من أجل جيل سادس من الحركة الوطنية لبناء تونس جديدة

المهمات الجديدة للحركة الوطنية التقدمية

لقد تشكلت فكرة الوطن التونسي نهائيا ثم تشكلت الدولة الوطنية التونسية بالكفاح ضد الاستعمار الخارجي. أما تشكّل الوطن العادل بدولته الوطنية المتجددة فسيحصل بالكفاح ضد الاستعمار الداخلي14.
إنّنا نعاني في تونس منذ عقود من منظومة الاستعمار الداخلي التي عطلت تقدم المشروع الوطني وهدفه الأساس: التقدم، وهمشت الجهات وكبلت البلاد في سعيها للتقدّم الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي الذي تتطلبه مقتضيات القرن الواحد والعشرين.

هذه المنظومة الي تأسست داخل دولة الاستقلال، أعادت إنتاج نفسها بقوة في فوضى بعد الثورة بل وتطورت لتلاءم مع المعطيات الجديدة. هكذا لم تحقق الثورة هدفها ببلوغ تونس جديدة متقدمة من خلال القطع مع تونس القديمة المنهكة والمتهالكة. العكس هو الذي حصل. وباستثناء معطى التحرّر من الرقابة وانفجار حرية التعبير (المسيطر عليها من طرف لوبيات متعددة) فلقد وقعت مضاعفة سلبيات كل الحقب التي سبقت وسببت الثورة وما قبلها من ثورات.

لقد خلّفت عشر سنوات من التجريبية والانحرافات والسياسات الاستحواذية المعادية للدولة الوطنية، في إطار هيمنة متواصلة للإخوان المسلمين، خرابا بنيويا في تونس. وسيبقى العار يلاحق القوى التي كانت بشكل أو بآخر محسوبة على القوى الوطنية القديمة لأن طمعها للمشاركة في السلطة والحصول على امتيازات قد جعلها تقوم بدور الخادم الأمين للإخوان المسلمين» خصوم الدولة الوطنية ذاتها.

حصيلة السنوات العشر هي:

- منظومة حكم فاشلة تشلّ البلاد وتمنعها من حلّ مشاكلها المستعصية، نظام سياسي لا يمكن اعتباره برلمانيا أو رئاسيا، ينتج سلطة تنفيذية برأسين ونظام انتخابي خائب ينتج برلمانا مقسّما عاجزا عن العمل

- منظومة اللامركزية لم تركّز على الموضوع الأساسي وهو إنتاج الثروة فتجزأت ومزّقت البلاد معها في اعتبارات تمثيلية وتجزيئية للسلطة.

- منظومة إنتاج الثروة، بقيت بدون رؤيا ولا اعتمادات مالية وتحوّلت إلى منظومة مديونية خطيرة وانهيار المؤسسات العمومية وأزمة حادة للقطاع الخاص زادته أزمة كورونا حدّة. ونتيجة ذلك بطالة مرتفعة وزيادة في نسب الفقر والتهميش.

- منظومة الثقافة بكل مكوناتها الحضارية مهمّشة بطريقة ممأسسة

- أما دور تونس على المستوى الخارجي فقد نجح الحكام المتعددون في تهميشه، رغم محاولات إنقاذية لم تستمرّ في بداية 2015، وتقريبا تحوّلت صورة تونس من «البلاد الواعدة الديمقراطية» إلى «حالة تهديد أمني» و»بلد فقير متسوّل».
يمكن، في جانب الحصيلة الإيجابية، وضع الحريات الديمقراطية العامة والخاصة التي وقع افتكاكها خلال الثورة، باعتبارها، إذا لم تذهب البلاد للفوضى، شرطا من مهما من شروط إمكانيّة التغيير نحو الأفضل.
والواقع أن الحركة الوطنية حاملة المشروع الوطني التقدمي هي حاليا في حالة ضياع تاريخي. ففي حين كانت أهداف أجيالها التاريخية السابقة واضحة فإنه بعد انتهاء جيلها الخامس من مهمته الدفاعية في إنقاذ البلاد فشلت الحركة في العودة للعمل من أجل غايتها الأسمى: التقدّم. وفشلت في وضع هذه الغاية أي التقدّم في سياق المهمات التاريخية المحددة الحالية والمستقبلية.

- التقدم بالدولة الوطنية إلى مرحلة جديدة في مسار استكمال بنائها في إطار هدف التقدم ولكن في سياق ما أعقب الثورة من ضرورة مراجعة لعلاقة الدولة بالمجتمع. وهذا يشمل منظومات متعددة أهمّها منظومة إنتاج الثروة وتوزيعها ومنظومة الارتقاء الاجتماعي15 .

