قوانين المالية بين المنهجية والاختيارات

أثار إعداد قانون المالية التكميلي لإتمام سنة 2021 وقانون المالية لسنة 2022 الكثير من النقش والجدل نظرا لظروف إعداده ومنهجيته ثم اختياراته الكبرى .

فقد تم إعدادهما بطريقة خفية ولم نعرف إلا النزر القليل من المعطيات حول فرضيتهما وانتظارات المؤسسات الرسمية حول تطور الاقتصاد خلال السنة المقبلة .
و يطرح هذا الوضع الكثير من التساؤلات حول التمشي الذي وقع اتباعه في إعداد قوانين المالية في السنوات الأخيرة والتي كانت نتيجته إعداد مشاريع وبرامج اقتصادية تنقصها الروح وهي باهتة وغير قادرة على مواجهة التحديات . هذا التمشي –في رأيي- ليس وليد هذه السنة بل هو مواصلة للسنوات الأخيرة ولتصور فوقي وإرادي للمسائل الاقتصادية .ولعل أهم المهام الملحة والملقاة على عاتقنا اليوم في مرحلة التحول الديمقراطي هي القطع مع هذه الرؤيا السائدة للمسائل الاقتصادية والتي تشكل امتدادا لسنوات السلطة القوية والمركزية التي عملت كل ما في وسعها على إلغاء السياسة وجعلها حكرا على أعلى هرم السلطة لتبقى المسائل الاقتصادية والسياسات العمومية بشكل عام قضايا تقنية تقتصر على تطبيق التعليمات التي تأتي من فوق .
• في المنهجية السائدة لقوانين المالية
إن المتابع لقوانين المالية والمنهجية التي سادت في تحديدها في السنوات الأخيرة يمكنه الوصول إلى خمس خصائص أو سمات ميزت أغلبها .

- السمة الأولى هي التهوين أو الاستخفاف وعدم إعطاء قوانين المالية الأهمية التي تستحقها فقد كنا نتعامل مع هذه القوانين كأي قانون عادي (banal) دون أن نلتفت إلى الاختيارات الكبرى التي يحملها من الناحية السياسية والمجتمعية .وحتى وإن حصل وأكد السياسي على هذه الأهمية فإن مؤسسات الدولة لا تعطيها الأهمية التي تستحقها لتبقى هذه القوانين جملة من المشاريع الباهتة والباردة والتي لا تثير الاهتمام والنقاش العام الضروري الذي يجعل منها أداة لتجديد وإعادة بناء المشترك الجمعي في المجتمعات الديمقراطية .
أشرت في العديد من المناسبات وأريد التأكيد على أن قانون المالية من أهم واخطر القوانين في المجتمعات الحديثة باعتبار انه يختزل أهم توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .ذلك أن قانون المالية آلية سياسية بامتياز تعبر من خلالها الدولة والحكومة عن أهم توجهاتها وتصوراتها في بناء العقد الاجتماعي وسبل تطويره وتدعيمه .اذ يشير قانون المالية إلى كيفية دعم الاستثمار وتطويره ويحدد الإجراءات الكفيلة بحماية المؤسسات الصناعية في فترات لأزمات.كما أن قوانين المالية تعطي فكرة عن رؤية الدولة للقضايا الاجتماعية وبصفة خاصة مسألة العدالة والمساواة بين مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية وطرق تطويرها لدعم العقد الاجتماعي .كما أن قانون المالية يعطي فكرة عن التوجهات الاجتماعية للدولة من خلال مستوى الاستثمارات الذي تخصصها لعديد القطاعات ومن ضمنها قطاعات الصحة والتعليم .
كما تعمل الدولة من خلال قوانين المالية على ضبط وتحديد اختياراتها في عديد القطاعات الكبرى التي من ضمنها التحول الرقمي وقضايا الانحباس الحراري ومواجهة تغير المناخ .
وتؤكد هذه الملاحظات على أهمية قوانين المالية ودورها السياسي الذي تغاضينا عنه في السنوات الأخيرة لتصبح قوانين عادية لا ترتقي إلى البعد الاستراتيجي الذي تحمله .فلم نعط في بلادنا وفي السنوات الأخيرة الأهمية الكافية للإجراءات الجبائية التي تأتي بها هذه القوانين .
ويقف هذا الاهتمام عند بعض القطاعات أو المهن التي تتضرر من بعض الإجراءات إلا أن النقاش العام في بعض الأحيان وحتى مع المسؤولين على صياغة هذه القوانين أنفسهم وجملة الإجراءات الجبائية لا يرتقي إلى فهم التصور العام للسياسات العمومية والرؤيا الاقتصادية التي تحملها .

