أي سياسات لبناء العقد الاجتماعي ؟

شكل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD) صوتا مخالفا ومنشقا (dissident) في بعض الأحيان في المنظومة الدولية

حول قضايا الاقتصاد والتنمية والمسائل الاجتماعية.
وقد برزت الخصوصية والرؤيا المختلفة لهذه المنظومة خاصة في منتصف الثمانينات مع المنعطف والتحول النيوليبرالي الذي عرفه العالم اثر أزمة مشروع دولة الرفاه التي شكلت الإطار السياسي والاقتصادي للدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد ساهمت ثلاث تطورات كبرى في هذا المنعطف الراديكالي للاختيارات الكبرى والسياسات العمومية .أما المعطى الأول فهو سياسي ويهم العودة القوية للقوى اليمينية في أغلب البلدان الديمقراطية اثر فشل وتراجع أحزاب اليسار والاشتراكية الديمقراطية .أما المعطى الثاني فيعود إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي بدأت تتخبط فيها أغلب الدول الكبرى مع تنامي الكساد والتضخم .إلى هذين العالمين لابد من إضافة عامل ثالث وهو أزمة المديونية والتي انطلقت من المكسيك في أوت 1982 لتشمل أغلب بلدان العالم الثالث ولتصبح الشغل الشاغل لكل المؤسسات الدولية لانخراط أغلب البنوك الكبرى فيها .
وكانت هذه التطورات الكبرى وراء ثورة فكرية على عديد المستويات ومن ضمنها المجال الاقتصادي حيث أخذ التيار النيوليبرالي مكان التيار الاشتراكي الديمقراطي فأصبح التيار الفكري المهمين في التحليل والقراءات في تحديد السياسات العمومية والتي ستصبح التوازنات المالية الكبرى شغلها الشاغل .
وكانت هذه الثورة المضادة كما سماها عتاة المفكرين النيوليبراليين وراء تحول كبير في الفلسفة والاختيارات الكبرى للمؤسسات الكبرى التي ستنخرط في هذا التوجه الجديد وفي وضع التوازنات المالية الكبرى في أولى اهتماماتها وترمي عرض الحائط بالمسائل الاجتماعية وأهمية الحفاظ غلى العقد الاجتماعي كأساس للاستقرار السياسي .
ولعل مجال التنمية والسياسات الاقتصادية في البلدان النامية سيكون من المجالات التي ستعيش هذه الثورة المضادّة بكل قوة مع ضبط برامج التعديل الهيكلي من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والتي ستصبح شرط دعم المنظومة الدولية للبلدان النامية.ورغم الانعكاسات الاجتماعية السلبية والخطيرة على البلدان النامية وضعف نتائجها إلا أن أغلب المؤسسات الدولية دعمت هذه السياسات النيوليبرالية .
وفي هذا الجو العام المحافظ والذي شهد هيمنة السياسات النيوليبرالية التي عبّرت عن رفضها في كثير من الأحيان بطريقة فيها الكثير من العجرفة للأصوات المغايرة والبديلة كان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD) الصوت النشاز الوحيد في المنظومة الدولية والناقد لتوافق واشنطن (consensus de Washington) السائد حينها .فقد أكدت هذه المنظومة منذ نهاية الثمانينات على الانعكاسات الاجتماعية الخطيرة لبرامج التعديل الهيكلي ونشرت عديد التقارير النقدية.وكانت هذه المواقف وراء توترات كبيرة بين PNUD وعديد المؤسسات العالمية الأخرى خاصة الحاملة لبرنامج التعديل الهيكلي وتوافق واشنطن أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في نهاية ثمانينات القرن الماضي وبداية التسعينات .
وأكد الـ PNUD هذا التمشي الخصوصي والرافض للسياسات النيوليبرالية في بداية التسعينات من خلال إصداره لتقرير التنمية البشرية سنة 1995.
وقد أكد هذا التقرير في ذروة الثورة النيوليبرالية على أن التوازنات المالية على أهميتها لا يمكن أن تكون هدفا في حدّ ذاتها لعملية التنمية .بل أكد هذا التقرير على فلسفة هذه المنظمة والتي تعتبر أن الإنسان وتنمية طاقاته البشرية يكون من خلال الصحة والتعليم والتوازن الاجتماعي وهي الأهداف والأساسية للتنمية والعملية الاقتصادية بشكل عام .
وقد أكد التاريخ صواب هذا التمشي مع انهيار توافق واشنطن لتصبح التنمية البشرية والمستدامة أساس السياسات الاقتصادية السائدة اليوم من خلال أهداف التنمية المستديمة (les objectifs du développement durable) .ونجح الصوت المختلف أو النشاز في نهاية ثمانينات القرن الماضي في أن تكون فلسفته أساس الاختيارات الكبرى للتنمية اليوم .
