كان بالإمكان أفضل مما كان: في مخاطر التقشف والبدائل الممكنة

كان في لقاء صحفي سنة 1980 مع ممثلي الصحافة الأمريكية في لندن عندما أعلنت رئيس الحكومة البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر «There is no alternative»

ليس هناك بديل،وقد قالت تاتشر هذه الجملة للرد على النقد الكبير الموجه لحكومتها المحافظة وخاصة لسياساتها النيوليبرالية الراديكالية التي بدأت في تطبيقها منذ انتصارها الكبير في الانتخابات البريطانية ضد الحزب العمالي ووصولها إلى السلطة في 4 ماي 1979.
وقد جاء انتصار المحافظين اثر الأزمة الاقتصادية التي عرفتها بريطانيا طيلة سبعينات القرن الماضي .فقد عرفت دولة الرفاه التي أرستها أغلب البلدان الديمقراطية اثر الحرب العالمية الثانية بداية أزماتها منذ نهاية الستينات لتشهد اغلب البلدان تصاعد البطالة والتضخم وبالتالي تدهور المقدرة الشرائية للطبقات الشعبية .ولكن الأهم في هذه الوضعية هو عجز الأدوات التقليدية والسياسات الاقتصادية الكينزية في تجاوز الأزمات وفتح آفاق جديد للنظام الاقتصادي والعقد الاجتماعي الموروث عن الحرب العالمية الثانية .
هذه الأزمات وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كانت ثورة سياسية في اغلب البلدان الديمقراطية مع الهزيمة التاريخية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والصعود الكبير والانتصارات الانتخابية التاريخية للأحزاب اليمينية .فبعد انتصار مارغريت تاتشر في بريطانيا شهدت الولايات المتحدة الأمريكية نفس الموجة مع انتصار الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية ووصول أحد عتاة النيوليبرالية في العالم رونالد ريغان في 20 جانفي 1981 إلى البيت الأبيض.
وعرفت اغلب البلدان هذه الثورة الساسية مع العودة القوية للأحزاب اليمينية.وبقيت فرنسا احدى الاستثناءات القليلة مع وصول فرانسوا ميتران لقصر الايليزي وانتصاره في الانتخابات الرئاسية لسنة 1981.إلا أن ربيع فرنسا الاشتراكي لم يتواصل طويلا حيث انخرطت فرنسا في الثورة النيولبيرالية الاقتصادية في 1983 مع حكومة لوران فابييس.
والى جانب الثورة السياسية وانتصار الأحزاب اليمينية في أغلب البلدان الديمقراطية فإن هذه الفترة فتمت ثورة جديدة أو ثورة مضادة كما سماها الاقتصادي الأمريكي في مجال السياسات الاقتصادية .وقامت اغلب الأحزاب اليمينية بتطبيق سياسات اقتصادية راديكالية موغلة في النيوليبرالية. وأكدت على تراجع الدولة وانتفاء دورها لصالح العولمة وتراجع الدور الاجتماعي للدولة أولويات السياسات الاقتصادية في أغلب البلدان المتقدمة.
وأكدت هذه الحكومات أن هذه السياسات الراديكالية ضرورية لتفكيك منظومة دولة الرفاه المريضة والعاجزة عن تجاوز أزماتها .
وقد أثارت هذه الثورات وهذه السياسات الكثير من النقد والتحركات الاجتماعية من الأحزاب اليسارية والنقابات وشنّت الإضرابات من أجل حماية المكاسب الاجتماعية لدولة الرفاه والتخفيف من عنف هذه السياسات وحدتها ولعل أحد أهم الإضرابات تلك التي عرفتها بريطانيا في قطاع المناجم والتي دامت لأشهر طويلة وانتهت بهزيمة العمال وانتصار مارغريت تاتشر التي أصبحت تلقب منذ دلك الوقت بالمرأة الحديدية .

وقد جاءت الكلمة الشهيرة لمارغريت تاتشر في الندوة الصحفية لسنة 1980 وتأكيدها انه لا يوجد بديل للرد على هذه الانتقادات والتحركات الاجتماعية .وكانت رئيسة الحكومة البريطانية تعترف بالانعكاسات الاجتماعية الرهيبة لسياساتها الاقتصادية الموغلة في النيوليبرالية ولكنها قالت في نفس الوقت أن هذا الألم ضروري للشفاء .
