .

• في البحث عن البرامج المفقودة
لم يقتصر الزخم الفكري الذي عرفته بلادنا في الأيام الأخيرة على المجال النظري والفلسفي بل امتد إلى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية.فقد شهدت الجامعة التونسية وكلية الآداب تنظيم المنتدى الدولي «إنسانيات» تحت إشراف وزيرة الثقافة السابقة والأستاذة الجامعية شيراز العتيري وذلك في الفترة الممتدة من 20 إلى 24 سبتمبر 2022 .وقد عرف هذا المنتدى مشاركة أكثر من 1300 مشارك بين جامعيين ومفكرين وفنانين من 35 بلدا.
وقد قامت لجنة التنظيم بإعداد برنامج دسم وثري من اللقاءات والندوات وحلقات التفكير حول تجربتنا الجمعية والأفق المظلم الذي دخلت فيه وسبل الخروج منه .
وقد أكد هذا المنتدى الهام – في رأيي - في مختلف مجالات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية على أزمتين أساسيتين تقضان مضاجع الباحثين والمفكرين في مختلف هذه المجالات .الأزمة الأولى تخص عجز المفكرين والباحثين عن بناء وتصور طريق ثالث يمكننا من القطع مع التصور النيوليبرالي والتقشفي الذي تسعى المؤسسات الدولية إلى فرضه الى بلداننا من جهة والمشروع الشعبوي الذي يحلم بالعودة إلى الدولة الوطنية والذي تآكل مع العولمة من جهة ثانية .وأزماتنا اليوم وعجز الإنسانيات والعلوم الاجتماعية يمكن في عدم قدرتنا على الخروج من هذه الضدية المقيتة وبناء طريق ثالث يضمن الرقي والانعتاق الاجتماعي.

أما الأزمة والتي أشارت لها بكل وضوح مختلف ندوات ولقاءات هذا المنتدى فتشير إلى القطيعة الكبيرة بين الفكر والممارسة في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وكأن الأزمة الفكرية دفعت الباحثين في هذا المجال إلى الانقطاع عن الحركة الاجتماعية ومحاولة الانفراد بعجزهم في مخابرهم .
وتكمن أهمية هذا المنتدى - إلى جانب نجاحه التنظيمي - في انه وضع الإصبع على مكمن الداء ودق ناقوس الخطر للعاملين في هذا المجال .وقد نجحت هذه الندوات والنقاشات في تشجيع المفكرين والباحثين في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية على الخروج من أبراجهم العاجية والخوض من جديد في متاهات التجريب والتفكير من اجل إعطاء دفع جديد لتجربة التحرر والانعتاق والتغيير التي بدأت ذات شتاء سنة 2011 وبناء أسس قواعد العيش المشترك .
وقد ساهم المبدعون والفنانون في تثبيت ودعم روح المقاومة عند المفكرين .

• الفن والإبداع وديمومة واستمرارية روح التحرر
في نفس الوقت الذي يعيش فيه المجال السياسي والسياسة من فوق (le politique par haut) كما يسميها المفكر الفرنسي فرانسوا بايار (François Bayart) أزمة حقيقة وجفاء غير مسبوق ف ظهرت أشكال جديدة من الالتزام المواطني وهي السياسة من تحت (la politique par le bas) والتي تعيد إلى الفعل السياسي بريقه ووهجه.والسياسة من فوق تهم أشكال العمل السياسي التقليدي من انتخابات وانتماء للأحزاب بينما يرتكز علم السياسة من تحت - والذي يختلف - جذريا عن المشروع القاعدي الذي يعيد إنتاج الأشكال التقليدية للعمل السياسي،على الانخراط المواطني في المدينة من اجل تغيير الواقع وإحياء سحره وعبقه .

ويمكن أن نشير إلى عديد التجارب التي تعيشها بلادنا في هذه الأشكال الجديدة للعمل السياسي من خلال بناء علاقة وثيقة بين المدينة - التي تصبح الفضاء القريب للعمل السياسي - والفعل الإبداعي والفني .ولعل من أشهر هذه التجارب في بلادنا تجربة» دريم سيتي» الفنية والتي انطلقت بعد الثورة بمبادرة من ثلة من المبدعين الشبان في أنهج وشوارع المدينة العتيقة لتونس العاصمة .