ويمكن أن نشير إلى تجربة أخرى كانت وراء إشعاع منظمة PNUD وهي تجربة اصدار تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية سنة 2002.وكان هذا التقرير وراء الكثير من النقد والجدل وحتى الرفض من العديد من البلدان العربية والتي طالب عدد منها بايقاف اصدار هذا التقرير .وجاء هذا الرفض نتيجة المحتوى الشجاع الذي تضمنه التقرير في تحليله لوضع المنطقة العربية .ففي الوقت التي أكدت فيها أغلب البلدان العربية على نجاحها في عملية التنمية حيث أصبحت أغلبها في مصاف الدول المتوسطة جاء هذا التقرير ليغرد خارج السرب ويؤكد أن المنطقة العربية تعاني من قصور هام وعجز كبير على ثلاثة مستويات على الأقل وهي الحريات السياسية وحقوق المرأة والعلم .
وقد أثار هذا التقرير الكثير من النقد والكثير من المشاكل السياسية لمنظمة PNUD ولمختلف فرق الإشراف والصياغة .وكانت هذه المشاكل وراء إيقاف نشر تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية لبعض السنوات .إلا أن التاريخ أنصف من جديد المنظمة مع ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس في نهاية 2010 لتصبح القضايا التي رفعتها مختلف هذه التقارير كالحرية والشغل والعقد الاجتماعي في أولى أولويات الثورات العربية.
لأهمية صوت هذه المنظمة وخصوصيته في المنظومة الدولية وخروج مقترحاته عن السائد ومحاولته فتح الأبواب الموصودة فإن مختلف تقارير PNUD وخاصة منها التي تهتم بالمنطقة العربية كانت دائما محل اهتمام من الفاعلين السياسيين والمفكرين .
فهل كان تقرير التنمية البشرية للمنطقة العربية لسنة 2022 والصادر منذ أيام في مستوى هذه التطلعات ؟
• أولويات التنشيط الاقتصادي وبناء العقد الاجتماعي
في تقرير التنمية البشرية 2022
اهتم التقرير الجديد للتنمية البشرية 2022 (PNUD ) الصادر منذ أيام بقراءة وتحليل الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية خاصة بعد جائحة كورونا .ولئن تم إعداد التقرير قبل بداية الحرب في أوكرانيا إلا أن المحررين يؤكدون انها لم تغير بطريقة راديكالية في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة وإن زادت من حدته .
جاء هذا التقرير ليؤكد ما ذهبت إليه أغلب التقارير الدولية حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية من ترد للنمو وتراجعه بطريقة كبيرة في اغلب البلدان العربية مع تعمق الأزمة الاجتماعية من ارتفاع كبير للبطالة والتهميش والتفاوت الاجتماعي والجندري .
وتكمن أهمية هذا التقرير وخصوصيته في المقترحات التي قدمها لإنعاش الاقتصاد وإعادة بناء العقد الاقتصادي في المنطقة العربية .وقد جاءت هذه المقترحات في أربعة محاور كبرى .
يهم المستوى الأول مسألة الحوكمة وضرورة بناء مؤسسات فعالة وقادرة على انجاز التحولات والإصلاحات الكبرى .
المسألة الثانية تخص التحولات الاقتصادية وضرورة مواصلة تنويع الهياكل الاقتصادية وبناء نظام تنمية متحرر من اقتصاد الريع .
المحور الثالث هو المحور الاجتماعي ويهم ضرورة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية كالتعليم والصحة والسعي الى إعادة بناء العقد الاجتماعي .
أما المحور الرابع فيهم قضايا المناخ وضرورة إعطائه الأهمية الكافية من خلال سياسات نشيطة لمحاربة الانحباس الحراري .
إن المقترحات التي قدمها هذا التقرير مقترحات هامة وأساسية .إلا أن هذه المقترحات تبقى عامة مما يجعلها تظل داخل التوافق المحافظ السائد اليوم وبالتالي تفادت وابتعدت عن القضايا التي من شأنها أن تثير الجدل والتي تتم مناقشتها حتى داخل المؤسسات الكبرى مثل مجموعة السبع الكبار كقضية المديونية وتمويل البلدان العربية من خلال توسيع استعمال حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد للبلدان المتقدمة .
إن إعادة بناء العقد الاجتماعي هي مسألة أساسية ومحورية لمستقبل المنطقة .إلا أن هذا البناء يتطلب الخروج عن السائد وعن السياسات التي تعيد إنتاج نفسها منذ سنوات والتي عجزت على فتح آفاق جديدة للمنظمة .فبناء العقد الاجتماعي يتطلب الكثير من الجرأة الفكرية والشجاعة في صياغة المقترحات والسياسات الجديدة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115