«الطنجرة شدّت»: «عقوق» أم «قتل الأب»؟

بقلم: رامي البرهومي
«إنّ التعريف الصريح للرأي الرسمي في مجتمع يزعم أنّه ديمقراطي،من أنّه رأي الكافة،إنّما يخفي تعريفا

مضمرا وهو أنّ الرأي العام هو رأي أولئك الذين هم جديرون بأن يكون لهم رأي»بيار بورديو
بالتزامن مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الأخيرة التي عرفها الشارع التونسي، تعالت الأصوات التي اعترفت بمشروعية هذه الاحتجاجات من خلال التأكيد على الحق في التظاهر والاحتجاج الذي يكفله الدستور التونسي، غير أن هذه المناصرة «المخاتلة» قد اشترطت ضرورة الإحاطة بالشباب وحمايته من الانزلاق في مربع العنف وهو شرط محاط بالغموض والضبابية يثير العديد من الأسئلةفما المقصود بمربع العنف لدى هذه الأطراف؟وماهي مظاهره؟من هي الأطراف التي يهددها هذا العنف؟ وهل تعتبر حماية الشباب من العنف الغاية من هذه اللازمة التي صارت مألوفة في كل خطابات التهدئة؟أم أن حماية المنظومة «السيستام» هي الغاية المضمرة من وراء هذه الدعوة؟
وعلى الرغم من أهمية هذه الدعوة، ظاهريا، وماتعكسه من رغبة،وصفناها بالمخاتلة، والتي أبدتها بعض الأطراف السياسية في مساندة الشباب المحتج وفهمه وتفهّم مطالبه الاجتماعية،وهو مايمكن أن يرسم لبعض هذه الأطراف صورة الأب المرشد الذي يسهر على مصالح الأبناء ورعايتهم وحمايتهم خصوصا،إلا أن ما يثير الانتباه والحذر في هذه الدعوة،حقا،أن تتحوّل الرغبة الظاهرة في المساندة والتفهّم إلى رغبة مضمرة في الاحتواء والتقييد بنماذج الأوّليين وما اختطّه الآباء، وبالتالي ترسيخ دعائم المنظومة التقليديّة من خلال الدعوة غير المباشرة إلى التطبيع مع هذه الدعائم،وهو مانراه مضمرا في خطاب «التأطير».
«السيستام» وخطاب الرسمي والعمومي
لقد أصبح شعار فهم الشباب وتأطيرهم من القوالب الجاهزة أو الرواسم المستهلكة التي لم تعد تحظى بثقة الفئة الشبابية،نظرا إلى أنّها من الشعارات المستهلكة التي يردّدها الكافة دون تفعيلها على أرض الواقع أو إيجاد السبل الكفيلة لتطبيقها و تحويلها من دائرة القول إلى دائرة الفعل،وهو الأمر الذي عمّق،تدريجيّا،ومنذ حقبة بن علي، شعور الشباب التونسي بتخاذل الدولة خاصة أنّ هذا الشعار في مضمونه وطريقة طرحه ومناسبات ترديده،شعار أجوف لا يتعدّى حدود الخطابة ومداعبة بعض العواطف أملا في ضخ دماء جديدة في عروق منظومة سياسيّة يعي أصاحبها جيّدا أنّها لم تعد صالحة للاستهلاك، الأمر الذي أفقد الشباب التونسي الثقة في هذه المنظومة التي اقترنت، في تمثّل هؤلاء الشباب بالفساد والتلاعب والعجز عن تقديم البديل،ممّا أدّى إلى ظهور وعي كبير وملحّ بضرورة القطع مع هذه المنظومة،وقد برز ذلك في البداية عبر صيغ لغوية وشبكات خطابية تعكس مدى تبرّم الشباب من هذه المنظومة من قبيل «فلقطنا» «فدينا» «يزي» «الطنجرة شدت»...الخ
إذا كان الحقل بمعناه السوسيولوجي مجموعة من العلاقات والعناصر المتشابكة في مابينها وجملة من المواقع والسلطات والخيارات والمصالح التي تبنى على نحو تفاضلي يقوم على توزيع أنماط السلطة ورأس المال الرمزي يسعى الفاعلون فيه إلى احتكاره فإنّ شعار بعض السياسيّين إلى تأطير الشباب،لا يعدو أن يكون في باطنها موقفا تبناه الفاعلون السياسيّون في هذه المنظومة «السيستام»لتدعيم ركائز منظومتهم. فالدعوة إلى المحافظة على «الوطن» و«أمنه»، والتي أصبحت بمثابةالموعظة الحسنة، تتمحض للدلالة عندهم على أمن المصالح الشخصية، وأمن هؤلاء المحتكرين وهم على رأس السلطة،ذلك أنّ استقرار هذه الطبقة السياسية وحماية مصالحها الحزبية وتطويق المنظومة السياسية بحزام حماية وصدّ هو الهدف المضمر في هذه الدعوة.إنّ أعمال العنف التي شهدتها البلاد مؤخّرا،وإن كانت خارجة عن القانون، فإنّ لها الفضل في تعرية طبيعة هذه المنظومة وخطابها الكلاسيكي الذي يقف عاجزا عن فهم الفئة الشبابيّة وإدراك خصوصيّة نُظمها القيميّة وطرائقها في التعبير التي لا تمثل تخريبا للممتلكات العموميةوالخاصّة، بقدرما تمثل تهديدا يزعزع استقرار تلك المنظومة التي يجب أن تترسّخ.ونجد في خطابات هؤلاء السياسيّين دعوة مضمرة إلى صمت الشباب وتطبيعهم مع مظاهر التفاوت الاجتماعي واحتكار السلطات والفرص وهو ما يمثل إقصاء لهم من دوائر صنع القرار.