وقد مكنت هذه التجارب من فتح التجارب الإبداعية على الشارع وتقريبها من المواطنين كما ساهمت في نفس الوقت في فتح مجال اكبر للشحنة التحررية ورفض الخنوع للأمر الواقع والتي يحملها الفنانون .
ولم تقف هذه التجارب على مدينة تونس بل اكتسحت اغلب المدن ولعل آخرها تجربة «كيف الكاف» التي عرفتها مدينة الكاف من 23 إلى 25 سبتمبر 2022 والتي نظمتها مجموعة من شباب المدينة في إطار جمعية «ميزيوم لاب» أو «Musuem Lab» .
قضيت هذه الأيام الثلاثة في ضيافة عبير وشباب مدينة الكاف الذين فتحوا مدينتهم ومعالمها التاريخية لأهلها ولزائريها القادمين من مختلف إنحاء الجمهورية لقضاء أيام جسدت بالكثير من الحماسة مبادئ حسن الوفادة وكرم الضيافة التي اعتبرها الفلاسفة أسس القواعد الجديدة للعيش المشترك والتي تقطع مع الحدة والتوتر اللذين يهيمنان على الخطاب السياسي .

وقد أعدت هذه الجمعية جملة من المسارات والزيارات للمدينة لاكتشاف معالمها تخللتها معارض فنية وعروض موسيقية تؤكد على ثراء الساحة الإبداعية وتنوعها .ولا يمكننا التوقف عند هذه العروض والمعارض لكثرتها إلا أنني اكتفي بالإشارة إلى تظاهرتين تدلان على هذا النفس التحرري للإبداع والفن .تهم التظاهرة الأولى العمل الذي قام به الفنان وديع الحذيري تحت عنوان « داخل حقيقي،خارج خيالي»داخل سجن قلعة القصبة.وقد حاول من خلال هذا العمل استحضار تجربة عيش أهوال السجون وتكبيل الجسد والعقل .نجح الفنان في هذا العمل ومن خلال الغرف المتعددة التي استعملها في نقل التجربة السجنية من خلال الصور والصوت وأشياء السجناء في استحضار هذه التجربة المريرة التي مر بها العديدون ولنخرج بنتيجة وقناعة أساسية وهي القيمة المطلقة للحرية ورفض الاستبداد والتسلط كأحد قواعد العيش المشترك في تجربة بناء العقد الاجتماعي الجديد .
أما التجربة الثانية فتهم عرض فرقة موسيقية جديدة اسمها «دندري في فضاء القصبة « وتسعى هذه الفرقة إلى إعادة إحياء تقليد في السطمبالي والموسيقى الصوفية والطقوس التي نقلها القادمون من جنوب الصحراء خلال ترحالهم إلى بلادنا لتصبح جزءا من تراثنا الموسيقي والثقافي .وتجربة «دندري» ليست الوحيدة في بلادنا بل تشير إلى تجارب عديدة تقوم بها عديد الفرق في بلادنا من اجل إعادة استحضار تراثنا لتجعل من التعدد والاختلاف أساس باء تجحربة العيش المشترك الجديدة .

• الشباب ودواء التحرر
ولعل الأهم في هذه التجربة الجمعية وفي تواصل بريق التحرر ورفض التسلط الدور الكبير الذي يلعبه الشباب في العديد من التظاهرات الرياضية والاجتماعية وخاصة الفنية.فقد أصبحت المهرجانات الفنية التي يتم تنظيمها في المدن وسفوح الجبال والغابات فرصة لهذا الشباب المقاوم في كل الأماكن للغناء والرقص ومواصلة حلم التحرر.

وقد عشت هذه التجارب وانغمست فيها في عديد المناسبات وفي أماكن مختلفة وكان آخرها التظاهرة التي نظمها الناشط السياسي والثقافي الصديق رمزي الجبابلي في سفح مائدة يوغرطة في أعالي مدينة قلعة سنان من 23 إلى 25 سبتمبر 2022 تحت عنوان «الجبال الصوتية» أو «(les montagnes acoustiques) حيث اختلط الشباب بأصوات وأنغام الموسيقى والتي حملت -في رقصهم وفي عيشهم في مخيمات وقع إعدادها خصيصا - مبادئ التحرر ومحاولة بناء قواعد العيش المشترك .

إن المتابع للوضع السياسي العام لييأس من حالة الإحباط والمرارة والحسرة أمام الأزمة السياسية وفشل تجربة التحول الديمقراطي.إلا أن المتمعن في ديناميكية بعض المجالات الاجتماعية الأخرى كالفكر والفنون يلحظ تواصل شرارة التحرر وبذرة الثورة على التسلط والاستبداد ومبدأ تفاعل مختلف المجالات وتأثيرها وتأثرها في بعضها البعض مما يدفعني إلى الاعتقاد بأن ديناميكية الفكر والإبداع ستقودنا إلى الخروج من «مدن التيه» ،في استعارة لعنوان أحد أهم الروايات العربية للروائي السعودي عبد الرحمان منيف ،التي ضاعت فيها السياسة وفتح باب الأمل لتجربة تاريخية جديدة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115