حتى تكون نقطة انطلاق للتعاون السياسي والاقتصادي بين مختلف الأقطاب الاقتصادية .وترتكز عملية البحث على بعض الثوابت الأساسية والتوجهات الكبرى .وتؤكد أغلب التحاليل من جهة أن الخروج من أزمة العولمة الحالية لن يكون بإجراءات إصلاحات ضعيفة أو مواصلة المشروع الذي فتحته منذ بداية ثمانينات القرن الماضي .بل أن بدء نمط اقتصادي وسياسي جديد يتطلب القطع بطريقة جذرية مع نمط العولمة النيوليبرالية السائد إلى يومنا هذا .
وفي نفس الوقت تشير أغلب القراءات والتحاليل اليوم إلى أن الخروج من أزمة العولمة النيوليبرالية لن يكون بالعودة إلى مشروع الدولة الوطنية كما تنادي بذلك عديد القوى السياسية المناهضة للعولمة .فهذه العودة تبدو اليوم صعبة المنال نظرا للتطورات الكبرى التي عرفها العالم على عديد المستويات التكنولوجية والاقتصادية والتجارية .كما أن العودة إلى مشروع الدولة الوطنية يبدو صعبا مع تطور الذهنيات والأنماط التعاقدية والفكرية وحتى طريقة العيش والتي أصبح العالم أفقها .وفي هذا الاتجاه فإن أهم نجاح حققته العولمة النيوليبرالية هي نجاحها في تركيز فكرة أساسية في المخيال الجمعي العالمي وخاصة لدى الشباب وهي أن العالم قرية صغيرة .وتكمن أهمية هذه الفكرة في أنها أصبحت قناعة أساسية لا فقط عند القادمين من البلدان الغنية والقادرين على التجول في كل بلدان العالم بل كذلك عند القادمين من البلدان الفقيرة والممنوعين من السفر والذين نجحوا في تحدي عقبة الحدود من خلال الإبحار على أمواج السوشيال ميديا .
انطلق النقاش والبحث عن مستقبل العالم خارج هذين المشروعين ودخل مجالا جديدا في البحث عن طريق ثالث يحقق التوازن بين الانفتاح الضروري على العالم وفي نفس الوقت المحافظة على جزء من السيادة الوطنية لحماية العقد الاجتماعي .كذلك أشارت الدراسات والتفكير حول العالم القادم الى ضرورة أن يأخذ الطريق الثالث للعولمة عديد التوازنات الهامة والكبرى كالتوازنات المناخية والتوازنات الاجتماعية .
ولئن انطلق التمحيص والبحث عن هذا الطريق الثالث منذ الشرارات الأولى لأزمات العولمة وخاصة مع الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 ،الا إن جائحة الكوفيد 19 هي التي أعطت دفعا جديدا لكل هذا الجهد الفكري في تصور ونحت معالم العالم الجديد.فعرفت الدراسات ومحاولات التفكير حول المستقبل تزايدا مهما في السنتين الأخيرتين.وكان هذا البحث والتفكير وراء ظهور وبروز فكرة بناء العولمة على مستوى إقليمي كطريق ثالث لمستقبل العالم .
وقد أصبح هذا المفهوم أو العولمة على المستوى الإقليمي من خلال سلاسل الإنتاج الإقليمية أو الجهوية (les chaines de valeur régionale) في جوهر النقاش الفكري حول مستقبل العالم والشغل الشاغل لمراكز التفكير والبحث في العالم .
ورغم العديد الكبير من الدراسات والبحوث التي تم انجازها حول هذا الموضوع فقد بقيت في أغلبها فكرية ونظرية ولم تحاول إعطاء محتوى عملي للطريق الثالث للعولمة.وبقيت العولمة الجديدة على مستوى الرؤى والتصورات الكبرى ولم تتحول الى سياسات .
وفي هذا الإطار نود تقديم إحدى الدراسات التي حاولت إعطاء محتوى عملي وترجمة هذا المشروع المستقبلي إلى سياسات عمومية .وقامت مؤسسة التعاون والنمو الاقتصادي (OCDE) والتي مقرها بباريس بالتعاون مع منظمة الوحدة الإفريقية التي مقرها اديس أبابا بإعداد دراسة مهمة في هذا المجال ستساهم
ولاشك في تجاوز النقص في هذا المجال .وقد صدرت هذه الدراسة الهامة منذ أيام تحت عنوان »
«Dynamiques développement -en Afrique 2022
les chaines de valeurs régionales pour une reprise durable»
أو ديناميكية التنمية في إفريقيا – سلاسل إنتاج إقليمية من أجل تنمية مستدامة «.وكان الجامعي التونسي والصديق آرام بلحاج من ضمن الفريق الذي حرر هذه الدراسة المهمة .
وقد أكد هذا التقرير على عديد المسائل في علاقة بالقارة الإفريقية وفي سبل استفادتها من هذا الطريق الجديد للعولمة ومن تنظيم سلاسل الإنتاج على المستوى الإقليمي .
وسأتوقف في هذا المجال على ثلاث مسائل أساسية في تقديري في رصد هذا التحولات الكبرى وهي الاتجاهات والفرص والتحديات الكبرى التي تطرحها العولمة والتوزيع الجديد للعمل .
