قهوة الأحد: لماذا هجر الاقتصاديون الفضاء العام ؟

بعيدا عن الأجواء السياسية الخانقة عاشت بلادنا خلال الأيام الأخيرة على وقع فسحة فكرية دسمة بالنقاش والتفكير حول الأزمات

التي تعيشها مجتمعاتنا من منظور العلماء والمفكرين في العلوم الاجتماعية والإنسانية .تمت هذه النقاشات والزخم الفكري في المنتدى الدولي «إنسانيات» الذي أشرفت على إعداده وتنظيمه وزيرة الثقافة السابقة الأستاذة الجامعية شيراز العتيري وفريق عمل ضم أهم خبراتنا في ميدان الإنسانيات من ضمنهم الأستاذة قمر بن دانة .وضم هذا المنتدى العالمي الذي احتضنته كلية الآداب بمنوبة وبعض الأماكن الأخرى مثل مدينة الثقافة من 20 إلى 24 سبتمبر 2022 أكثر من 1300 مشارك بين جامعيين وفنانين من 35 بلدا .وأعدت لجنة التنظيم برنامجا دسما وثريا مكّن المفكرين والجامعيين من مساءلة نظرياتهم وأدواتهم المنهجية وقدرتها على تفكيك الواقع وفهم التحولات الكبرى التي يعيشها العالم وفتح الطريق أمام تجربة جمعية جديدة .

وقد أكدت هذه التظاهرة الضخمة على ثراء التجربة الفكرية في بلادنا وتنوع العلوم الاجتماعية. كما فتحت المجال لفتح الحوار بين مختلف اختصاصات الإنسانيات لاخراجها من تقوقعها على نفسها والذي فرضته مناهج التدريس وبعض الإصلاحات البيروقراطية والإدارية التي ضربت عرض الحائط بأهمية تلاقح الاختصاصات لفهم تعقيدات التجربة الجمعية .

كما كان هذا المنتدى فرصة هامة لفتح أواصر اللقاء والاستفادة من مسارات الإنسانيات في البلدان الأخرى لإثراء تحليلنا وقراءتنا للواقع المتحرك .
وقد ساهمت في هذا المنتدى في ندوة مهمة حول «الاقتصاديين في المدينة» والتي أثثها إلى جانبي أساتذتي سي المنجي المقدم وسي محمد الهادي زعيم وصديقي الأستاذ بكار غريب .

وقد طرحت هذه الندوة السؤال الأساسي الذي يطرحه الخاص والعام وهو أين الاقتصاديين من المشاكل والأزمات التي تعيشها بلادنا اليوم .ولماذا عجزوا عن تقديم الحلول للخروج من هذه الأزمات وبناء تصور جديد للتنمية قادر على إيجاد للإجابات على أحد مطالب الثورة الأساسية وهي «الشغل والحرية والكرامة الوطنية» .

والسؤال الحارق الذي لم نجد الإجابة عنه هو لماذا غاب الاقتصاديون عن تصور الحلول والسياسات الاقتصادية البديلة ولماذا هجروا الفضاء العام .

ويزداد السؤال حدة وحرقة إذا أسلمنا،كما أردد منذ سنوات،بوجود مدرسة اقتصادية تونسية خصوصية متميزة مقارنة بتطور المدارس الاقتصادية في عديد البلدان الأخرى .إذن ما الذي يمنع هؤلاء الاقتصاديين بالرغم من ثراء ودسامة انتاجاتهم الفكرية من الخوض في النقاش العام والمساهمة في بناء نمط التنمية المنشود والخروج ببلادنا من الأزمات الاقتصادية التي تتخبط فيها منذ سنوات .

كانت مداخلات الأساتذة المساهمين في هذه الندوة مهمة وأعطت بعض الإجابات عن هذا السؤال الحارق.وسأضيف في هذه الورقة بعض الأفكار عن هذا التساؤل العام الذي يتطلب في رأيي مزيدا من البث والتمحيص والتفكير من الخروج من الفقر والبؤس الذي يعرفه الخطاب الاقتصادي والذي لم يمكنه من بناء ثقافة اقتصادية جمعية كالتي نجح أساتذة الحقوق في صياغتها في السنوات الأخيرة والتي جعلت من الحرية والديمقراطية والتعدد أهم أسس المنظومة الفكرية الجديدة للتحول الديمقراطي في بلادنا .

