والمؤسسات الدولية. كانت الازمة الأولى صحية مع جائحة الكورونا والتي شكلت على مدى سنتين اكبر تحد صحي للإنسانية منذ اكثر من قرن. ولئن مكن اكتشاف التلاقيح وحملات التلقيح الواسعة على المستوى العالمي من الحدّ من خطورة الجائحة والحذّ من حدة الفيروس وسرعة تفشيه إلا أن الانسانية لازالت تعاني اليوم من خطر تحولاته السريعة والتي تشكل تهديدا متواصلا للعالم حسب منظمة الصحة العالمية .
إثر تراجع خطر الجائحة جاء الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فيفري 2022 ليشكل تهديدا كبيرا للسلم العالمية. وقد عادت بنا هذه الحرب الى اسوإ فترات الحرب الباردة والتهديد المتواصل الذي مثلته لاستقرار العالم . وكانت هذه الحرب وراء التصاعد الكبير في التوتر في العلاقات الدولية بين روسيا من جهة وأوكرانيا وخاصة حلفائها في المعسكر الغربي مثل الولايات المتحدة الامريكية واوروبا والعديد من البلدان الأخرى .
إلى جانب انعكاساتها العسكرية والسياسية فستكون لهذه الحرب انعكاسات مالية واقتصادية كبرى حيث ستعلب دورا كبيرا في زعزعة الاسواق العالمية وفي اختلال توازنها مما سيساهم في حالة الندرة التي يعيشها الاقتصاد العالمي وفي ارتفاع الأسعار وظهور التضخم من جديد بعد سنوات من التراجع.
ولن تقف المخاطر السياسية عند الحرب الروسية الاوكرانية بل ستتواصل مع التهديدات وتنامي التوتر بين الصين والولايات المتحدة الامريكية بسبب تايوان.
والى جانب المخاطر الصحية والسياسية والعسكرية تنضاف اليوم المخاطر الاقتصادية لتشكل تهديدا جديدا يمس استقرار الدول . فالركود التضخمي او (stagflation) كما يسميه الاقتصاديون والذي ينتج عند التقاء الركود الاقتصادي بالتضخم يمثل الهاجس الأساسي الذي يقض مضاجع كل دول العالم .فقد خلق الصعود السريع للأسعار والتضخم حالة من الاحتقان والمظاهرات المرشحة للتنامي في الأشهر القادمة مما شكل تهديدا للاستقرار السياسي للدول . ولئن سارعت البلدان الغنية بتحديد وضبط برامج لدعم العائلات الضعيفة وحمايتها من الارتفاع الكبير للأسعار فإن البلدان النامية كانت عاجزة عن إيقاف غول التضخم والحد من انعكاساتها مما أدى الى تنامي الفقر والتهميش والاحتقان في نفس الوقت .
يعيش الاقتصاد العالمي منذ نهاية سنة 2021 على وقع تهديد جديد للاستقرار العالمي ولأمن الدول وبالرغم من السياسات التي صاغتها اغلب دول العالم من اجل إيقاف الركود التضخمي ودفع الاقتصاد تنشيط النمو فإن تقديرات اغلب المؤسسات الدولية تشير الى ان هذا الاتجاه سيتواصل في السنوات القادمة ليشكل خطرا جديدا على الاقتصاد العالمي.
وسنحاول في هذه الورقة القيام بقراءة نقدية للسياسات النقدية الي وضعتها اغلب بلدان العالم وبنوكها المركزية وبحث قدرتها على الخروج من الوضع العادي الجديد او (new normal) للاقتصاد العالمي . وهذه القراءة ليست من قبل الترف الفكري او النظري الذي يحبذه الاقتصاديون بل هي أساسية لفهم قدرة الاختيارات الكبرى للبلدان لحماية استقرارها السياسي والاجتماعي .
