للفن المعاصر ودور الفنان في مجتمعاتنا كذلك.ولو بحثنا قليلا في أسباب هذه المكانة الخاصة لمريم بودربالة في الساحة الفنية المعاصرة لوجدنا هذا في ذاك.
فالثورة وروح التمرد التي تحملها في نظرتها الفكرية وحتى الفلسفية للفن تتجسد في اختيارات وإبداعات تخرج عن المألوف وتقطع مع السائد في الساحة الفنية التونسية.
• التمرد والثورة منذ البداية
ولدت مريم بودربالة في عائلة فنية ومثقفة.وبدأت سنوات دراستها الأولى في تونس لتواصلها في فرنسا اثر انتقال عائلتها إلى هناك .
واثر انتهاء دراستها الثانوية اختارت مريم بودربالة الفن التشكيلي لتواصل دراستها الجامعية في مدرسة الفنون الجميلة في مدينة آكس أن بروفنس (Aix en Provence) في فرنسا حيث ستتحصل على شهادتها الجامعية سنة 1985.ثم واصلت دراستها في مجال الحفر (gravure) في مدرسة تشلسي في لندن في نفس السنة .
والى جانب دراستها في المجال الفني كانت هذه السنوات سنوات ثورة ورفض ضد عديد المفاهيم والسياسات السائدة في ما اعتبره كثيرون في تلك الأيام سنوات جاك لانغ (Jack Lang) الوزير السابق للثقافة للرئيس الاشتراكي في فرنسا الراحل فرانسوا ميتران .وقد عرف المجال الثقافي في تلك الأيام طفرة كبيرة حيث تعددت المهرجانات والتظاهرات الثقافية مثل يوم الموسيقى ويوم السينما وتم الترفيع في الاستثمارات في المجال الثقافي إلا أن مريم بودربالة قامت بقراءة نقدية قوية وراديكالية لهذه المرحلة .فقد اعتبرت أن الكم طغى على الكيف في هذه الفترة في العمل الثقافي ليصبح الإبداع حبيس النظام الرأسمالي والأعمال الفنية عبارة عن سلع تخضع لنظام السوق .
كما تركزت نظرة مريم بودربالة النقدية لهذه الفترة على هيمنة الفن التخيلي أو المذهب القصوري (art conceptuel) في سنوات لانغ في مجال الفنون التشكيلية في فرنسا .وقد رفضت هذا التمشي لغياب الأحاسيس والبرود الذي كان عليه ولإيمانها بضرورة البحث على إبداع ينطلق من الأحاسيس الدفينة التي تختلج في صدر الفنان .
أما الجانب الثالث الذي أثار سخط مريم بوردبالة من الساحة الفنية في فرنسا فهو التهميش الكبير الذي يعيشه الفنانون المغاربيون والذي اضطر العديد منهم إلى السفر إلى بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وانقلترا التي فتحت لهم مجالات كبيرة للعمل والإنتاج .
وقد ولدت كل هذه الأسباب سخطا كبيرا وثورة على الأوضاع السائدة في الساحة الفنية الفرنسية في تلك السنوات عند مريم بودربالة دفعتها إلى قرار العودة إلى تونس للاستقرار والعمل بها غداة اعتداءات سبتمبر الإرهابية سنة 2011.
وسيعطي هذا القرار والعودة إلى تونس دفعا لتجربة مريم بودربالة الفنية ولمسارها الإبداعي.
• الفن الخام (art brut) والتمرد عل الواقع
انطلقت تجربة مريم بودربالة قبل عودتها إلى تونس .فقد أعدت عديد المعارض في فرنسا قاعات عرض مرموقة ومعروفة ومن بين هذه المعارض يمكن أن نشير إلى «Poussières» أو «غبار أتربة» سنة 1987 في معهد العالم العربي ومعرض بعنوان «Epreuve» أو «محنة « سنة 1991 بباريس و»Eclipse» أو «خسوف» سنة 1993 بمدينة نيس سنة 1993 «و «œil noir» أو «عين سوداء « سنة 1996 في إحدى قاعات تونس العاصمة .
وقد حصلت مريم بودربالة عل جائزة «أحسن فنانة تشكيلية شابة « في فرنسا سنة 1998 عن معرض قامت به في باريس تحت عنوان «visions d’une grande peste» أو «رؤى لوباء كبير».
وتواصل هذا الزخم الإبداعي لمريم بوردبالة عند عودتها إلى تونس حيث أعدت معارض كثيرة وشاركت في عديد المعارض الجماعية نذكر منها معرض بعنوان «universe» في لندن سنة 2008 و»sans titre» «أو «بدون عنوان» سنة 2013.ليتواصل هذا الزخم الإبداعي طيلة السنوات الأخيرة في معارض كثيرة في تونس وفي الخارج.
ولعل الأهم في تجربة مريم بودربالة عدم اقتصارها على الرسم والحرية الكبيرة التي ميزت تعاملها مع كل وسائل التعبير الأخرى كالتصوير الفوتوغرافي وفن الخزف وغيرها من الفنون ومجالات التعبير الأخرى .إذ تعتبر مريم بودربالة أن الفن مخبر تجارب يمكنها من البتجربة والتعامل مع كل وسائل التعبير والإبداع .فالفضول وحب الاستطلاع والخروج من مجالات العمل التقليدية تغذي وتؤجج الروح الإبداعية .