تتميز الساحة الاقتصادية التونسية بالتنوع والتعدد .وسأقتصر في الإجابة عن هذه الأسئلة على الجامعيين في هذه الورقة.وسأعود لاحقا إلى تناول جزء كبير من الاقتصاديين الذين ينشطون خارج الجامعة في المؤسسات الدولية ومراكز التفكير والبنوك والمؤسسات المالية ومكاتب الدراسات .

• في خصوصية المدرسة الاقتصادية التونسية
عرفت أغلب بلدان العالم الثالث ظهور مدارس اقتصادية مهمة اثر تجارب التحرر الوطني وحصولها على استقلالها.وقد ساهمت هذه المدارس في بناء أنماط تنمية وسياسات ساهمت في دعم الاستقلال السياسي بفك التبعية الاقتصادية للمركز الاستعماري وبناء اقتصادات نجحت تدريجيا في التحرر والاستقلال .
ويمكن أن نشير إلى عديد التجارب في بناء هذه المدارس الاقتصادية في محيطانا العربي نذكر منها التجربة المصرية وعلى رأسها الأساتذة محمد دوويدار وسمير أمين والتجربة الجزائرية وعلى رأسها الأستاذ عبد اللطيف بن اشنهو والمدرسة المغربية وعلى رأسها الأساتذة فتح الله والعلو والحبيبي المالكي .
وقد عرفت بلادنا نفس التجربة مع بدايات ظهور مدرسة اقتصادية نشيطة كان على رأسها الأستاذ الشاذلي العياري أول اقتصادي تونسي حصل على شهادة التبريز من الجامعات الفرنسية .
وقد شكلت هذه الفترة عصرا ذهبيا للمدارس الاقتصادية الوطنية والتي لعبت دورا كبيرا في بناء الأسس الاقتصادية الوطنية من خلال الارتباط الوثيق بين الجوانب النظرية وذلك من خلال البحث والتدريس والجوانب العملية من خلال المشاركة المباشرة في صياغة السياسات والاختيارات التنموية الكبرى .
وقد شهدت هذه التجربة الفكرية في بلادنا تطور كبيرا ومهما مكننا من بناء مدرسة اقتصادية خصوصية ومتميزة خلال العقود الأخيرة.ويمكننا أن نشير إلى أن هذه المدرسة عرفت أربعة أجيال من الاقتصاديين الذين ساهموا من خلال كتاباتهم وبحوثهم في إثراء التجربة الاقتصادية في بلادنا .
وشكل الجيل الأول جيل المؤسسين والذي ضم إلى جانب الشاذلي العياري عبد الجبار بسيس وعبد السلام دمق والمنصف بن سلامة .أما الجيل الثاني والذي أطلقت عليه تسمية جيل البناء لأنه أخذ على عاتقه من خلال التدريس الجامعي والبحوث تكوين الأجيال الجديدة من الاقتصاديين ويضم مصطفى كمال النابلي وعبد الرزاق الزواري ومحمود بن رمضان ومحمد الأحول وعبد الجليل البدوي وحسين الديماسي ومنذر القرقوري وعفيف الهنداوي ومحمد الهدار ومحمد صالح بن رجب والهاشمي علية والمنجي المقدم ومحمد الهادي زعيم والطاهر عبد السلام ومحمد الأمين حماص.
أما الجيل الثالث والذي انتمي اليه فأطلقت عليه تسمية المطورين وهو الجيل الذي ساهم في تطوير المدرسة الاقتصادية من خلال انفتاحه على المؤسسات الدولية والجامعات الأجنبية ويضم اليأس الجويني وحمادي الفهري وتوفيق الراجحي وسامي العوادي وسامي مولاي وماهر قصاب وبكار غريب وغازي بوليلة ومعز العبيدي وظافر سعيدان وغيرهم .

أما الجيل الرابع فأطلقت عليه جيل الأبناء لأنه الجيل الذي تلقى أغلبه تعليمه وتكوينه في الجامعة التونسية ويضم العديد من الأسماء الشابة التي أصبح لها اليوم شأن في النقاش الاقتصادي من ضمنها زهور الكراي وفاطمة المراكشي والهادي بشير وباسط الشمنقي وليلة البغدادي وأسماء خوجة والحبيب زيتونة وصفوان بن عيسى وحسام الدين الشابي وآرام بلحاج وغيرهم كثير .