• الركود والتضخم: الثنائي الأخطر
على الاقتصاد
اشارت اغلب التقارير الاقتصادية للمؤسسات الدولية الى دخول الاقتصاد العالمي في لحظة ومرحلة تاريخية جديدة منذ نهاية سنة 2021.وتميزت هذه اللحظة بتزامن ظاهرتين اقتصاديين خطيرتين وهما الركود وتراجع مستوى النمو من جهة والارتفاع الكبير للأسعار وبداية هروب التضخم من عقاله .
والملاحظة الثانية التي توقفت عندها اغلب التقارير الدولية تهم الميزة العالمية لهذه الظاهرة. فالركود التضخمي الذي نعيش على واقعه لا يقتصر على بلد معين أو جهة معينة من العالم .فاغلب بلدان العالم الغنية منها والنامية والفقيرة تعاني من هذه الازمة الاقتصادية الحادة .
وقد اشارت أغلب التقارير الدولية الى تراجع النمو العالمي خلال سنة 2022 حيث سينزل من 6،1 ٪ خلال سنة 2021 إلى 3،6 ٪ خلال هذه السنة بالنسبة للعالم .وهذا الركود لن يكون مقتصرا على جهة معينة بل سيكون ظاهرة عالمية ستعيشها اغلب بلدان العالم . فالبلدان المتقدمة ستخسر نقطتي نمو بين 2021 و2022.وتراجع النمو سيكون اكبر للبلدان النامية في نفس الفترة حيث ستصل الى ثلاث نقاط نمو من %6.8 الى %3،8 بين سنتي 2021 و2022.
والى جانب الركود يعرف الاقتصاد العالمي ارتفاعا كبيرا للتضخم منذ نهاية 2021.وقد عرفت البلدان المتقدمة مستويات عالية للتضخم لم تعرفها منذ عقود حيث تجاوزت %8 في الولايات المتحدة الامريكية بينما تجاوز المعل السنوي للتضخم في البلدان الأوروبية %9 .ويشكل التطور الكبير للتضخم في البلدان المتقدمة تحولا كبيرا وقطيعة في الوضع الاقتصادي حيث كانت هذه البلدان تعاني من الضعف الشديد للتضخم مما دفعها لتطبيق سياسات نقدية توسيعية لدفع النمو والوصول الى نسبة %2 من التضخم والتي اعتبرتها البنوك المركزية مؤشرا صحيا .
ولم يقتصر التطور الكبير للتضخم على البلدان المتقدمة بل دخلت اللبدان النامية في هذه العاصفة التضخمية. ولئن تشير ارقام التقارير الدولية وخاصة احصائيات صندوق النقد الدولي أن معدل التضخم في البلدان النامية سيكون بمستوى %9 سنة 2022 فإن الكثير من البلدان النامية تشهد ارتفاعا جنونيا مما اصبح يشكل تحديا وتهديدا لاستقرارها السياسي .
للتأكيد على مخاطر التضخم وصعوبة التعاطي معه عند صانعي السياسات الاقتصادية فإن الاقتصاديين غالبا ما يعودون الى الصورة التي رسمها المحافظ السابق للبنك المركزي الألماني كارل اوتو بوهل والذي صرح في 1980 «ان التضخم كمعجون الاسنان إذا خرج من أنبوبه يصعب ارجاعه».
يشكل هذا الوضع الاقتصادي الجديد تحديا للدول والاقتصاديين والذي انطلقوا في محاولة تحديد أسبابه العميقة لوضع السياسات الضرورية لكبح جماح هذا الغول والمحافظة على استقرار الدول.
• في أسباب التضخم اليوم
عرفت مسألة التضخم واسبابه قراءات كثيرة ومتعددة في بعض الأحيان ومتناقضة عند الاقتصاديين وفي كبرى النظريات الاقتصادية. إلا أن نقطة الالتقاء بالرغم من الاختلافات هي ارتباط التضخم واسبابه بظروف تاريخية ساهمت في تطوره وديناميكيته.
وقد أكدت الدراسات التاريخية التي قام بها المؤرخون ارتباط اهم فترات التضخم في التاريخ الحديث بالتوترات الدولية وبصفة خاصة الحروب الكبرى التي لعبت دورا كبيرا في زعزعة الأسواق العالمية وانخرام توازناتها لكبرى .