- أما السمة الثانية للتمشي في صياغة لقوانين المالية في السنوات الأخيرة فهي طابعها المحاسبي مع الاكتفاء بجملة من الفرضيات التي أثبتت التطورات عدم واقعيتها مما جعلنا ندخل في ديناميكية قوانين المالية التعديلية وقد اشرنا في عديد المناسبات أن التعديل في هذه القوانين وفي الحسابات الكبرى للدول هو استثناء لا يمكن الخروج عنه إلا في صورة الأزمات الكبرى مثل جائحة كورونا في الدول المتقدمة سنة 2020. ورغم تواصل هذه الأزمة فإن أغلب الدول المتقدمة لم تقم بصياغة قوانين تعديلية لسنة 2021 لتبقى الفرضيات قائمة إلى نهاية السنة .
وهذا الإسراف في اعتماد قوانين المالية التعديلية له انعكاسات سلبية باعتبار انه يفتح مرحلة من عدم الاستقرار وعدم الوضوح في الرؤيا على المستوى الاقتصادي إلى جانب كونه يشكل عبئا كبيرا على الإدارات المهمة بإعداد هذه القوانين .
وقد أشرت إلى هذه المسألة في عديد المناسبات وهي في رأيي نتيجة لأسباب هيكلية عميقة تعود إلى بداية الثمانينات وأزمة المديونية التي عرفتها أغلب البلدان النامية انطلاقا من المكسيك سنة 1982.وقد قام صندوق النقد الدولي مع البنك الدولي بتعميم السياسات التقشفية والليبرالية من خلال برامج التعديل الهيكلية .والى جانب خصخصة الشركات العمومية وإلغاء دور الدولة وفتح المجال الكبير لآليات السوق وإلغاء الدعم فقد قام صندوق النقد الدولي بفرض إصلاحات وتغيير مؤسساتي سيكون لها انعكاس كبير على السياسات الاقتصادية في البلدان النامية .و بفضل المؤسسات والإدارات التي تهتم بالاستشراف والتخطيط عن المؤسسات التي تهتم بالمالية العمومية .وقع تركيز وزارتين : الأولى تهتم بالتخطيط وتعبئة الموارد المالية للاستثمار العمومي والتيتعرفت الكثير من التهميش في سنوات التعديل الهيكلي والثانية وهي وزارة المالية والتي كان لها الدور الرئيسي في السياسات المالية والاقتصادية للدول والتي كان دورها الأساسي والرئيسي المحافظة على التوازنات المالية للدولة .

ومنذ ذلك التاريخ اقتصر دور وزارات المالية على إدارة المالية العمومية بطريقة محاسبية من خلال صياغة بعض الإجراءات الجبائية دون النظر إلى القضايا الاقتصادية الأخرى .وشكل هذا التوجه على مر السنين ثقافة عمل في اغلب وزارات المالية في العالم في الاقتصار على النظر والتعاطي مع قوانين المالية كعملية محاسبية للبحث عن التوازن الآني بين المصاريف والمداخيل إلا أن هذه النظرة وعملية الفصل بين الاستشراف المستقبلي والحسابات المالية وقع التراجع عنها منذ سنوات في اغلب لبلدان من خلال الجمع بين هذه الإدارات في إطار العودة الى وزارات الاقتصاد التي عملت من جديد على توحيد جهود التخطيط للمستقبل والتمويل .
ولئن عرفت اغلب بلدان العالم هذا التحول الهيكلي مع تكوين وزارات الاقتصاد لإعطاء بعد استراتيجي للقضايا الاقتصادية والمالية إلا أن بلادنا واصلت التغريد خارج السرب - بعيدا عن التصورات التي يعيشها التفكير الاقتصادي - من خلال الإبقاء على القطيعة بين التخطيط والمالية وواصل التوجه المحاسبي لقوانين المالية هيمنته على السياسات العمومية.

- أما السمة الثالثة التي سادت في بلادنا في اعداد قوانين المالية فهي غياب الرؤيا والتصور والرؤيا الإستراتيجية في المجال الاقتصادي .فقوانين المالية هي الترجمة الآنية - أو على المدى القصير - للتصورات الإستراتيجية على المدى الطويل .ونجد قوانين المالية في اغلب بلدان العالم ترتكز على الرؤى الطويلة المدى وتعمل على ترجمتها بطريقة براغماتية في قرارات وإجراءات عملية .
في بلادنا ورغم وجود تخطيط استراتيجي قبل الثورة إلا أن القطيعة كانت كبيرة بين الرؤى والتصورات التي دافعت عنها اغلب المخططات الخماسية وقوانين المالية.ففي حين كانت اغلب المخططات تنادي بضرورة العمل على بناء نمط تنمية جديد وصاغت القطاعات التي يجب الاعتماد عليها في بنائه فإن قوانين المالية انخرطت في خانة إعادة بناء الشيء المعتاد.وتواصلت هذه القطيعة بعد الثورة حتى أن المحاولة الوحيدة لبناء مخطط خماسي للتنمية بقيت حبرا على ورق ولم تساهم في تأثيث قوانين المالية وإعطائها النظرة الإستراتيجية التي تفتقدها لتبقى قوانين المالية باهتة دون روح .