وقد ساهمت هذه الأجيال المختلفة في بناء مدرسة اقتصادية متميزة على مدى العقود المتتالية .إلا أن الملاحظة الأهم تخص تراجع وخفوت بريق كل المدارس الاقتصادية في بلدان العالم الثالث مع أزمة الدولة الوطنية وتراجع المشروع الوطني مع تصاعد العولمة .
وقد شكلت التجربة التونسية استثناء إذ واصلت هذه المدرسة الاقتصادية بريقها وتميزها بالرغم من تراجع كل المدارس الاقتصادية في العالم وانخراطها فيما يمكن أن نسميه التوافق أو (synthèse) بين الفكر النيو كلاسيكي أو النيوليبرالي والفكر الكيندي والذي همين على الفكر الاقتصادي العالمي منذ بداية تسعينات القرن الماضي إلى حدود الأزمة الاقتصادية العالمية لسنوات 2008.

ويمكن أن نفسر تواصل بريق المدرسة الاقتصادية التونسية بثلاثة أسباب أساسية .السبب الأول يعود إلى مواصلة ارتباطها بالعلوم الاجتماعية على خلاف عديد البلدان الأخرى التي حاول الاقتصاديون فيها التحرر من هذا الارتباط والانخراط في وهم إدراج الاقتصاد في خانة العلوم الصحيحة مثل الفيزياء .فأعطى الاقتصاديون التونسيون أهمية كبرى للتاريخ وتاريخ الأفكار والمسائل الاجتماعية مما ساهم في خصوصية مساراتهم .إلا أن هذا الارتباط أصبح مهددا في السنوات القادمة نظرا إلى أن أغلب الإصلاحات التي عرفها تدريس الاقتصاد في الجامعة التونسية ألغى الانفتاح على الإنسانيات كما يشير لذلك الأستاذ بكار غريب .وبالتالي لابد من إعادة الاعتبار لهذا الارتباط بين الاقتصاد والعلوم الاجتماعية وجعله حجر الزاوية في الإصلاحات القادمة .

السبب الثاني والذي ساهم في تواصل توهج المدرسة الاقتصادية التونسية فيهمّ تنوعها النظري.فقد حافظت هذه المدرسة على الانفتاح على كل التيارات الفكرية والنظرية والاستنجاد بها لفهم الظواهر الاقتصادية دون إقصاء .

أما السبب الثالث في تواصل بروز المدرسة الاقتصادية في بلادنا فيهم تعدد المنهجيات .فقد استعمل الاقتصاديون التونسيون المنهجيات الكمية كما المنهجيات الهيكلية والنوعية .وقد عرفت عديد البلدان الأخرى هيمنة اختيار منهجي محدد مما ساهم في تهميشها وتراجعها.وساهم بالتالي هذا التعدد والانفتاح المنهجي في تواصل بريق المدرسة الاقتصادية في بلادنا .وقد لعبت هذه العوامل الثلاثة دورا أساسيا في تواصل بروز وتميز المدرسة الاقتصادية التونسية .إلا انه وبالرغم من هذا التميز والثراء فقد غاب الاقتصاديون التونسيون عن الفضاء العام ولم ينجحوا في تكوين ثقافة اقتصادية جمعية وعقلانية على غرار الحقوقيين كما لم يقدموا مساهمة فعالة في بناء السياسات والاختيارات الاقتصادية الكبرى .

إن الإجابة عن هذا التساؤل تتجاوز مجال هذه الورقة إلا أننا سنحاول تقديم بعض الأفكار الأولية حول هذه المسالة .وفي رأيي يمكن الإشارة إلى أربعة أسباب أساسية لفهم أسباب غياب الاقتصاديين عن الفضاء العام .

• السبب الأول يعود إلى الخيار الشخصي فقد اختار عدد كبير من الاقتصاديين الابتعاد عن ضوضاء الفضاء العام والانزواء في مكاتبهم ومخابرهم .إلا أن هذا الانزواء لا يعني الانقطاع عن الفضاء العام .
وقد واصل اغلبهم المساهمة في النقاش الاقتصادي من خلال النشر لكتبهم ومقالاتهم .إلا أن القراءة والكتابة والنشر لا تتمتع بنفس التأثير كالتدخل في الإذاعات والبرامج التلفزية ليحصل الانطباع العام بغيابهم عن الفضاء العام .