ويشير المؤرخ ميشال بيار شليني (Michel Pierre chelini) الى وجود ثلاث فترات تضخمية كبرى في التاريخ الحديث ارتبطت كل منها بحرب كبرى وصراعات بين الدول . وقد امتدت المرحلة التضخمية الأول من 1914 الى 1926 وارتبطت ارتباطا وثيقا بالحرب العالمية الأولى والتي لعبت دورا كبيرا في تدمير الاقتصاد الأوروبي وفي التراجع الكبير للتجارة الدولية جراء الحرب .
اما الفترة التضخمية الثانية التي عرفها الاقتصاد العالمي فقد امتدت من سنة 1936 الى سنة 1952 حيث عرفت الأسعار ارتفاعا جنونيا وصل الى معدل 25 مرة في فرنسا . وكما هو الشأن بالنسيبة للفترة التضخمي الأولى فقد ارتبطت هده الفترة بالحرب العالمية الثانية والتدمير الكبير الذي عرفه الاقتصاد العالمي وانقطاع التجارة الدولية وظهور المضاربة في أغلب الأسواق .
وقد ارتبطت المرحلة التضخمية الثالثة والتي امتدت من 1970 الى 1986 بحربين هامتين: الصراع العربي الصهيوني وحرب 1973 ثم الحرب العراقية الإيرانية منذ1980.
وهكذا تلعب الحروب والصراعات الكبرى دورا هاما في تأجيج التضخم والارتفاع الكبير للأسعار في الاقتصاد العالمي. وقد ساهمت اليوم الحرب الروسية الأوكرانية والتوتر السياسي والاستراتيجي الذي يشهده العالم في دعم التضخم والارتفاع المرعب للأسعار الذي يعيشه الاقتصاد العالمي منذ مدة وساهمت هذه الحرب في الارتفاع الكبير لأسعار الطاقة مثل النفط والغاز واسعار المواد الفلاحية كالحبوب.ومن جهة أخرى لعب التدمير الذي عرفته أوكرانيا في النقص والشح الذي تعرفه الأسواق العالمية في هذه المواد. إلا أنه وإلى جانب الحرب والصراعات التي يشهدها العالم والتي لعبت دورا اساسيا في زعزعة توزان الاسواق العالمية ساهمت ظروف تاريخية جديدة في انفلات توازن العرض والطلب وفي الارتفاع الكبير للأسعار وفي دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة جديدة سمتها دعم الاستقرار ومن ناحية العرض يمكن الإشارة الى مسالتين هامتين ساهمتا في تراجعه وخلقتا ما يسميه الاقتصاديون صدمة عرض (choc d’offre) المسألة الأولى تخص أزمة العولمة وانخرام سلاسل الإنتاج العالمية او les chaines de valeur mondiale نتيجة جائحة الكورونا والحجر الصحي الذي عرفته أغلب بلدان العالم مما أثر بطريقة كبيرة على التوزيع العالمي للإنتاج وخلق حال من الندرة والنقص لازالت تعاني منها اغلب القطاعات الاقتصادية. وقد دفعت ازمة العولمة اغلب البلدان الى البحث عن تنظيم جديد للاقتصاد يعتد على التوزيع الإقليمي للأنشطة. إلا ان هذه الهيكلة الجديدة للاقتصاد العالمي لم تتجاوز مرحلة التجريب لتتواصل معها معضلة العرض .
أما المسالة الثانية والتي ساهمت في تراجع العرض في الاقتصاد العالمي فتعود الى التغيير المناخي وانعكاساته على الاقتصاد فقد عرف العالم في السنتين الأخيرتين تصاعد وتيرة الفيضانات والعواصف والحرائق والتصحر والقحط والجفاف .وكان لهذه العوامل الطبيعية تأثير كبير على الوضع الاقتصادي وبصفة خاصة على الإنتاج الفلاحي والصناعي وعلى حسن تزويد الأسواق مما اثر سلبا على مستوى العرض.
