ديوجينس اللايرسي في كتابه عن طبقات عظماء الفلاسفة أن اكريسيفوس كان يقول مخاطبا اكليانتس (Cléanthe) ومنتصرا إلى فضائل الجدلية: «اعطوني مبادئ المذهب وسأستنبط الاستدلالات بنفسي». لعله تساءل ذات كابوسِ في ارتياب من اطّلع على الغيب : أتراني كنت في ذلك متفلسفا؟ هل يستقيم جعل الفلسفة فنا في استنباط الاستدلالات على مبادئ لم تضعها هي ؟ كيف يمكن الانتساب إلى الفلسفة حين نبذل قصارى الجهد في إقامة الدليل على صحة مذهبٍ أو على صواب تشريعٍ أو على دلالة طقس تعبدي .. ألم تُبتل الفلسفة، من يوم أن نذرتُ نفسي لأكون فقط «متكلما» عنها، بهذا الداء الثقيل: أن تكون مذهبا لا حرية، وتشريعا لا نقدا .. وترديدا لا سؤالا؟ ألم يكن الكلام الإسلامي استئنافا لهذه الوظيفة «الجدلية» في معنى أجرد بل في معنى قاحل من الجدل، حين كان ابن سينا وابن رشد يداوران غضب السلطان ويخاتلانه كل مخاتلة ؟ أي تفلسف هذا الذي يوظف أستاذ الفلسفة ليخدم شريعة حزب من الأحزاب ؟ أي تفلسف يبيح للأستاذ أن يلوّن درسه بألوان التعبد الملي وصنوف التعاويذ والأدعية الاعتقادية ذات اليمين وذات الشمال؟
هكذا كان خجل اكريسيفوس من نفسه عندما وجد، في كابوسه، أنه هو من سن هذا التقليد : أن يكون التفلسف مجرد كفاية تقنية في إقامة الدليل على ما يريد العَرْف .. ولكن ألم يكن زينون الإيلي هو الذي ابتدأ من قبله هذا التقليد حين وظف نفسه ليكون «صنيعة» برمانيدس للمنافحة عن أطروحته ببيان أن أطروحة خصومه ليست أقل شناعة .. هل تكون الجدلية أصل الداء ؟ هل ينبغي علينا أن ننكر اليوم فضيلة الجدلية بعد أن أرجأ إنكارها أفلاطون وتراجع في أناقة عن ذلك. ربما ينبغي أن نتراجع عن الظن بأن كل تفكير فهو جدلي .. هل تكون الجدلية أقصى مراتب العبودية .. عند هذا الحد ارتعد اكريسيفوس.. ودعا ربَّه أن يحميه من هذا الهذر الذي أطلعه عليه قبل أزيد من عشرين قرنا: ربما كان المآل السيء للفلسفة إنما يرجع إلى منطلقها الجدلي.
يجدّ المتفلسفون عندنا اليوم في أن يجدوا في علم الكلام تفلسفا أصليا، ونظرية تأويل: ويتبعهم اليوم كثيرون يريدون استنبات الفلسفة من علم الكلام: هل يعي أولئك الذين يتحدثون عن فلسفة قائمة على الهوية، أنهم يشدون الفكر إلى وثاق معياري: قرأت الفلسفات وخبرت قديمها وجديدها، عربيها وغربيها، ولم أجد فيها ما يعتد به فلسفة بحق إذا لم تصاحبه ارتعادة الحيرة واللايقين. ليس التفلسف أن تتفنن في استنباط الحجة وافتعالها انتصارا لرأي، وليست وفاء لفكرة، ولا لإيمان ولا ليقين: بل تعمل الفلسفة على زعزعة كل ما استقر. يمكنها هي على الأقل أن تسمح لنفسها بذلك، فليس الفيلسوف وصيا على الدولة، ولا هو خبير من خبرائها: مهمّة الفيلسوف أن يفكّر، ولذلك فمملكته الحقيقية هي الحرية، أمّا ما يصنعه الآخرون بتفكيره فهو ليس من شأنه، وإلّا لأصبح داعية من الدعاة الذين لا تنفك ألسنتهم تلهج بالأمر بالمعروف ... لستُ ضدَّ المعروف، ولستُ مع المنكر، وإنّما للمعروف والمنكر «قائمون» عليهما، وهؤلاء القائمون خصوم لي، بما أنا فيلسوف، خصومٌ ألدّاء إلى النّهاية. ليس الفيلسوف داعية إلى الشرّ، ولا داعيةً إلى الخير، وإنّما هو المشكّك فيهما، حتى لا يتحوّل الخير إلى صنم ولا يتحوّل الشرُّ إلى وثن ندفنه تحت الجمرات. إنّ خصم الفيلسوف هو الوثن. ولكنّه أيضا رحيمٌ به ما أن يتهاوى، فوحده الشر يمنع الخير من أن يتحوّل إلى صنم، أي من أن يستبطن الشرّ كلّه بلا رقيب. ينبغي أن يكون لنا من القوّة ما نستطيع به أن نتفكر في الشر. تلك القوة هي سخرية الفلسفة، وخفتها التي تتحلل بها من المطلقات. أمّا الأخلاق بما هي معيار سلوكنا اليومي فقد قال فيها ديكارت قوله الفصل: إنّها دائما وقتية، وإنما بما هي وقتية نلتزم بها.
«كابوس اكريسيفوس»: في سخرية الفلسفة
- بقلم محمد أبو هاشم محجوب
- 10:09 01/12/2021
- 942 عدد المشاهدات
اكريسيفوس Chrysippe (280-206 ق.م.)، الفيلسوف الرواقي، كبير مؤسسي مدرسة الرواق بعد زينون الكيثومي (Zénon de Cittium) : ويذكر