- التقدم بالنظام السياسي والقطع مع النظام الهجين الذي أنتجه المجلس التأسيسي بالمرور للجمهورية الثالثة ومراجعة كل المنظومة الانتخابية والتمثيلية القائمة.

- التقدم بمعنى الرقي التكنولوجي الضروي للقرن الحادي والعشرين بالتحول الرقمي وثورة المعلومات وثروة المعطيات.

- التقدم بمعنى مراجعة جذرية للعلاقة بين المركز والجهات وبناء نظام الجهات الاقتصادي.

- التقدم بالإدارة والخدمات العامة: التعليم خاصة.

- التقدم في بناء رؤية استراتيجية بمدى نصف قرن على الأقلّ تشمل اختيارات جديدة اقتصادية وتنموية استراتيجية تقوم على سؤال: ما هي ميزاتنا اتنافسية لنحرّر إنتاج الثروة في سياق العالم التنافسي الرهيب الذي يحيط بنا.

- التقدم في التأسيس لمسألة الهوية والانتماء على أساس بناء «طابو» الأمة التونسية وإعادة بناء السردية التونسية بتوليف مكوناتها الأمازيغية والبونيقية والرومانية والعربية.

بشكل مكثف، توقفت الحركة الوطنية عن التجديد في المشروع الوطني ليواصل الرقي بالدولة والإنسان. توقفت عن معالجة مسألة التقدّم. ولن تستطيع الحركة الوطنية التونسية أن تواجه خصومها الذين ينكرون المشروع الوطني التونسي التقدمي إلا إذا تقدمت في مهمتها التاريخية واستطاعت بلورة رؤية معاصرة جديدة للرقي بالإنسان التونسي.
المعظلة هي أنه بدون المرور لتونس الجديدة المنشودة، بدون قفزة جديدة في مستقبل مختلف، فإنّ الدولة بذاتها، والاجتماع الوطني الذي تقوم عليه في خطر ماحق.

مهمة تاريخية تتطلب إجابات جديدة:
نحن إذن أمام مهمة تاريخية من نوع جديد تواجه الجسم الوطني التونسي. إعادة بناء الدولة المعبرة عن كيان الأمة في سياق رؤية وطنية جديدة. إنها مرحلة في مستوى خطورة القرار الذي أدى للثورة السلمية التي قادها أحمد باي ومحمد باي والمصلحون حولهم وأدت لعهد الأمان وأسست لفكرة الوطن التونسي، بنفس خطورة ثورة بن غذاهم ونتائجها، بنفس خطورة قرار ثورة التحرر من الاستعمار الخارجي، وفي نفس مستوى قرار المجلس الوطني التأسيسي ببناء الجمهورية الأولى على أنقاض الحكم الاستعماري والملكية الحسينية.
جيل دولة جديد يعبر عن الأمة اليتيمة، بنظام حكم يقطع مع الجمهورية الثانية البائسة، يؤسس لجمهورية ثالثة ولتونس جديدة.
هذا هو التحدي التاريخي الهائل المطروح أمامنا. لا شيء أقل منه. فمن هي القوة التي ستكون قادرة على إنجازه؟ التاريخ يقول أنه يمكن أن تحقق بعض الشعوب، في بحثها عن غايات عظيمة نتائج بالصدفة، بالفوضى، بالحظ الأعمى ولكن هذا الطريق يقود في أغلب الحالات للفشل والانهيار النهائي وحتى اندثار الأمم.
الطريق الأفضل هو أن يتصدى لمهمة التغيير الكبرى المطلوبة جيش، نخبة منظمة، في إطار حركة اجتماعية واسعة لها خطة وأهداف ووضوح مسار تاريخي. هذه هي الحركة الوطنية الشعبية الجديدة التي يجب بناؤها. حركة يجب أن تكون في قطيعة مع السائد ولا يمكن أن تنبع إلا من منطق القطيعة التاريخية كما كان بورقيبة قاطعا وحشاد قاطعا والشعب الثائر قاطعا.

لا يجب أن تبنى هذه الحركة في قالب حزب تقليدي. فمن الضروري وهي تطمح للتحديث المتواصل أن تأخذ بعين الاعتبار الأزمة العالمية للأحزاب الكلاسيكية بشكل خاص وأزمة المؤسسات التمثيلية الديمقراطية بشكل عام. إنها حركة اجتماعية تتعالى على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، على منطق الأفراد مقابل التنظيمات، والعكس صحيح. حركة تستوعب خاصة ديناميكيات الشباب والجهات والنساء.
ليس هدفها أخذ السلطة كهدف مجرّد في حد ذاته بل إعادة تشكيل كيان وطني جديد.