وبالرغم من التراجع الكبير الذي عرفه العرض فقد بقي مستوى الطلب مرتفعا مما ساهم في انخرام توازن الأسواق العالمية. ولعبت السياسات المالية والنقدية التوسعية التي وضعتها اغلب بلدان العالم لمواجهة الانكماش الاقتصادي في فترة الكورونا دورا أساسيا في الحفاظ على مستوى عال للطلب في الاسواق العالمية .
وقد لعبت جملة هذه العناصر السياسية والاقتصادية دورا أساسيا في صعود الركود التضخمي الذي يشهده العالم والذي اصبح يهدد استقرار الدول . الا أن النقاش حول أسباب التضخم له انعكاسات سياسية كبرى لأنه سيحدد طبيعة السياسات الاقتصادية التي ستتم صياغتها لمواجهته.
وقبل الحديث عن السياسات لابد من الوقوف عند الانعكاسات السياسية والاجتماعية للركود التضخمي والتي تشكل الخطر الأهم اليوم على اغلب بلدان العالم وبصفة خاصة البلدان النامية مثل بلادنا .
• في مخاطر الركود التضخمي
كلما ناقش الاقتصاديون المخاطر السياسية والاجتماعية للركود التضخمي وعاودا الى تجربة جمهورية قايمر (Weimar) في المانيا والتي أتت مباشرة اثر هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى في 1918 وتواصلت الى حدود 1933 عندما انتفض هتلر على الرايشتاغ او البرلمان الألماني ليعطي ضربة البداية للنظام النازي والتجربة المريرة التي ستعيشها المانيا والعالم مع مآسي الحرب العالمية الثانية .
وقد ساهم الركود التضخمي وخاصة الارتفاع المرعب للأسعار والذي بلغ ثلاثة ارقام بين سنوات 1921 و1924 في اضعاف النظام الديمقراطي في جمهورية قايمار وفتح الباب على مصراعيه للنازية.ومنذ ذلك الوقت مع تلك التجربة المريرة اصبح التضخم العدو اللدود والخطر الأكبر في الوعي الجماعي الألماني. ومنذ ذلك الوقت أصبحت النخب الألمانية والاقتصاديون بمختلف تلويناتهم السياسية من اليمين الى اليسار رافضين كل السياسات التي من شانها ان تساهم في ظهور التضخم وبصفة خاصة السياسات النقدية والمالية التوسعية .
ومنذ تلك التجربة صار الركود التضخمي احد الامراض الكبرى للاقتصاديات الحديثة والتي تتابعها الحكومات والدول لتفادي انعكاساتها الاجتماعية والسياسية وتأثيرها المباشر على استقرار الدول وعلى أمنها .
وقد باتت الانعكاسات السلبية للركود التضخمي تبرز للعيان بالرغم من كونه في مراحله الأولى. فقد اشارت تقارير البنك الدولي إلى ان 23 مليون من سكان الوطن العربي سيدخلون تحت مستوى الفقر سنة 2022 كما اشار البنك الدولي الى ان ارتفاع الأسعار للمواد الغذائية ب%1 ينتج عنه 500.000 فقير جديد في العالم .
وقد دفعت هذه الاوضاع الاقتصادية عديد البلدان المتقدمة الى وضع حزمة من الاجراءات الاجتماعية من اجل التخفيض من انعكاسات الارتفاع الكبير للأسعار على الفئات الاجتماعية الضعيفة.
الا ان البلدان النامية لم تكن قادرة على القيام بنفس السياسات وكبح جماح التضخم نظرا لتردي توازناتها المالية الكبرى وللارتفاع الكبير في مديونيتها اثر السياسات الانعاشية التي قامت بتطبيقها مع جائحة الكوفيد .
بالرغم من محاولات الدول الغنية التخفيف من عبء الارتفاع الكبير للأسعار خلقت مرحلة الركود التضخمي وضعا اجتماعيا مترديا يهدد بالانفجار وبالتالي ضرب الاستقرار السياسي لأغلب دول العالم .