• العولمة الجديدة: الاتجاهات:
يؤكد هذا التقرير النتائج التي توصلت إليها عديد الدراسات الأخرى والبحوث في رصد أهم اتجاهات العولمة الجديدة والتوزيع الإقليمي لسلاسل الإنتاج .وتشير هذه التقارير إلى ثلاثة تطورات كبرى في هذا المجال .
المسألة الأولى تهم التغيير الجذري في خارطة الاستثمارات العالمية .وتؤكد اغلب التقارير على أن استراتيجيات الاستثمار الكبرى للمؤسسات الصناعية ستتخلص تدريجيا من النظرة العالمية لتضع ثقلها على المستوى الإقليمي والبحث عن استرجاع المؤسسات والاستثمارات التي قامت بها في مناطق بعيدة بالرغم من تكلفتها الضعيفة .وسيصبح للعولمة في هذا التمشي الجديد تأمين الأسواق واستقرار سلاسل الإنتاج أهم من التكلفة وهامش الربح .
أما الاتجاه الثاني فيهم التحول الرقمي والذي سيكون أساس هذه العولمة الجديدة.والرقمنة ستكون عنصرا أساسيا في كل مراحل الإنتاج وبالتالي ستحكم بالتهميش على كل البلدان التي عرفت تأخرا في ثورتها الرقمية .
ويهم الاتجاه الثالث صعود وغلبة أنماط التنمية المستدامة.فحماية المناخ ومحاولة التحكم أو التقليص في الانحباس الحراري ستكون في أولى اهتمامات العولمة الجديدة وستتطلب بالتالي استثمارات كبيرة من الدول للانخراط في هذا التوجه الجديد .
• العولمة الجديدة: الفرص
ستفتح التحولات الكبرى التي تعتمل في مشروع العولمة الجديد والتوزيع الإقليمي للعمل عديد الفرص التي يمكن للدول أن تستغلها .
وعلى مستوى الاستثمار ستمكن العولمة الجديدة من جلب أكثر للمستثمرين المتجهين للسوق الداخلية .كما ستساهم في تشجيع المستثمرين على التركيز في المجال الإقليمي على حساب البلدان والأسواق البعيدة .كما ستلعب العولمة الجديدة دورا مهما في دفع التعاون والتكامل الإقليمي في المجال الاستثماري .
كما ستعمل العولمة الجديدة على فتح فرص مهمة في مجال الرقمنة حيث ستدفع الحكومات والشركات الى اعتماد التكنولوجيا الحديثة مما سيساهم في التقليص من كلفة الإنتاج .كما ستساهم الرقمنة في الترفيع من الإنتاجية ومن نجاعة الإنتاج.وقد تلعب هذه التطورات الكبرى دورا في ادخال القطاعات المهمشة في الاقتصاد المنظم .
كما ستفتح العولمة الجديدة فرصا مهمة ستساهم في دعم النمو المستدام من حيث تأكيدها على القطاعات الصديقة للمناخ .كما ستضع هذه التطورات الكثير من الضغط على الشركات الكبرى لتبني مقاييس لحماية المناخ .كما سيعرف التمويل المساند للمناخ الكثير من التطور عند البنوك لدعم الاقتصاد الأخضر .
• العولمة الجديدة : التحديات
على أهمية الفرص التي تفتحها العولمة الجديدة أمام البلدان النامية فإنها تتضمن كذلك الكثير من التحديات والمخاطر .ومن ضمن هذه المخاطر يشير التقرير إلى عديد المسائل الهامة ومن ضمنها تهميش اكبر للفئات الاجتماعية التي لم تنجح في دخول عالم الرقمنة،مع ضرورة توفير الموارد المالية لتمويل الاستثمارات الكبرى خاصة في بنية الرقمنة،وتصاعد المنافسة بين وحدات الرقمنة،ضغط كبير على المؤسسات الاقتصادية في البلدان النامية من اجل أن تلتزم بمعايير الإنتاج الجديدة والمستدامة .
العولمة الجديدة : سياساتنا
اللافت للنظر انه في الوقت الذي تهتم فيها أغلب بلدان العالم بهذه التطورات الكبرى وتحاول تطويع سياساتها للاستفادة من الفرص الجديدة التي يفتحها التوزيع الجديد لسلاسل الإنتاج على المستوى الإقليمي غياب النقاش والاهتمام بهذه القضايا الأساسية والإستراتيجية لمستقبل التحول الاقتصادي في بلادنا .فبقيت السياسات الصناعية ومستقبل النسيج الصناعي خارج اهتمامات أصحاب القرار والمسؤولين عن السياسات العمومية في بلادنا لينحصر الاهتمام على المسائل الآنية والتي تهم التوازنات الكبرى للدولة .
لقد حان الوقت في رأيي للخروج من إدارة الأزمة برؤيا ضيقة ولابد من إعطاء الجوانب الإستراتيجية الاهتمام الضروري بالرغم من الضبابية التي تخيم في الأفق .والاهتمام والتعاطي مع التحولات الإستراتيجية التي يجتازها العالم ستساهم في رفع الغشاوة التي تحجب عنا النظر المستقبلي والبعيد .