لذلك فإنّ كل المحاولات التي تحاول إعادة بناء جسم سياسي في سياق الجيل الخامس للحركة الوطنية (النداء) ومن خلال مقولات مثل عائلة وسطية ومعتدلة إلخ، لا معنى لها من منظور التحديات المطروحة حاليا على الحركة الوطنية ومشروعها الوطني التقدميّ.
الشخصيات المستقلة والأحزاب التي تعرّف نفسها بالوسطية والاعتدال وإلى غير ذلك، تعيش بالأساس أزمة هوية وأزمة رؤية. إنها تعرّف نفسها بالتخالف مع الاستقطابات فتبحث عن وسط بين صراعات، في حين أن المطلوب هو حركة وطنية مندرجة في مسار تحقيق المشروع الوطني في جيله الجديد. وتقود بكل قوة الاستقطاب من أجل هذا المشروع وضدّ من يناقضه.

إن الصراع ضد الحركة الإخوانية ليس خيارا من الخيارات المتاحة أمام الحركة الوطنية التقدمية بل هو ضرورة لوجودها ومنذ وجودها لأن الحركات الإخوانية هي نقيض الفكرة الوطنية ذاتها.
وعندما يتخلى الإخوان عن هويّتهم اللاوطنية وعن الخلط بين الدين والسياسة لن يصيروا إخوانا وسنتحدث وقتها عن تيار محافظ. ولكنّ هذا يدخل في باب التمنيات .
في نفس الوقت، فإن الحركة الوطنية التقدمية لا يمكنها بأية حال من الأحوال القبول بالفساد السياسي بأي نوع من أنواعه وأشكاله بحجة الوحدة في الصراع ضد الإخوان أو بحجّة أن الصراع ذو طبيعة «ثقافية» فحسب. يجب على من مازال واقفا في ذلك المكان أن يغادره وإلا فلن يكون جزء من أي إنجاز حقيقي في المستقبل.

وإضافة لمن سيقبل من الرموز والقوى الحالية أن يجلد نفسه نقدا مؤلما ليعيد صياغة دوره فينخرط في المسار الجديد، لا بد من قوى أخرى يجب إيجادها في المجتمع المدني وفي القوى الاقتصادية والاجتماعية التي تكافح من أجل وطن جديد. هذه القوى ستمثّل بالأساس الشباب والمرأة والجهات ولكنها تستطيع أيضا أن تجد دوافع قوية بين الطبقات الوسطى المنهكة وجيوش العاطلين. ولن يستطيع جمع كل هذه الفئات سوى حلم يتناقض مع الواقع المرّ الذي نعيشه. تونس جديدة مناقضة لتونس القديمة المحتضرة الحالية.
إنه الجيل السادس للحركة الوطنية. الجيل الذي لابد أن يتشكّل لمواجهة المهمة التاريخية الحاسمة. سيصنع زعماءه وخطابه وطرق عمله. ولا بدّ منه وإلا سيكون مستقبلنا غامضا إن لم يكن بائسا.
سنتوسّع أكثر في هذا الموضوع تحديدا في المستقبل القريب.

-----------

14 - الصغيّر الصالحي، الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة (طبعة ثانية تونس 2019)

15 - يقترح حكيم بن حمودة، أفكارا مهمة تتعلّق بتجديد العقد الاجتماعي.
د.حكيم بن حمودة، العقد الاجتماعي الأسس والسياسات، نرفانا، ديسمبر 2020

16 - يورد الباهي الأدغم، أن الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة كان يعتبر نفسه حزب يسار وسط « في 1950 كونّا مدرسة إطارات...وشرحت للحبيب بورقيبة الذي أراد أن يتعرّف على البرامج قائلا إن :برامجها تثير التاريخ، كيف كنا وكيف أصبحنا وكيف ننبغي أن نكون. تاريخ كل العصور، تاريخ خير الدين، ظروف انتصاب الحماية، إمكانياتنا بخصوص التجديد والحداثة وعرقلة الحماية لمسيرتنا وللديمقراطية، الكفاح ونظرتنا للدولة التونسية والمجتمع التونسي كيف سيكون...ونحن نعتبر أنفسنا من وسط اليسار المعتدل...»
الباهي الأدغم، الزعامة الهادئة، نيرفانا 2019، ص 245

17 - بشير موسى نافع، الإسلاميون، الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2010

(الجزء الثاني والأخير)
بقلم: محسن مرزوق

انتهى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115