الا ان خطورة الركود التضخمي لا تقف عند انعكاساتها الاجتماعية بل تعود الى المرحلة الجديدة التي تفتحها ديناميكية التاريخ الاقتصادي تتميز بالهشاشة واللبس وعدم الاستقرار .
• الركود التضخمي لحظة جديدة في التاريخ العالمي
ان ارتدادات الركود التضخمي لا تقف عند انعكاساتها الاجتماعية بل هي تعبيرة على نهاية مرحلة تاريخية هينة من تاريخ الاقتصاد العالمي في تفتح الباب للدخول في مرحلة جديدة .فالركود التضخمي يشير الى التطورات والتحولات الاقتصادية الكبرى التي تعتمل على احشاء النظام الرأسمالي وتهيئ للدخول في مرحلة جديدة في تقديري اكثر تقلبا وغموضا وبالتالي عدم استقرارا.
ويمكن لنا في قراءة سريعة لتطور الاقتصاد العالمي ان نشير الى فترتين مهمتين عرفهما العالم منذ بداية سبعينات القرن الماضي الى يومنا هذا .
المرحلة الأولى والتي امتدت من بداية سبعينات القرن الماضي الى بداية القرن (1970 - 2005) والتي كانت نهاية النظام الفوردي او الدولة الوطنية ودولة الرفاه والانخراط في هذه المرحلة كبديل لازمة الاقتصاد الوطني . وقد عرفت هذه المرحلة عديد التطورات الكبرى والتحولات في عديد المجالات وفي تنظيم الاقتصاد وتطور القطاعات الإنتاجية وتوزيعها على المستوى العالمي مع ظهور قطاعات جديدة وذلك على مستوى السياسات الاقتصادية الكبرى . فشاهدنا صعود الخطاب النيوليبرالي وتراجع الدور التعديلي للدولة لفائدة السوق وأزمة القطاعات الصناعية التقليدية لفائدة قطاعات جديدة مرتبطة بالتكنولوجيا .
كان لهذه التطورات انعكاسات اقتصادية كبيرة على مستوى التوازنات الكبرى للاقتصاد العالمي . فقد عرف النمو تراجعا كبيرا عن المستويات التي عرفتها خلال العصر الذهبي للاقتصاد العالمي كما عرفت اغلب بلدان العالم ارتفاعا كبيرا للتضخم نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وقوة النقابات والطبقة العاملة التي طالبت بربط الزيادات في الأجور بالتضخم وقد جاءت السياسات الاقتصادية الموغلة في النيوليبرالية في المجال النقدي والمالي بصفة خاصة في بداية ثمانينات القرن الماضي لإيقاف انخرامات الاقتصاد الكلي . الا ان هذه السياسات والاختيارات لم تنجح في تنشيط الاقتصاد حيث بقي النمو ضعيفا ولكنها اضافت تحديات جديدة مثل تنامي التهميش الاجتماعي والتفاوت الاجتماعي وتردي الوضع البيئي مع الارتفاع الكبير للانحباس الحراري .تزامنت هذه المرحلة التاريخية والركود التضخمي مع فترة كبيرة من التقلبات والغموض وعدم الوضوح .
وستفتح ازمة المالية العالمية لسنة 2008 فترة جديدة في تاريخ الاقتصاد العالمي ستمتد الى نهاية 2021. الدول والمؤسسات الدولية خلال هذه الفترة وستحاو إعادة بناء استقرار اقتصادي من خلال دور تعديلي اكبر للدولة ومحاولة بناء اقتصاد عالمي اكثر صلابة من خلال توزيع اكثر واقعية لسلاسل الإنتاج العالمية .
حتى وإن لم تنجح السياسات الاقتصادية للتوسيعية في هذه الفترة الثانية (2008 - 20021) في نشيط الاقتصاد ودفع التنمة والتقليص في الفوارق الاجتماعية وتحسين الوضع المناخي فقد تمكنت من خلق جو من الاستقرار والتوازن في الاسواق ساهم في التحكم في الأسعار والمحافظة على التوازنات المالية العالمية مما ساهم في دعم الوضوح والثقة .
