على المجتمعات الديمقراطية.وقد أشارت عديد الدراسات والبحوث إلى تنامي الفوارق وتصاعدها على المستوى العالمي لتصبح هذه المسألة الشغل الشاغل للحكومات والمؤسسات الدولية العالمية حتى الموغلة في النيوليبرالية منها .
والى جانب انعكاساتها الاجتماعية فإن اهتمام الحكومات والمؤسسات الدولية بقضية الفوارق ناتج عن انعكاساتها السياسية وتأثيراتها وتداعياتها على عديد المستويات .فقد كانت لتنامي الفوارق انعكاسات كبيرة على الاستقرار السياسي لعديد البلدان فقد كانت هذه الفوارق وراء تصاعد الاحتجاجات ومظاهر الرفض والمطالبة بوضع سياسات تعيد التوازن الاجتماعي إلى خطابه في عديد بلدان العالم.ولعل ثورات الربيع العربي التي انطلقت في 2011 والتي هزت أركان أكثر الأنظمة انغلاقا في العالم مؤشر على التداعيات السياسية لتصاعد التباين الاجتماعي في مختلف أنحاء العالم.ولم تقف هذه التحركات والثورات على المنطقة العربية بل امتدت إلى عديد المناطق والبلدان الأخرى وخاصة البلدان المتقدمة مثل فرنسا وايطاليا واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية .
وكان لهذه المسألة تداعيات كبيرة كذلك على مستوى المشروع الديمقراطي وساهمت في تعميق الأزمة التي يعيشها منذ سنوات.فكانت تكلفة عجز الأحزاب السياسية الديمقراطية عن بناء سياسات لإيقاف هذا التدهور في الوضع الاجتماعي عاملا مهما وراء تراجعها وصعود الحركات والأحزاب الشعبوية في مختلف بلدان العالم .
كما ستساهم مسألة التباين الاجتماعي المتصاعد في الأزمة العامة للعولمة حيث اعتبر الكثير من المحللين أنها لعبت دورا كبيرا في تراجع مشروعيتها وفقدان الثقة في قدرتها على بناء تجربة سياسية جديدة في المنطقة العربية .
وبالرغم من تزايد الاهتمام بهذه القضية والكم الكبير من الدراسات والبحوث التي حاولت تحديد هذه الظاهرة بدقة والوقوف عند ابرز ملامحها وبداية العمل على بناء السياسات لإيقاف تمددها فإن المنطقة العربية بقيت غريبة عن هذا التمشي بالرغم من كونها كانت من أكثر المناطق في العالم التي تأثرت بتنامي الفوارق الاجتماعية .فكانت الدراسات شحيحة حول هذه الظاهرة مما خلق نقصا كبيرا في المعطيات لفهم أسبابها وتداعياتها.
إلا أن هذا النقص بدأ في التراجع في الأشهر الأخيرة مع الاهتمام المتزايد للمنظمات الدولية مثل البنك الدولي بالمنطقة العربية في تقاريرها الدولية حول تنامي الفوارق الاجتماعية .كما بدأت عديد مراكز البحث في بعض البلدان العربية مثل تونس التي بدأت في إعداد دراسات حول هذه المسالة على المستوى الوطني .
إلا أننا افتقدنا في السنوات الأخيرة إلى دراسة إقليمية تمسح كل المنطقة العربية للوقوف على تطور هذه الظاهرة .وستأتي الدراسة المهمة التي أصدرتها منظمة الاسكوا في بيرت حول الموضوع لتغطية هذا الفراغ ومنظمة الاسكوا التي تديرها باقتدار الدكتورة رولادشتي قامت بانجاز عديد الدراسات المهمة في عديد المجالات الاقتصادية والاجتماعية لفهم التحديات الكبرى التي تواجهها منطقتنا .