وقد ساهمت هذه المسيرة الإبداعية الثرية بالإنتاج والمعارض الفردية والجماعية في نحت رؤيا فنية خصوصية ومميزة عند مريم بودربالة .إذ أن تصورها الفن ينخرط في ما يمكن أن نسيمه باتجاه الفن الخام أو «l’art brut».فاللوحات ومشاريع الأعمال الفنية إذ تنبع بشكل مفاجئ من تفكيرها ومن ثورتها على الواقع .فجاءت أعمالها للتعبير عن هذا الرفض دون رتوش أو مواربة .وهكذا ساهمت الفنانة من خلال أعمالها في تحرير رؤيتها للواقع ورفض الجانب المتصنع فيه والناتج على هيمنة السوق والعلاقات الاجتماعية الاستغلالية .كما استفادت من عودتها إلى تونس باكتشاف واستعمال التراث الشعبي ومحاولة تسليط الضوء على بعض المهن الموغلة في القدم والتي بدأ يتهددها الانقراض إلا أن هذه المغامرة وهذه المسيرة الفنية الثائرة على كل أشكال الهيمنة لم تتوقف على مستوى إنتاجها وإبداعها الفني بل ستمتد إلى عملها كناشطة ثقافية في المجال الفني.
• الناشطة الثقافية وروح التمرد
في الساحة الفنية
لم يقتصر انخراط مريم بودربالة في العمل الفني على الرسم والمشاركة في المعارض الشخصية والجماعية بل شتمل كذلك إعداد التظاهرات والإشراف عليها حيث كانت مسؤولة (commissaire d’exposition) على عديد المعارض .وقد بدأت هذه التجربة في فرنسا لتتطور عند عودتها إلى تونس لتشكل جانبا مهما في مسيرتها .
وكانت نقطة الانطلاق في الإشراف على معرض الفن المعاصر لمدينة تونس سنة 2003 في قصر خير الدين الذي كان متروكا في تلك الأيام ليصبح اليوم احد الأماكن المهمة للعرض وقد استقبل منذ ذلك اليوم أهم معارض الفن المعاصر في بلادنا .
وقد اشرفت مريم بودربالة على إعداد عديد التظاهرات والمعارض منها معرض تحت عنوان «l’image révélée de l’orientalisme à l’art contemporain» أو الصورة من الاستشراق إلى الفن المعاصر سنة 2006 و«phototropisme» سنة 2006.
وكان هاجسها الأساسي من خلال تنظيم معارضها وتظاهراتها الدفاع وضمان الحرية المطلقة للفنانين في أعمالهم وفي إبداعاتهم .وكانت هذه القناعة وراء عديد المصاعب والهجومات من قبل التنظيمات السلفية بعد الثورة ومن ضمنها حادثة العبدلية سنة 2012 حيث هاجم السلفيون معرض ربيع الفنون في المرسى وطالبوا بسحب بعض الأعمال التي اعتبروا أنها تحمل مسا وخدشا من الثوابت الإسلامية والدينية .وباعتبارها أحد المسؤولين عن هذه التظاهرة وجهوا اليها تهديدات خطيرة .
ورغم هذه التهديدات والصعوبات التي واجهتها في المجال الفني واصلت مريم بودربالة الدفاع عن هذه النظرة الراديكالية في المجال الفني .
• الفن ثورة أو لا يكون
الى جانب إنتاجها الفني وإبداعاتها ومع نشاطها في تنظيم التظاهرات والمعارض الفنية الكبرى كناشط وفاعل ثقافي دافعت مريم بودربالة عن مواقف نظرية راديكالية في المجال الفني .فالفن عندها عملية سياسية بالأساس لأن الفنانين لعبوا دورا أساسيا في تغيير العالم وفسح المجال أمام الحلم من اجل غد أفضل .
فالفنان ، حسب مريم بوردبالة ، سياسي بدون حزب ينقل إلى الناس من خلال أعماله الفنية عصيانه ونقده الشديد واللاذع لمفارقاتنا وتناقضاتنا واغترابنا .كما يعرض الفنان من خلال أعماله نقده وشكه الراديكالي لقناعاتنا القاتلة .فالفنان يحرر المستقبل والأمل من المصادرة التي تقوم بها الأنظمة البرجوازية والتي تدافع عنها النخب من خلال دعمها للأنظمة القائمة.
هذه النظرة الثورية للفن ودوره الاجتماعي تمر عبر بناء علاقة جديدة بالموروث الشعبي وخرافاته وقصصه وأحلامه .وقد استعادت مريم بوردبالة هذه العلاقة من خلال إحياء شخصية كاراكون في أعمالها الفنية والتي تجسد سخرية الشعب من الأنظمة القائمة .
ويبقى التحدي الأساسي في المجال الفني اليوم حسب مريم بودربالة تحرير الفنان من سطوة الأنظمة القائمة ومن هيمنة السوق ليقوم بدوره التاريخي لفتح آفاق جديدة لتجربة التحرر الإنسانية .وهذا يمر عبر إعطاء تسهيلات سياسية وفنية للدولة تشجع الفنانين على الإبداع والإنتاج في استقلالية عن نظام السوق وعن الاختيارات الفنية المحافظة التي يفرضها على الذوق العام .
تشكل تجربة مريم بودربالة الفنية والثقافية والنظرية تجربة رائدة ومهمة باعتبار انها تضع الفن والإبداع بشكل عام في قلب التجربة السياسية الجمعية وتجعل من الفن رافدا مهما في ديناميكية التحرر السياسي والاجتماعي .اذ يبقى لفنان عند مريم بودربالة حارس الأمل الجمعي الذي يمنعه من الذوبان والخفوت ليواصل حلمنا المشترك بغد أفضل .
وجوه من الإبداع (29): مريم بودربالة وروح التمرد في الفن والحياة
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:51 29/11/2021
- 1418 عدد المشاهدات
تُعتبر مريم بودربالة من أهم الفانين التشكيلين المعاصرين في بلادنا ومن أكثرهم راديكالية لا فقط في عملها الفني بل في نظرتها وتصورها