ويفتح الوضع العالمي اليوم صفحة تاريخية جديدة تتميز بعدم الاستقرار وغياب وضوح الرؤيا. والركود التضخمي الذي تعيشه ليس الا التعبيرة الواضحة عن هذه المرحلة التاريخية الجديدة .
وفي رايي فإن قراءة الأسباب المباشرة من جهة والهيكلية والتاريخية من جهة اخرى هي ضرورية لتحديد السياسات لمجابهة الركود التضخمي .
• لحظة فولكور وسياسات مجابهة الركود التضخمي
كلما ظهرت فترة ركود تضخمي ونظر الاقتصاديون الى لحظة فولكور . وبول فولكلور (Paul volcler) وهو رئيس الاحتياطي الفديرالي او البنك المركزي الأمريكي وقد عينه الرئيس الأمريكي وقتها جيمي كارتر سنة 1979.وكانت امريكا وقتها واغلب الاقتصاد العالمي يمران باحلك فترات والتضخم والذي لم تقدر السياسات المالية والنقدية وقتها القضاء عليه. وقرر فولكور وعند تعيينه اتباع سياسة نقدية راديكالية للقضاء على التضخم فقام بالترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ%19،5 في بجداية 1980 .
كانت لهذه الاختيار الراديكالي انعكاسات اقتصادية كبيرة على الاقتصاد الامريكي الذي عرف فترتين حادتين من الانكماش الاقتصادي في النصف الأول لسنة 1980 ثم من جويلية 1981 الى نوفمبر 1982. وكان لهذا التراجع الاقتصادي انعكاس كبير على التشغيل حيث بلغت نسبة البطالة مستوياتا تاريخية مرتفعة قدرت بـ%10.8 وذكرت الأمريكيين بالسنوات السوداء لازمة 1929.
الا ان هذه السياسة النقدية الراديكالية مكنت بول فولكور من القضاء على التضخم حيث نزلت نسبته من %14.8 في ماي 1980 الى %2.5 في جويلية 1983.
ومنذ تلك التجربة صار الاقتصاديون وصانعوا السياسات المالية والنقدية ينظرون الى لحظة فولكلور كلما اشتد بهم الحال وعرف التضخم تصاعدا كبيرا .
وبالفعل فقد بدأت اغلب البنوك المركزية في الخروج من السياسات النقدية التوسعية التي وضعتها منذ «2008 وكانت البداية للفدرالي الأمريكي الذي بدا في تغيير سياساته النقدية وانطلق في الترفيع في نسبة الفائدة المديرية منذ مارس 2022 لتتواصل بطريقة تدريجية ويأخذ البنك المركزي الأوروبي نفس المنحى بداية من شهر جويلية 2022 ليكون اول ترفيع في فائدته المديرية منذ 2011 . وواصل البنك المركزي الأوروبي نفس التمشي مع وضع سياسة لحماية اكثر ابلدان مديونية وبصفة خاصة إيطاليا لحمايتها من الانعكاسات الخطيرة للترفيع في نسبة الفائدة على مديونيتها .
ولم يقتصر هذا التغيير في السياسات النقدية على البلدان المتقدمة بل شكل اتجاها لأغلب البنوك المركزية في العالم . فقد اشار صندوق النقد الدولي الى ان 75 بنكا مركزيا في العالم قامت بترفيع في نسب الفائدة . وكانت لهذه الزيادة اهم في البلدان النامية مما يشير الى ان نسبة التضخم كانت اكثر ارتفاعا .
كان لظهور الركود التضخمي تأثير كبير على السياسات النقدية لأغلب البنوك المركزية في العالم حيث بدأت في الخروج من السياسات التوسعية الى سياسات اكثر صرامة من خلال الترفيع في نسب الفائدة المديرية . الا ان هذا المنحى لم يأخذ طابعا راديكاليا كما كان الشأن في لحظة فولكور بل كان اكثر واقعية وبراقماتية من خلال الترفيع بطريقة تدريجية في نسب الفائدة .