وكان لهذه الجملة البسيطة في هذه الندوة الصحفية دور كبير حيث أصبحت شعارا احتمت خلفه الحكومات والمؤسسات الدولية في دفاعها عن السياسات النيوليبرالية وعن الهيمنة الفكرية لهذه السياسات التي سادت العالم منذ بداية ثمانينات القرن الماضي إلي يوم الناس هذا .
وقد شكلت في هذا الإطار ما يسميه عديد الخبراء والمفكرين بنظرية «التينا» أو «the Tina syndrome» وكلمة تينا أو Tina هي الحروف الأولى للجملة الشهيرة لمارغريت تاتشر (there is no alternative)  والتي مثلت الإطار الفكري للدفاع الفكر النيوليبرالي على مشروعه الاقتصادي .فبالنسبة للمدافعين عن هذا المشروع وهذه السياسات ولئن كانوا يعترفون بالانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية السلبية والخطيرة لهذه السياسات الا إنهم يؤكدون انه لا خيار لنا إلا تطبيقها لأنه ليست هناك بدائل واقعية عنها .
ولن يقتصر تأثير هذا الاطار الفكري على البلدان المتقدمة بل عرف كذلك طريقه إلى البلدان النامية عن طريق المؤسسات الدولية والخبراء الذين أطلق عليهم «أولاد شيكاغو» أو «Chicago boys» في إشارة إلى الخبراء الذين تلقوا تكوينهم في جامعة شيكاغو عند ميلتون فريدمان والذي يعتبره الكثيرون أحد أهم أنبياء الفكر النيوليبرالي في العصر الحديث.وقد انخرطت برامج التعديل الهيكلي التي طبقتها اغلب البلدان النامية في هذا الإطار الفكري المهيمن على السياسات الاقتصادية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي إلى يومنا هذا.
لقد عرف هذا التوافق الفكري النيوليبرالي المهيمن هزات كبيرة خلال الأربعين سنة المنقضية لعل أهمها الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 والانعكاسات الاقتصادية لأزمة الكوفيد 19 .وقد اضطرت المؤسسات الى التراجع عن هذا التوافق والعودة إلى تنشيط دور الدولة لحماية الاقتصاد العالمي من الانهيار أمام عجز الأسواق إلا انه وعند عودة النمو وتراجع المخاطر عاد هذا التوافق النيوليبرالي إلى الهيمنة وكأن شيئا لم يكن .
أمام هيمنة هذا التوافق على مجال صياغة السياسات العمومية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وتأكيده على انه لا خيار إلا البرنامج النيوليبرالي دارت كل المعارك الفكرية حول هذه المسألة حيث حاول الكثيرون من الخبراء وحتى المؤسسات الدولية وبصفة خاصة مؤسسات الأمم المتحدة ومن ضمنها البرنامج الإنمائي التأكيد على وجود خيارات تنموية بديلة وانه لا يمكن اختزال الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية في برنامج وحيد يحيلنا إلى الجنة .
أشير إلى هذه الملاحظات عند اطلاعي على الوثيقة التي أعدتها الحكومة للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي .فالي جانب أنها انخرطت في الفرضيات التي وضعها الصندوق أثناء زيارته إلى بلادنا في فيفري 2021 تؤكد انه لا خيار ولا بديل عن هذه السياسات .
وفي هذه الورقة سنؤكد لا فقط على ضعف النتائج الاقتصادية لهذا التمشي بل كذلك وجود بدائل وسياسات أخرى تمكننا من تحقيق نتائج اقتصادية أحسن وبتكلفة اجتماعية أقل من التي يصل إليها برنامج الحكومة والصندوق .
ولكن قبل الخوض في هذه البدائل سنعود أهم خصائص المشروع الاقتصادي الذي يهيمن على السياسات العمومية ويكبّل كل المحاولات النقدية .
• في خصوصيات التوافق النيوليبرالي السائد
عرفت بداية الثمانينات كما أشرنا إلى ذلك ثورة معرفية أو ثورة مضادة كما يسميها الذين قاموا بها .وقد جاءت هذه الثورة لتضع حدّا لهيمنة الفكر الكينزي في المجال الاقتصادي والسياسات العمومية التي تجعل من الدولة وتدخلها لتنظيم الاقتصاد وحماية التوازنات الاقتصادية والاجتماعية .وقد قامت هذه الثورة وورثة مفكر النيوليبرالية وأب مدرسة شيكاغو بنقد جذري لما أسموه بالإرث البالي للفكر الكينزي والذي همين على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .وقد أكد هؤلاء الاقتصاديون الجدد بصفة خاصة على عجز الوصفة التقليدية التي حاولت إيجاد توازن بين التضخم والبطالة على مدى عقود إيجاد حلول للازمات التي تعيشها البلدان المتقدمة .فقد عرفت أغلب هذه البلدان في سبعينات القرن الماضي تزامن التضخم والبطالة مع ركود اقتصادي أو ما سماه الاقتصاديون stagflation .ومن هنا دعوتهم للبحث عن حلول راديكالية خارج الإطار التقليدي لتجاوز الأزمات .