• السبب الثاني فكري ويعود إلى أزمة مشروع التنمية وقد عانى الفكر الاقتصادي والاقتصاديون من هذه الأزمة وبقي على مدى العقدين الاخيرين حبيس نظرتين متناقضتين لم تساهما في تطوير تجربتنا الاقتصادية .
النظرة الأولى تهم برامح التقشف والتي تدافع عنها المؤسسات الدولية والتي تضع من التوازنات الكمية الهدف الأساسي للسياسات الاقتصادية .ولم تنجح هذه الاختيارات التي طبقتها عديد البلدان في العالم في إعادة التوازنات ولا في دفع التنمية الاقتصادية .
أما النظرة الثانية فهي النظرة النقدية للنظام الاقتصادي العالمي والتي عرفت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة مع حركات مناهضة العولمة .ولئن قامت هذه النظرة بنقد جذري هام لآليات العولمة إلا أنها فشلت في أغلب الأحيان في صياغة سياسات بديلة .
وفي ظل هذا العجز يبقى التحدي الأساسي للاقتصاديين اليوم صياغة سياسات تنمية واختيارات اقتصادية قادرة على الجمع بين حماية التوازنات الاقتصادية الكبرى وتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية والتحول الاقتصادي نحو نمط تنموي جديد .

• السبب الثالث يهم هيمنة ما يسميه مهدي عامل الفكر اليومي في الاقتصاد
فقد عرفت بلادنا كما هو الشأن في أغلب البلدان النامية تراجع الفكر الاستراتيجي للتنمية مع أزمة المديونية وتطبيق برامج التعديل الهيكلي مع المؤسسات الدولية كصندوق الدولي.وشهدت هذه المرحلة الجديدة منذ بداية التسعينات صعود الفكر الإداري (esprit gestionnaire) الذي يرفض بشدة الفكر الاستراتيجي لغياب جانبه العملي .وكانت لهذا التطور انعكاسات كبيرة إذ تراجع دور الاقتصاديين وتم حشرهم في التدريس الجامعي وفي مخابرهم النظرية وفي نفس الوقت عرفت البيروقراطية الإدارية تطورا كبيرا لتستأثر خلال العقود الأخيرة بدور ضبط السياسات الاقتصادية .إلا أن الأزمات الأخيرة والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم كانت وراء عودة الفكر الاستراتيجي في أغلب البلدان وبالتالي فتحت الباب لعودة الاقتصاديين .وأخذ هذا التطور يشهد انطلاقة في بلادنا مما يوحي بتحولات كبرى في مجال مساهمة رجال الاقتصاد في الشأن العام .

• ويهم السبب الرابع تهميش الاقتصاديين من قبل مؤسسات الدولة
لئن شهدت السنوات الأولى للاستقلال وبناء الدولة مساهمة كبيرة لرجال الاقتصاد في إدارة مؤسسات الدولة إلا أن هذا الدور شهد تراجعا كبيرا في العقود الأخيرة مقابل صعود الإداريين (les gestionnaires) .وكانت لهذا الغياب تأثيرات كبيرة إذ غاب التفكير الاستراتيجي والاستشرافي في ضبط اختيارات وسياسات الدولة .وقد غلب على مؤسسات الدولة في غياب الاقتصاديين البعد الإداري (gestion) مما جعل أغلب السياسات تعيد إنتاج القديم وغير قادرة على رسم الانكسارات (les ruptures) الضرورية في مراحل تاريخية معينة .
وقد ساهمت هذه الأسباب وغيرها في هجر أبناء أحد أهم المدارس الاقتصادية في البلدان النامية للفضاء العام وغياب الاقتصاديين التونسيين عن صياغة السياسات الاقتصادية والإجابات للخروج من صعوباتنا .وقد ساهم هذا الغياب في تأبيد الأزمات الاقتصادية وغياب التصورات الاستشرافية لبناء تجربة اقتصادية وسياسية جمعية.

وفي رأيي رأيي فإن عودة الاقتصاديين للفضاء العام – في رأيي - ضرورية اليوم أكثر من أي وقت آخر.فبناء ثقافة اقتصادية عقلانية في مواجهة سياسات التقشف والشعبويات السائدة يتطلب مساهمة جدية من الاقتصاديين لإعادة بناء الأمل وللتأكيد على أن مواصلة السقوط إلى القاع ليست قدرنا.إلا أن مساهمة الاقتصاديين وعودتهم المرجوة للفضاء العام لن تكون سهلة بل ستتطلب الكثير من الجهد والصبر وإنكار الذات .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115