وبالرغم من واقعيته وبراقماتيته فقد لاقى هذا التغيير في السياسات النقدية من حيث قدرت على مجابهة الركود التضخمي . فقد اكد الكثير من الاقتصاديين ان هذه السياسات الجديدة لن تساهم في التقليص من التضخم العالمي باعتبار ان الأسباب الأساسية تعود الى ارتفاع أسعار المواد الأولوية نتيجة الحرب والتوترات في الاوضاع الدولية كما ساهمت أزمة العرض وتراجعها في الاتجاهات التضخمية العالمية . وفي هذا الاطار فإن السياسات النقدية الجديدة والترفيع في نسب الفائدة لن تكون ذات تأثير كبير على التضخم بل لن تزيد الطين الا بلة باعتبار تأثيرها السلبي على الاستثمار وبالتالي النمو والعرض .
كما يمكن ان نشير الى التأثير السلبي لهذه السياسات على المديونية حيث ان الترفيع في نسب الفائدة سيساهم في ارتفاع كل أنواع الديون وبصفة خاصة الدين العمومي للبلدان النامية
وأشارت كذلك عديد الدراسات الى ان ارتفاع نسب الفائدة في البلدان المتقدمة كانت وراء هروب رؤوس الأموال وخروجها من البلدان النامية والتي بلغت بالمعدل الشهري في جوان 2022 بأكثر من 10 مليار دولار لأربعة اشهر متتالية وهي اكبر نسبة منذ 2015.
كما شملت المخاوف المجال المالي حيث اصح الكثير من الملاحظين يتوقعون الدخول في اضطرابات مالية كبرى في الاسواق المالية نتيجة ارتفاع نسب الفائدة .
تفتح مرحلة الركود التضخمي فترة جديدة فيها الكثير من المخاوف والتردد الذي سيساهم في التساؤلات والشكوك على قدرة السياسات الاقتصادية المتبعة على مواجهتها.
• الركود التضخمي لبلادنا
ككل البدان المنفتحة على العالم دخلت بلادنا في فترة الركود التضخمي. فقد عرفت نسبة النمو تراجعا كبيرا حيث لم تتجاوز %1.7 خلال العشرية المنقضية. وكان لجائحة انعكس كبير على الاقتصاد حيث عرفت بلادنا اكبر فترة انكماش في تاريخنا الحديث بلغت %8.8 الا ان لنمو سنة 2021 لم يبلغ مستوى علا كما كان الشأن للبلدان ال أرى حيث لم يتجاوز 3.1 %
ولئن بقي التضخم في مستويات متوسطة في السنوات الاخيرة الا انه شهد ارتفاعا كبيرا في الأشهر الأخيرة بلغ %8.6 في شهر اوت .
وكان رد البنك المركزي واقعيا حيث قام بالترفيع في الفائدة المديرية لمرة واحدة بـ75 نقطة اثر اجتماع مجلس الإدارة في 17 ماي 2022 .
ولئن بقيت التأثيرات المباشرة لهذا القرار على التضخم محدودة نظرا للارتباط بصفة رئيسية بالخارج فإنه سيساهم في الحد من الاستهلاك وبالتالي من التوريد وسيساهم في المحافظة على نسبة هامة من احتياطي العملة .
إلا ان التحدي يبقى قائما ويتطلب تحديد سياسات بين كل مؤسسات الدولة من اجل الخروج من هذه الازمة وبأخف الاضرار .
• طريق الإنقاذ
يعيش الاقتصاد العالمي فترة جديدة تتميز بالركود التضخمي الذي يشكل أحد المخاطر الكبرى التي تهدد استقرار الدول. وطريق الإنقاذ يمر في رايي في الخروج من السياسات التقليدية والاجابات الجاهزة وتغليب الابتكار والتغيير في ضبط السياسات من اجل دعم الاستقرار ودفع الاستثمار وتنشيط الاقتصاد .