لكن هؤلاء الاقتصاديون لم يكتفوا بنقد التقديم بل وضعوا اللبنات الأساسية لما يمكن أن نسميه رؤية جديدة للعالم الاقتصادي والتي شكلت الركيزة الأساسية للسياسات النيوليبرالية التي همينت على العالم إلى يومنا .وترتكز هذه الرؤيا وهذا التصور الجديد على 4 مبادئ أو فرضيات أساسية .
المبدأ الأول الذي تقوم عليه النظرة الاقتصادية الجديدة والذي شكل أحد الركائز الأساسية للنيوليبرالية هو فرضية فعالية ونجاعة الأسواق أو ما يسميه الاقتصاديون (efficience des marchés) وتعني هذه الفكرة أن للأسواق من القوة ومن الفاعلية ما يجعلها قادرة على تنظيم محكم للأسواق لا يتطلب تدخلا للدولة.
أما الفرضية الثانية فتهم عقلانية الفاعلين الاقتصاديين أو ما يسميه الاقتصاديون (la rationalité des agents) وتشير هذه الفرضية إلى أن للفاعلين الاقتصاديين المعلومات الكافية التي تمكنهم من اخذ القرارات العقلانية الضرورية والتي ساهمت في تنشيط الاقتصاد وديناميكيته .


الفرضية الثالثة هي ضرورة حيادية السياسات الاقتصادية أو ما يسميه الاقتصاديون (la neutralité des politiques économiques)) .وقد سعت هذه الفرضية إلى منع تدخلات السياسات العمومية في المجال الاقتصادي باعتبارها تعيق حركة الأسواق وتخل بعقلانية الفاعلين الاقتصاديين .
أما الفرضية الرابعة فتخص الدور النشيط للسياسات النقدية أو ما يسميه الاقتصاديون (le rôle actif des politiques monétaires) وتعمل هذه السياسات على محاربة التضخم والذي يشكل حسب هذه التصورات الخطر الداهم على الاقتصاد .ولتفادي التجاوزات التي يقوم بها السياسيون دعت هذه النظريات إلى إعطاء مسؤولية قيادة السياسة النقدية إلى خبراء وتكنوقراط بعيدين كل البعد عن ضغط السياسيين من خلال إعطاء الاستقلالية الكاملة للبنوك المركزية المسؤولة عن هذه السياسات .
تشكل هذه المبادئ والفرضيات الأساسية جوهر الثورة المعرفية التي عرفها عالم السياسات العمومية وهيمنة الفكر النيوليبرالي منذ بداية الثمانينات .وجعلت هذه النظرة من السوق واليد الخفية لآدام سميث العنصر الأساسي لعمل وتنظيم الاقتصاد في مجتمعاتنا الحديثة .وترفض هذه النظرة كل تدخل للدولة باعتبارها عنصر اضطراب وتعكير للدورة الطبيعية للاقتصاد .
وقد عرفت هذه النظرة الكثير من النقد وحتى الرفض من داخل المجال الاقتصادي حيث أكد الكثيرون أنها نظرة طوباوية لا تأخذ بعين الاعتبار صعوبة الحصول على المعلومات وعدم نجاعة الأسواق إلى جانب التصرفات والسلوكات المغامرة لبعض الفاعلين الاقتصاديين .كما جاءت عديد الانتقادات نتيجة حصيلة هذه السياسات وبصفة خاصة الأزمات المالية وتصاعد الفوارق الاجتماعية والتي أكدت على عجز الأسواق والسياسات الموغلة في النيوليبرالية عن المحافظة على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية وضرورة العودة إلى دور جديد للدولة .
ورغم هذا النقد واصلت هذه السياسات هيمنتها .ولم تقف هذه الهيمنة على البلدان المتقدمة بل وصلت كذلك إلى البلدان النامية .