- أما السمة الرابعة التي ميزت قوانين المالية فهي طابعها المحافظ والتقليدي .فقد غابت روح الابتكار والخلق والإبداع في اغلب سياساتنا العمومية وبصفة خاصة في قوانين المالية التي صاغتها مختلف الحكومات على الأقل في العقدين الأخيرين .فقد انخرط اغلبها في التمشي الاقتصادي والسياسي التقليدي والمحافظ الذي هيمن على السياسات العمومية في الميدان الاقتصادي بدعم ورعاية المؤسسات الدولية .وقد اغلق هذا التمشي باب الخلق والاجتهاد والإبداع لتصبح السياسات الاقتصادية وقوانين المالية إسقاطا لمناهج ورؤى تجاوزها الزمن في بعض الاحيان أو غير مواكبة وبعيدة كل البعد عن تحديات الواقع المحلي في كثير من البلدان .وقد لخصت المؤسسات الدولية التفكير وصياغة السياسات الاقتصادية في جملة من الوصفات الصالحة لكل زمان ومكان والمتحررة من خصوصيات الزمن والجغرافيا لتشكيل قوارب النجاة في دنيانا لو وقع اتباعها بدقة وبدون أدنى نقاش .
وقد أغلقت هذه المؤسسات والفكر السائد باب الاجتهاد والخلق والإبداع في المجال الاقتصادي ليكون دخول جنة الاقتصاد مرتبطا بمدى تعلقنا واحترامنا لتوصياتها ومبادئها .
لقد أثارت هذه الآراء والتصورات الكثير من النقد .وقد ساهمت النتائج المحدودة والضعيفة لهذه السياسات في تراجعها .كما في البلدان النامية والتي عرفت الكثير من النجاحات مثل بلدان شرق آسيا التي عرفت بتمردها على الرؤى التقليدية للمؤسسات المالية الدولية وبفتحها لباب الاجتهاد والإبداع .
ولعل ما يميز تجربة دولة الاستقلال هو نجاحها على مدى عقود طويلة في تجربة وتصور سياسات جديدة تقطع مع السائد .وساهمت هذه الرؤيا التي قادت مؤسسات الدولة في نحت تجربة تنموية فريدة مكنت بلادنا من التقدم بخطوات كبيرة في مجال التنمية .إلا أن حبل الإبداع انقطع منذ عقدين لتنخرط بلادنا في إعادة إنتاج السائد والأفكار المهيمنة في المجال الاقتصادي.ورغم النتائج الضعيفة والمحدودة في هذا المجال إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تكن لها الجرأة والشجاعة الكافية للقطع مع هذا التمشي والعودة إلى تقاليد الدولة الوطنية في الخلق والإبداع والابتكار لتجاوز تحديات بناء العقد الاجتماعي في بلادنا وحماية المشترك الجمعي .

- أما السمة الخامسة والأخيرة والتي تدعمت في قوانين المالية في هذه السنة فهي غياب المشاركة والشفافية .وكما اشرنا عديد المقالات فإن هذه السمة هي نتاج تاريخي لتجربة الدولة القوية والمتسلطة والتي لا تفسح مجالا كبيرا للشفافية والمشاركة .وفي رأيي فإن التحول الديمقراطي يصر إلى جانب المشاركة في الجانب السياسي إلى تدعيمها في المجال المالي والاقتصادي .
اشرنا في هذه الملاحظات إلى السمات الأساسية التي طبعت المسار التاريخي في بلادنا في السنوات الأخيرة والتي جعلت منه مسارا تقنيا نفت عنه طابعه السياسي والاجتماعي والإبداعي على المستوى الفكري .وهذا التمشي في قطيعة مع أهم السمات التي ميزت تجربة الدولة الوطنية في هذا المجال وهي الاستشراف وسحر الرؤى والتصورات الكبرى والإبداع والخلق والمشاركة والذي جعل تجربتنا التنموىة فريدة وقد كانت وراء الكثير من النجاحات وساهمت إلى حد كبير في بناء العقد الاجتماعي الذي شكل أساس تجربتنا الجمعية.
وهذا التمشي الذي ساد في مؤسساتنا في العقدين الأخيرين كان وراء الاختيارات الكبرى التي ساهمت في تعميق أزماتنا الاقتصادية ولمك تمكننا من بناء تجربة تنموية جديدة تكون رافدا مهما لتجربة البناء الديمقراطي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115