وجاءت الدراسة الأخيرة التي تم نشرها منذ أيام تحت عنوان «Inequality s the Arab reqion –A ticking bomb» أو «التفاوت في المنطقة العربية – القنبلة الموقوتة» .لتُغطي النقص الكبير في دراسة هذه المسألة وفهم تحدياتها وتداعياتها السياسية.
وأهمية هذا التقرير لا يقتصر على كونه أول مساهمة تدرس ظاهرة الفوارق الاجتماعية في المنطقة بل كذلك للنتائج المهمة التي وصل إليها .
النتيجة الأولى وهي صادمة للحكومات والمؤسسات وهي أن المنطقة العربية هي الأكثر تفاوتا وتباينا اجتماعيا من كل المناطق الأخرى في العالم .وقد ازداد هذا التفاوت اتساعا مع جائحة الكوفيد.
أما النتيجة الثانية فتخص الأسباب العميقة للتسارع الكبير للفوارق الاجتماعية في المنطقة العربية حيث يشير التقرير إلى أن الحروب والصراعات وغياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والفساد كانت وراء تنامي هذه الظاهرة الخطيرة .
وتهم النتيجة الثالثة أرقام سبر الآراء الذي قامت به الاسكوا في عديد البلدان العربية والذي يشير إلى الأمل الكبير الذي يحدو الشعوب العربية في قدرتنا على الخروج من هذه الأزمات لبناء مستقبل أفضل .
أما النتيجة الرابعة فترتبط بقدرتنا على استنباط السياسات لرفع هذه التحديات حيث قدم التقرير عديد المقترحات والأفكار القيمة والهامة لبناء العدالة الاجتماعية في المنقطة العربية
• العرب الأكثر تفاوتا من الناحية الاجتماعية في العالم
لقد أكد تقرير الاسكوا وجملة المعطيات التي قدمتها الحقيقة الصادمة التي أشارت إليها عديد التقارير الدولية مثل البنك الدولي وهي أن المنطقة العربية هي الأكثر تفاوتا في العالم .
ففي ما يخص توزيع الدخل فإن %10 الأكثر غنى في المنطقة العربية تحصلوا على %58 من الدخل سنة 2020 وهي النسبة الأعلى في العالم .
ويمكن كذلك أن نلاحظ هذه الزيادة في الفوارق الاجتماعية وعدم المساواة في المنطقة العربية ففي ما يخص توزيع الثروة حيث يحتكر %10 الاكثر غنى ما يقارب %77 من الثروة سنة 2020 وهي من اكبر النسب في العالم .
كما تخص هذه الفوارق المسألة الجندرية والفوارق بين النساء والرجال حيث تشير الأرقام إلى أن النساء لم يتحصلن إلا على %14.8 من مداخيل العمل سنة 2020.
ويؤكد هذا التقرير أن الفوارق الاجتماعية ساهمت في تأجيج الصراعات الاجتماعية والتي تحولت إلى حروب طاحنة في بعض بلدان الربيع العربي مثل اليمن وليبيا وسوريا.وقد وصلت عديد البلدان إلى مستوى كبير من الدمار الذي يحتاج إلى أجيال عديدة لإعادة بناء العقد الاجتماعي .
كما اشار التقرير إلى أن الجائحة ساهمت في توسع دائرة الفوارق الاجتماعية .فقد ارتفع عدد 16 مليون نسمة ليصل العدد الجملي إلى 116 مليون .وقد كان للجائحة تأثير كبير على القطاعات الهشة وبصفة خاصة القطاعات الموازية والتي عرفت تراجعا كبيرا مما ساهم في تنامي البطالة والفقر .
كما أشار التقرير إلى أن المرور إلى الدراسة عن بعد في فترات الحجر الصحي كان وراء تعميق الفوارق الاجتماعية في مجال التعليم .