• في التوافق النيوليبرالي والتنمية
لقد جاء هذا التوافق في بداية ليشكل هو الآخر قطيعة جوهرية مع الفكر الاقتصادي السائد والسياسات العمومية للتنمية من استقلال هذه البلدان في نهاية خمسينات القرن الماضي .وقد جاء هذا التوافق الجديد تحت تأثير عاملين مهمين .العامل الأول هو الثورة الفكرية التي عرفها الفكر الاقتصادي والتي طفت بظلالها على كل الاختصاصات الأخرى ومن ضمنها ميدان دراسات التنمية .وقد دخل هذا المجال تحت مظلة نظرية «التينا «أولا خيارا لهذه الدول خارج الإصلاحات والبرامج والسياسات العمومية الموغلة في النيوليبرالية .
أما السبب الثاني وراء صعود هذا التوافق فيعود إلى الأزمات الاقتصادية التي عرفتها أغلب البلدان النامية والتي انطلقت مع أزمة المديونية في المكسيك في أوت 1982 لتصبح أزمة شاملة كادت أن تعصف بأكبر المؤسسات البنكية في العالم .وكانت هذه الأزمات نقطة انطلاق برامج التعديل الهيكلي بإشراف المؤسسات الدولية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي .
وقد تركز التوافق في ميدان التنمية على أربعة مبادئ أساسية .المبدأ الأول هو رفض المشاريع الكبرى وبصفة خاصة مسألة التخطيط باعتبارها ساهمت في تهميش دور التخطيط والذي اقتصر على بعض المشاريع المحدودة في المناطق النائية .
أما المبدأ الثاني الذي ارتكز عليه هذا التوافق فيهم الأهمية الإستراتيجية للتوازنات الكبرى وبصفة خاصة توازن المالية العمومية ميزان الدفوعات .وقد أعطى هذا التوجه الدور المركزي لوزارات المالية والبنوك المركزية للاضطلاع بهذه المهام ولتكون الشرطي المؤمن على هذه المهام الأساسية .وكانت لهذا الاختيار انعكاسات كبيرة على السياسات العمومية بصفة خاصة والسياسات المالية والتي في ظل ضعف مداخيل الدولةسعت جاهدة إلى التقليص من مصاريفها ليكون التقشف السمة الأساسية للسياسات العمومية .
أما المبدأ الثالث فيهم دور الدولة والتي كانت فاعلا أساسيا في المشاريع التنمية منذ استقلال هذه الدول .وأكد هذا التمشي على عدم نجاعة الدولة وعدم فعالية دورها الاقتصادي ودعا إلى تحديده وإعطاء الدور الأساسي للسوق في تنظيم وتوجيه العملية الاقتصادية .وكان هذا التوجه وراء سياسات الخوصصة ومحاولة نفي دور الدولة وقدرتها على حماية التزامات الاقتصادية والاجتماعية .
أما المسالة الرابعة فتخصّ التضخم والذي يعتبره هذا التوافق الخطر الداهم الذي يهدد الاقتصاديات .وهنا يعطي هذا التمشي دورا مركزيا للسياسة النقدية والبنوك المركزية والتي يجب حمايتها من تغول السياسيين بفضل استقلاليتها .وكانت المهمة الأساسية للسياسة النقدية محاربة التضخم بغض النظر على الاستثمار والنمو والتشغيل .
وقد شكل هذا التوجه الإطار الفكري الذي حدد السياسات العمومية خلال العقود الأربعة المنصرمة مما جعل من التقشف والخوصصة والسوق الركائز الأساسية لمسارات التنمية في أغلب بلدان العالم .
وقد لقي هذا التوافق الكثير من النقد حيث اعتبره الكثيرون وراء تنامي التهميش الجهوي والاجتماعي الذي عرفته اغلب البلدان النامية .وكانت ثورات الربيع العربي أكبر تعبير على فشل هذا التوافق وعجزه .إلا انه ورغم النقد فقد واصل هيمنته في نسخ أكثر ليونة من الرؤى الأصلية .
وقد قادت هذه الرؤيا مشروع الوثيقة التي أعدتها الحكومة لنقاشها مع صندوق النقد من حيث تأكيدها على مسألتين هامتين . المسألة الأولى وهي ضرورة التقشف والابتعاد عن كل مغامرات الدفع أو relance.أما المسألة الثانية فهي التأكيد على انه لا خيار ولا بديل خارج التقشف .
