فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم. فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه من ذلك، فقلتُ له: لا. فانقبض وتغيَّر لونه، وشكَّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفرَّ لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرتُ به إليه».
_****_
سلاما يا أبا الوليد: أترى لو أدركك أبو العلاء كان سيحشرك في بعض أرجاء الجنة؟ أم تراه كان سيدركك وأنت في مرجى الشفاعة من أحد وجهاء قريش؟ أم تراه كان سيطل عليك من الجانب الآخر، آملا أن لا يطول مقامك فيه؟
عذرا أبا الوليد إن أنا طرحت السؤال؛ فلستُ في مقام ولا مجلس يمكناني من أن أوازن بين الحسنات والسّيئات، ولا أن أحصي مثاقيل الذرات. ثم إن مثاقيل الذرات عندهم بميزان الأرض وأوزارها عندي. ثم إني قد علمت كما علم الناس أن «الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء». فلعلك ممن يغفر لهم الرحمان ولعل أبا العلاء سيفتش عنك بيقين الواثق في جنات الرحمان.
قال أبو العلاء: بينا كنت أطوف في أرجاء الجنة إذ بشجرة وارفة الظلال في مكان فسيح، قد امتدّت أفنانها وأفنان أفنانها حتى لكأنها طاولت أقاصي الجنة، وإذا بجماعة من الناس قد تحلقوا حول شيخ يحاورونه ويحاورهم. فاقتربت منهم، فإذا هو أبو الوليد بن رشد، وقد تحلّق به نفر من كل لون، وإذا بهم يخاطبونه بكل لسان، والرجل يرد عليهم بلسان العربية فيفهمون عنه كما لو أن مقالته إليهم كانت تترجم في كل مرة إلى لسانهم. فاقتربت منهم فأفسحوا لي حتى إذا صرت قبالته بادرني: سل حاجتك يا أبا العلاء، فإنك من آبائنا، وليس للآباء طلب يردّ عندنا. قلتُ:
السّؤال الأوّل:
يا أبا الوليد: روى الشيخ محي الدّين أنّه التقى بك حين دخل قرطبة، فكان ما كان من أمر «نعم» و»لا». فلماذا أعدتَ طرح السؤال عليه بعد أن أجابك، وبعد أن أردف الـ»نعم» بـ»لا». ولماذا سألته من جديد إن كان ما وجده في الكشف والفيض الإلهي هو هو ما أعطاه لك النظر؟ أتأكيدا ليقين فيك؟ أم رفعا لشك؟ أم تحقيقا لكلام صبي ما بقل وجهه بعد، ولا طل شاربه؟ قل لي أبا الوليد: لم كان انقباضك واصفرار وجهك – على ما نقل لنا الصبي ؟ أتراك خفت أن تطير روحك، كما قال؟ هل كنت حقا تريد مطابقة الكشف بالنظر العقلي؟ وهبهما لم يتطابقا: فما المخيف في ذلك؟ هل كان الناس على مذهب الكشف في قرطبة؟ وهل كان الخليفة عليه؟ أم تراك فهمت الـ»لا» إشارة إلى عدم التطابق مع ملّة الجمهور، من فقهاء الخليفة وحاشيته؟ وفيم خوفك ساعتها وأنت تعرف أنّ التطابق لا يكون بين الملة المعطاة عند الجمهور وما يعطيه النظر، وإنما بين الملة «المعقولة» والمؤوَّلة، وبين ما يعطيه النظر البرهاني؟ قل لي أبا الوليد: أتراك خفت وشككت فيما عندك؟ ألا تكون قد فرحت بحجة أخرى، أعطاها لك الكشف، على أن الملّة الحقيقية ليست ملّة الجمهور وإنما هي ملّة رفعها الفلاسفة إلى العقل. عذرا أبا الوليد فقد درجنا على القراءة بعين الشيخ محي الدين، ونسينا أنك لا تنظر بتلك العين. فهل تستكثر علينا أننا لا نصدق أنك كنت تبحث في الكشف عما يشهد للنظر البرهاني؟
السؤال الثاني:
حين اعتبرتَ أن ما خالف النظر البرهاني من ظاهر الشرع وجب تأويله، عرّفت التأويل بأنه إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، وجعلت هذا الإخراج على عادة لسان العرب في التجوز. ألم يبلغ إلى علمك بأن الكنيسة المجاورة لك قد جعلت لتأويل الكتابة قوانين لا يمكن أن يخرج عنها، ونأت بهذه القوانين عن أن تكون في النصوص الإنجيلية في تواصل مع مبتذل العبارة اليومية ومعتاد تجوزها. فكيف تجرأت على أن تجعل النص القرآني يخضع في تأويل مجازه إلى عين قواعد التجوز في العبارة العربية اليومية. ألم تخش أن تخرج عن «قانون التّأويل» إلى قواعد عبارة يومية كأنما يشترك بها النّص القرآني مع معتاد أي عبارة يومية. لا شك أن قانون التأويل الحديث سيُنهج عين هذا النهج، ولكنّ هذا القانون قد جاء بعد لوثر عندهم، وبعد الإصلاح. أما أنت فأنهجت فيه وحيدا. فكيف أمّنت على نفسك لا فقط من أن يكون الأمر في النظر البرهاني مخالفا لما جرى عند العامة وفقهاء العامة، ولكن كذلك من أن تقول ذلك وتكتبه كتابة ؟
قال أبو الوليد: «إن حالنا معشر الفلاسفة كحال من يودع قراطيسه في زجاجة يلقي بها في اليم. فإذا عثر عليها من بعد السنين عاثر، لم يجد فيها ما كنا نحن وضعناه وإنما ما يستطيع هو قراءته وتهجيه».
ضميمة إلى غفران المعري: تحــت شجـــرة ابن رشد قال الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية:
- بقلم محمد أبو هاشم محجوب
- 11:43 15/12/2021
- 1425 عدد المشاهدات
«دخلتُ يومًا بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، ... وأنا صبي ما بَقَلَ وجهي، ولا طرَّ شاربي، فلما دخلتُ عليه قام من مكانه إِلَيَّ؛ محبَّةً وإعظامًا،