والسؤال الذي يطرح نفسه يهم الأسباب الدفينة لهذه الفوارق ؟
• في أسباب انخرام الفوارق لاجتماعية
إن أهمية هذا التقرير لا تتوقف عند المعطيات الهامة التي قدمها حول هذه الظاهرة بل تتعداها إلى تحليل الأسباب الدفينة وراء تنامي الفوارق الاجتماعية وانخرام العقود الاجتماعية في أغلب البلدان العربية.
ويمكن تبويب الأسباب العميقة لتصاعد التفاوت الاجتماعي في المنطقة العربية إلى ثلاثة أسباب أساسية كبرى .السبب الأول هو سياسي ومؤسساتي ويعود إلى تصاعد الصراعات والحروب في المنطقة العربية والتي كانت وراء تصاعد نسبة اللاجئين الذين يعيشون في ظروف مأساوية في بلدان الجوار .كما نتج عن هذه الحروب تراجع المصاريف الاجتماعية للدول وتصاعد المصاريف لشراء السلاح وتمويل الحروب مما كان له انعكاس كبير على التوازنات الاجتماعية .
كما يمكن أن نشير في هذا المجال إلى تصاعد الفساد حيث تبلغ معدل المنطقة في هذا المجال 32 من 100 في المؤشر العالمي للفساد.
وإلى جانب هذه العوامل يمكن أن ندرج في هذا السياق ضعف المؤسسات وغياب الشفافية مما اثر سلبا على قدرتها في صياغة السياسات الضرورية في هذا المجال .
أما السبب الثاني وراء تنامي التفاوت فيهم المسائل وبصفة خاصة تذبذب النمو وعدم قدرة البلدان العربية على القطع مع النظام الريعي وعجزها عن تنويع هياكلها الاقتصادية وفتح فرص لشبابها للخروج من التهميش والانخراط في الحركية الاقتصادية .
وفي هذا المجال لابد من الإشارة إلى مسألة التفاوت الجهوي والتي كانت سببا وراء تنامي الفوارق خاصة في المناطق الداخلية والريفية .
ويهم السبب الثالث لتنامي الفوارق الجانب الاجتماعي وتراجع وأزمة العقد الاجتماعي في اغلب البلدان العربية .ولابد من التأكيد في هذا المجال على مجال التعليم الذي ساهم خلال عقود طويلة في تدعيم المصعد الاجتماعي وبالتالي في تراجع الفوارق .إلا أن أزمة النظام التعليمي وظهور وتطور النظام الخاص لتجاوز تراجع النظام العمومي ساهم بصفة كبيرة في تنامي الفوارق الاجتماعية .
إلا أن انخرام العقد الاجتماعي للدولة الوطنية وتنامي الفوارق الاجتماعية في المنطقة العربية لم يفقد الشعوب العربية الأمل في بناء غد أفضل .
• الأمل في المستقبل يبقى قائما
إن المتأمل في الوضع العربي اليوم ومن خلال عديد التقارير التي تم انجازها سيفاجأ بالمفارقة وبالهوة بين تدهور الأوضاع وتنامي الفوارق الاجتماعية من جهة وشحنة الأمل والثقة في المستقبل التي نجدها عند الشعوب العربية .
وقد قدم هذا التقرير نتائج استطلاعات الرأي التي قامت بها الاسكوا في عديد البلدان العربية والتي تشير إلى بقاء شعلة الأمل بازغة عند هذه الشعوب .
• أمل الشعوب في المستقبل
لقد صاحبت هذه الدراسة استطلاعات رأي في اغلب البلدان العربية حول رؤية الناس لمسألة الفوارق الاجتماعية .والنتيجة الهامة التي وصلت إليها هذه الاستطلاعات هي انه بالرغم من الشعور السائد في أغلب هذه البلدان بتطور وتنامي الفوارق الاجتماعية فإن هذا الوضع لم يقد إلى الإحباط بل بالعكس فإن أغلبية المواطنين يحد وهم أمل كبير بقدرتنا على تغيير هذه الأوضاع نحو الأفضل .