وسنحاول في هذه الورقة التأكيد - لا فقط - على انه بإمكاننا تحديد بدائل أخرى بل أنها أكثر فعالية ستسمح بتحقيق نتائج اقتصادية وبنتائج اجتماعية أحسن من البرنامج الحكومي .
• مقارنة السيناريو التقشفي مع البدائل الأخرى
قمنا في هذه الورقة بدراسة مقارنة بين أربع سيناريوهات لتطور الوضع الاقتصادي في بلادنا خلال الأربع سنوات القادمة أي من 2022 إلى 2025 وهي العودة التي سيشملها الاتفاق المنتظر مع صندوق النقد الدولي .
وقمنا بقيس وتحديد المآلات الرقمية لكل سيناريو من خلال استعمال نموذج رياضي (Modèle mathématique) متطور ودقيق يشتمل على قرابة 200 معادلة وهي من فئة نماذج التوازنات الكمية أي (modèle d’équilibre général calculable) كنا قد طورناه منذ سنوات لدراسة التطورات الاقتصادية في البلدان النامية .وستسمح لنا نتائج هذا العمل من مقارنة السيناريوهات من حيث انعكاساتها الاقتصادية المنتظرة.
أما السيناريوهات التي اشتغلنا عليها فهي التالية :
• السيناريو الطبيعي:
وهو السيناريو الذي يترك الاقتصاد يتطور خلال السنوات القادمة بطريقة طبيعية وبدون تدخل من السياسات الاقتصادية .وقد ورد هذا السيناريو في التقرير الذي قدمه صندوق النقد اثر زيارته الأخيرة في شهر فيفري 2021.

• السيناريو التقشفي :
هذا السيناريو هو الذي رسمه صندوق النقد في تقريره والذي اعتمدته الحكومة في الوثيقة التي أعدتها الحكومة للمفاوضات .وهذا السيناريو تقشفي باعتبار انه سيعمل على التخفيض بطريقة كبيرة في كتلة الأجور والإصلاحات العميقة في الدعم وفي المؤسسات العمومية للتقليص من مصاريف الدولة وبالتالي ستكون العودة إلى التوازنات المالية للدولة والتي تشكل الشغل الشاغل للدولة .
• سيناريو الانتعاش :
هذا السيناريو من البدائل التي صُغناها والتي تسعى إلى دفع الاستثمار الخاص والعمومي بمعدل سنوي بمليار دينار والابتعاد عن الإجراءات التقشفية للسيناريو الثاني.
• سيناريو الجرأة:
يأخذ هذا السيناريو فرضية الانتعاش في الاستثمار ويضيف عليها بعض الإصلاحات التي من شأنها انه تحسن انتاجية الاستثمار العمومي من خلال التسهيل في الإجراءات الإدارية .
وتثبت دراسة مختلف هذه السيناريوهات أن السيناريوهات البديلة تمكننا من تحقيق نتائج اقتصادية أرقى وأهم من سيناريو التقشف .
ففي مجال النمو تثبت نتائجنا أن السيناريو التقشفي لن يسمح بتجاوز نسبة نمو بـ %3 في نهاية الفترة وهي نتيجة ضعيفة إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم التحديات الاقتصادية في بلادنا وضرورة تحقيق نسب نمو عالية .
وفي نفس الوقت إذا كانت نسب نمو سيناريو الانتعاش محدودة فإنها تتجاوز نسب نمو سيناريو التقشف .ويبقى سيناريو الجرأة الأكثر قدرة على تحقيق نسب نمو عالية بلغت %5.75 في نهاية الفترة .(انظر رسم رقم 1).
رسم رقم 1:
• معدل النمو حسب السيناريوهات المختلفة
حتى وإن أخذنا بعين الاعتبار أهداف الحكومة وصندوق النقد في التخفيض فان تقديراتنا تشير إلى أن نتائج سيناريو الجرأة لن تكون بعيدة عن نتائج سيناريو التقشف .
