من تعبيرية الثقافة إلى تأويلية الفلسفة

كيف يمكننا اليوم أن نوكل إلى الفلسفة أمر كثرة الثقافات من جهة، وقيامها أفقا مشتركا بينها من جهة ثانية.

سؤالنا إذن سؤالان: أولهما: كيف تفهم الفلسفة، وكيف تتمثل كثرة الثقافات؟ وثانيهما: كيف تكون مشتركا بين الثقافات ؟
ولكن لننتبه إلى عبارة سؤالنا: «كيف يمكننا اليومَ ... ؟». وبعد ! فما اللافتُ في أن نسأل أي سؤال وأن نحيثه بالتأريخ له «اليومَ» ؟ نسأل مثلا كل يوم عن سعر الدولار «اليومَ»، أو عن حالة الطقس «اليومَ». نسأل كذلك عن حال هذا المريض أو ذاك: كيف أصبح اليومَ ؟ ونتأفف أحيانا مما آلت إليه القيم من سوء الحال «اليوم». لا شك أن الأمر بديهي في كل هذه الحالات : «اليومَ» يعني: «في يومنا هذا». هو توقيت لنا إذن وتأريخ. ماذا يعني ذلك ؟ يعني أنه يمكننا أن نجمع أخباره من سبورات البورصات المالية، أو من نشرات مراكز الرصد الجوي، أو من لوحة متابعة الحالة الصحية للمريض المثبتة على سريره في المصحة، أو من استطلاع آراء الناس الذي تقوم بع معاهد سبر الآراء .. نحن – في كل هذه الحالات التي أوردتُ - ننقل إذن حال اليوم وتبدّلاته من خلال ما يُقال عنه. ويعني هذا أننا في مجال العمومي الذي تشترك فيه كل حياة كما قال هيدغر. وهذا المقول، بل هذا القيل، هو ضربٌ من اللّغو الذي نحتكم فيه إلى ما قيل ويقال: خبرا عن كذا وكذا. ولكن ربما يذهب في ظن البعض أن ابتذال هذا «اليوم» إنما هو متأتٍّ من ابتذال ما ننشغل به فيه [أخبار البورصة، أو أخبار الطقس ...] وأننا لن نكون على هذا الابتذال لو تعلق الأمر بالأفكار مثلا. فليكن. ولكنه يمكننا أن نسأل عما يقوله اليوم هذا الفيلسوف أو ذاك ؟ عن زبدة ما جاء في كتاب فلسفي ما نُشر اليوم أو نُشر هذه الأيام. لا يبطُل الابتذال بتغيير الموضوع. وليس الحديث عن أخبار الفلسفة، أو عن أخبار السينما أو عن أخبار الشعر والأدب، بناقل لنا من عالم الابتذال اليومي إلى عالم الفكر الجوهري. إن النّظر الفلسفي ليس رواية للأخبار، وإن كان ينطلق منه ليرتّبها وينظّمها تنظيما أوليا. فالثقافات بنى قابلة للوصف والإخبار. ولقد جرّب الذين سبقونا هذا المشغل تجريبا: كيف يمكن مثلا أن نفهم كلّ كتب الرحلات ؟ ومصنفات العجيب والغريب، وطبائع الأمم، وكتب التاريخ المختلفة، إن لم تكن كتب إخبار عن أحوال تاريخية واجتماعات إنسانية وعن غرائب حضارية؟ ما الذي تجتمع فيه هذه الأخبار؟ ما هي «مواصل» التماثل التي بين الأخبار المفردة للثقافة ؟ هكذا يجيب هيدغر في تأويليات الحدثية: «إن مبدأ التماثل، الذي يخترق كلّ شيء ويهيمن عليه، والذي تبلغ ضمنه هذه الحياة التي لثقافةٍ ما إلى العبارة عن نفسها، والذي تظل متماسكة ضمنه حتى تتقادم، إنما يعرف بما هو في كلّ لحظة أسلوبُ الثقافة...».
إنّ وحدة الثقافة هي أمر ندركه كوحدة أسلوب تشقُّ تمظهراتها المختلفة. هي ليست كثرة إلا لدى عين تنظر دون النفاذ إلى الروح. ثمة روح للثقافة، وهذه الروح تجمع بين ما يكتبه الكاتب فيها، وما ينشده الشاعر وما يرسمه الرسام، وما تقدمه المعرفة الرياضية التحليلية، وما يُعزف من نغمات موسيقى الكونترابونكت، وحيل الرسم المنظوري.. دعوني أضيف : هي وحدة الأسلوب الذي يجمع بين فن المعمار، وتوزيعية الزمن الفلاحي، بين الألوان المحببة في النفس، وألعاب الصبية في الحقول، بين تقاليد التصاهر والتعاقد وبين علاقات الملكية الخاصة : كل ذلك هو ما يجعلكم تقولون : «هذه ثقافة». وما ذاك لأن بين عناصرها سببية ما، وإنما هي فقط متواجدة معا، فتأتلف بتواجدها ذاك واستقرار عناصرها على ذلك التواجد «حياة».
لماذا أكدنا كل هذا التأكيد، ولماذا قمنا بكل هذه المداورة ؟ فقط من أجل إبراز الوحدة الأسلوبية للثقافة ؟ طبعا لا . ما أردنا أن نبينه هو أن ترابط العناصر التي تكوِّن الثقافة لا يكتفي بأن يؤلف منها تواجدا متناسقا منسجما، وإنما هو خاصة يفضي إلى تصور أنّ الثقافات إنما تبلغ من التماسك الداخلي مبلغا لا يمكن معه إلا أن نتصور امتناع تحاورها، وتعذر انفتاحها على بعضها البعض. ثمة – بفعل هذه الخصوصيّة التي وصفنا – ضرب من المفارقة التي يصطدم بها كل بحث عن مشترك «إنساني» بين الثقافات ؟ فالثقافة تعبير. تعبير عن ماذا ؟ عن روح، عن شعب، عن عصر. وكل هذه من المعطيات التي تفضي بضرب من الآلية، إلى نوع اللاتواصلية الجذرية بين الثقافات : فالتعبير علاقة عمودية بين المرجع وبين العبارة. وينبغي مسير أميال [أجيال ؟] حتى نحوّل هذه العلاقة التعبيرية العمودية إلى علاقة إحالية دائرية، أعني إلى ضرب من العلاقة الإشارية المتضامنة التي لا يكتفي فيها التعبير بأن يكون صادرا عن .. وإنما يكون أيضا محيلا على.. . وحتى لو افترضنا «تآشر» التّعابير داخل الثقافة الواحدة بحيث يحيل المؤشّر الموسيقى على مشار إليه من طبيعة معمارية مثلا [تصوروا إيقاعا موسيقيا مثلا محيلا على تعرجات أقواس معمارية في قصر أثري] فحتى ذلك لا يخرج بنا من ثقافة إلى ثقافة، ويظلّ سور الثقافة الواحدة محيطا بنا، لأن ذلك النغم الموسيقي يحيل على تعرجات هذا القصر وتقوّساته هو بالذات، ولا يمكنه أن يستلهم شاعريته من أي قصر شبيه. لا شك أن الحديث عن تواصل أو حوار بين الثقافات يظل- في الحدود التي أدركنا لحد الآن – حديثا بلاغيا لا تسنده التجربة الحقيقية. ما الذي تفترضه إذن فلسفةٌ هي أفق مشترك للثقافات؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115