ويرى %60 من المستجوبين في الكويت و%55 في عمان أن مستوى الفوارق الاجتماعية عال جدا.ويعتقد المستجوبون أن مستوى هذه الفوارق سيرتفع خلال الخمس سنوات القادمة.ففي الكويت يرى %55 من المستجوبين أن الفوارق ستتوسع وتتصاعد خلال السنوات القادمة .بينما تصل هذه النسبة في عمان إلى %50.
وبالرغم من هذه النسب العالية في رؤية المواطنين لتطور الفوارق الاجتماعية فإن الايجابية طبعت رؤيتهم للمستقبل .ولعل من المهم الوقوف على ما يعتبرونه إحدى أولويات محاربة الفوارق وبناء العدالة ألا وهي تشغيل الشباب وإعطاؤهم فرص الخروج من واقع التهميش الذي يعيشونه .
وتشير الأرقام والمعطيات في المنطقة العربية إلى أن بطالة الشباب هي الأعلى في العالم في الربع من القرن الأخير وتتجاوز قرابة الأربع مرات مستوى بطالة الكهول .كما أن بطالة الشباب تصل إلى مستوى %26 في المنطقة العربية في حين أن المعدل العالمي يصل إلى %12.8 .كما تشير الأرقام كذلك إلى أن أكثر من %25 من الشباب يشتغلون بقطاعات هشة في البلدان العربية .
إن هذه الأرقام والإحصائيات هامة وأساسية لصياغة السياسات العمومية .فهي وإن كانت تشير إلى الوضعية الصادمة والتي جعلت المنطقة العربية الأكثر فوارق اجتماعية في العالم فإن الأمل لم ينقطع عند الناس في الخروج من هذه الوضعية وبناء غد أفضل .وهذا من شانه أن يهيئ الظروف الايجابية لصياغة سياسات عمومية قادرة على إعادة بناء الأمل والعدالة الاجتماعية .
• السياسات لبناء الأمل والعدالة الاجتماعية
قدم تقرير الاسكوا عديد المقترحات في ميدان السياسات العمومية من اجل بناء العدالة الاجتماعية والخروج من الواقع المشين الذي تمر به المنطقة العربية .ولعل أهم مقترح تقدمه المنظمة هي ضرورة إطار فكري جديد لصياغة السياسات الاجتماعية يعطي الأولوية لمسالة العدالة الاجتماعية ويضع كل الإمكانيات المالية والاقتصادية لإعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعطي الفرص للجميع ويعيد تنشيط المصعد الاجتماعي .كما يقترح التقرير ضرورة إيجاد صندوق تضامن يكون قادرا على تمويل كل المشاريع والمبادرات التي تسعى إلى دعم العدالة الاجتماعية .
والى جانب الرؤى والتصورات الكبرى قدم التقرير بعض المقترحات العملية ومن ضمنها تحسين الخدمات والمرافق العمومية،تطوير فرص العمل،دعم المساواة بين المرأة والرجل وتشغيل المرأة،المساواة الجبائية،دعم التغطية الاجتماعية،تحسين ظروف الشغل والعمل ،تحسين مستوى التعليم،بنماء مؤسسات قادرة على دعم العدالة الاجتماعية ،تحسين ظروف السكن،التقليص من الفوارق في الولوج للتكنولوجيا الحديثة .
تعيش المنطقة العربية على وقع «قنبلة موقوتة» والتي تخص المستويات الصادمة للفوارق الاجتماعية .وقد ساهمت هذه الوضعية في عدم الاستقرار السياسي الذي تعرفه المنطقة وتصاعد الصراعات والحروب الطاحنة في السنوات الأخيرة .وتتطلب هذه الأوضاع ضرورة وأهمية رؤية تنموية جديدة تضع من العدالة الاجتماعية وإعادة بناء العقد الاجتماعي العربي هاجسها الأساسي وهدفها المركزي .