ففي سيناريو التقشف سيكون العجز بـ%-1.7 من الناتج الإجمالي في نهاية الفترة بينما سيكون هذا العجز بـ%-2.3 لسيناريو الجرأة (انظر الرسم رقم 2)
الرسم رقم 2:
• نسبة العجز من الناتج المحلي الإجمالي حسب السيناريوهات المختلفة
سنصل في تقديراتنا إلى نفس النتائج فيما يخصّ التقليص في كتلة الأجور والتي تشكل الهدف الأساسي لصندوق النقد الدولي والحكومة . إذ يثبت هذا السيناريو تفوقه على سيناريو التقشف حيث أن النمو والانتعاشة الاقتصادية ستسمحان بتراجع نسبة كتلة الأجور في الناتج الخام لتصل إلى %14.67 في نهاية الفترة (انظر رسم رقم 3)
الرسم رقم 3:
• كتلة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي حسب السيناريوهات المختلفة
تثبت هذه الدراسة المقارنة بين مختلف السيناريوهات على علوية اختيارات الانتعاشة والجرأة الاقتصادية على اختيارات التقشف لا فقط في دفع النمو بل حتى في تحقيق التوازنات المالية الكبرى وفي تثبيت الاقتصاد (stabilisation) .وهذه النتائج تدعونا إلى إعادة النظر بطريقة جدية في السيناريوهات المقترحة من الحكومة في الوثيقة المقترحة للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتفكير في صياغة سيناريوهات بديلة .
• نمو إستراتيجية بديلة في المفاوضات مع صندوق النقد والمؤسسات الدولية
في خاتمة هذه الدراسة نريد التأكيد عل مسالة أساسية وهي ضرورة وأهمية الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي باعتبار عمق الأزمة التي تمر بها بلادنا وضرورة البحث عن الدعم من قبل شركائنا وأصدقائنا .
إلا أننا ننادي بضرورة تحديد إستراتيجية تفاوضية جديدة تتحرر من روح الخنوع والاذعان التي تميز الإستراتيجية الحكومية وتتخلص من هيمنة النظرة التقشفية السائدة ونظرية التينا أو غياب الحلول البديلة .نعتقد في هذا المجال انه بالإمكان أفضل مما كان ولابد لنا في هذا الإطار من تحديد تصور بديل يهدف إلى إعادة النمو وبالتالي الامل والثقة في المستقبل .
ونجاحنا في ضبط إستراتجية تفاوضية جديدة يتطلب ثلاثة شروط أساسية .
- الشرط الأول يهم صياغة رؤيا جديدة ومغايرة لمستقبل اقتصادنا وتحديات التنمية .وفي هذا المجال لابد لمؤسسات الدولة من التحرر من النظرة المحافظة والتقليدية التي سادت الى حد الآن في تحديد رؤيتنا الاقتصادية ولابد لنا من الانطلاق في البحث عن حلول جديدة تقطع مع السائد .وقد انطلقت عديد البلدان في هذا الطريق ومن أهمها الأرجنتين والتي تعاني من أزمة اقتصادية ومالية أكثر حدة وشراسة من التي نعيشها . ورغم هذه الأزمة ضبطت الأرجنتين بدعم من خبرائها وعديد الخبراء الدوليين ومن ضمنهم الاقتصادي الكبير جوزيف ستيعلتز والحائز على جائزة نوبل لضبط رؤيا وتصور يقطع مع التقشف ويضع الانتعاش الاقتصادي وعودة الأمل وإعادة بناء العقد الاجتماعي نصب عينيه .
- الشرط الثاني سياسي واجتماعي ويخص مشاركة المنظمات الاجتماعية والجماهيرية والطيف السياسي الواسع في إعداد هذه الرؤى وتكوين توافق واسع لدعمها .لم تنفك المنظمات الدولية وخاصة صندوق النقد الدولي ضرورة احترام هذه الشرط والتقيد بها للوصول الى اتفاق معها .
أما الشرط الثالث فيهم الإعداد الفني والتقني الدقيق لهذه الرؤى والتصورات الجديدة .وفي هذا المجال تتمتع بلادنا بالخبرات الكافية لدعم مقترحاتها من الناحية التقنية والعلمية والتي ستكون ضرورية في هذا المسار وفي مواجهة خبراء صندوق النقد والمؤسسات الدولية .
تعيش بلادنا اليوم أزمة مالية واقتصادية من اخطر الأزمات التي عرفتها في تاريخها المعاصر .وفي رأينا فإن إمكانية الخروج من هذه الأزمات وان كانت صعبة الا انها ليست مستحيلة شريطة أن نتخلص من هيمنة الفكر المحافظ والسياسات التقليدية ونتسلح بإرادة سياسية قوية ورؤيا جديدة تقطع مع السائد ونضع من عود الثقة والأمل في نجاح تجربتنا هدفها الأساسي .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115