ينتمي خطاب هذه الأطراف السياسية إلى ما يمكن أن نستعيره من بيار بورديو «الثقافة الشرعيّة المورثة»، وهي الثقافة التي ترى أنّ التقدّم والتطوّر مشروط بقيم الالتزام والانضباط وحماية المصالح المشتركة، وهي جملة المحدّدات التي استقرت مع اللحظة التاريخيّة المقترنة ببناء الدولة الوطنيّة من جهة،وكرّست صورة أحاديّة ومختزلة للشباب ارتبط فيها بمظاهر العنف والتخريب وهو ماجعل هذه فئة،نتيجة ترسّخ هذه النظرة وعوامل أخرى، فئة معطّلة تجيد أعمال الشغب حسب تلك الأطراف .
إنّ تمسّك أولئك الأطراف بمعايير «عقل جمعي»كان قد ولد في لحظة تاريخية لا يمكن البتة ترهينها في هذه اللحظة المستجدة،إذ هو «عقل جمعي» يقوم على قوانين رمزيّة تقنن رؤية للعالم وطريقة لإدراكه لا تتماشى مع البنى الذهنية لشباب اليوم وبذلك تغدو هذه الدعوة رأسمال ثقافي رمزي يسعى إلى تدعيم الثقافة «الشرعيّة» التي أوجدته وهو ما يمكّنها من إعادة إنتاج نفسها مقابل إقصاء أيّ عمليّة إنتاج أخرى محايثة أو موازية يمكن أن تنافسها،ولمّا كانت اللغة بوابة الفكر ومعبرا له، فإنّ هذه الثقافة تعمل على إعادة إنتاج نفسها لغويّا وخطابيّا عبر استهلاك ما يسميه بيار بورديو السوق اللغوي التقليدي «الشرعي» القائم على دعوات التهدئة والمحافظة والتقييد والالتزام والطاعة واحتكار العنف، وهو إنتاج خطابي رسمي وعمومي وشرعي يمكّن مؤسّسات الدولة من تعزيز وجهة نظرها وإقصاء بقيّة وجهات النظر وفرض «أنا أعلى» تزاوج بين توليد انفعالات وطنية والتذكير باحتكارها للقوّة والعنف.
الشباب التونسي ....الابن العاق
إنّ ما يمكن أن نصف به هذه الفئة هو عدم اعترافها بالحدود والمعايير وسعيها المتواصل إلى تجاوز كلّ المؤسسات،وخاصة الرمزيّة منها، التي ترتبط بهذه المنظومة،وهو مايدفعنا إلى توسيع مفهوم المنظومة»السيستام»،فهو يتجاوز الحقل السياسيومحتكريه ليشمل كذلك مؤسّسات الذوق واللباس والأكل وغيرها من المؤسسات التي ترتبط، في تمثّل هؤلاء الشباب، بالمؤسّسة وجملة استتباعاتها وثقافاتها.
وتعتبر المناطق التي يلتجئ إليها الشباب مجموعة من المخفّفات الاجتماعيّة التي تمكّنهم من خلق وجود نوعي يقوم على اللاحدود وعدم الاعتراف بالمعايير والضوابط، ويبرز لنا هذا من خلال عديد المظاهر والمجالات ؛فلعبة كرة القدم،مثلا، وأشكال الاحتجاج على التحكيم ومناقشة سير المباريات، والذي عادة مايركز على عدل حكام المباريات، يمكن أن نعتبرها تحقّقا رمزيّا للعدالة الاجتماعية، ويمكن أن نعتبر مشاركة الشابّ في مناقشة مباراة كرويّة معادلا رمزيا للمشاركة في الفضاءين السياسي والاجتماعي المغيّب عنهما، فضلا عن طريقة الملبس التي يتحدّى من خلال الشباب كلّ أشكال الذوق الرمزي وماتواضع عليه الناس،وخلق تصادم بينه وبين الأجيال التي سبقته من خلال مايخلقه التعارض بين أنواع اللباس الذي يمثل في حقيقة الأمر تعارضا بين الإيديولوجيّات.كما يخلق الشباب التونسي وجوده الذاتي والمنعزل عن الرسمي من خلال ثقافة لغوية لا تستهلك ما يطرحه السوق اللغوي الرسمي من رصيد «شرعي متوارث» يوصف، بالتعارض معالخطاب الشبابي،بالأخلاقي والمحترم،وتظهر هذه اللغة الشبابيّة من خلال رصيد معجم ييشهد نموا وانتشار سريعين،ويقوم بالأساس على كثرة الكلمات المختصرة التي لا تخضع في مبناها النحوي والصرفي إلى الضوابط الرسميّة، إلى جانب انتشار واسع للاستعارات التي «يحيا بها الشباب»، وهي استعارات تستقي صورها من العادي واليومي وخصوصا الألفاظ النابية،وهو ما يجعل بلاغة هذه الألفاظ، التي لم تكن مقبولة في السابق، ظاهرة لسانية جديرة بالاهتمام والدرس خصوصا وأنها تخفي رغبة في التعرية والفضح ونزع الحجاب عن كل ما هو مألوف وهو ما يعتبر عمليّة لا واعية تسعى إلى هدم دعائم المنظومة و»السيستام».تمثل هذه الظواهر وغيرها مخففا اجتماعيّا،لا يجب التعامل معه سطحيا،بقدر ما يجب تأويله تأويلا رمزيّا،تصبح فيه كل ميول الشباب علامات سيميولوجية لا تدلّ على ذاتها بقدر ما تصبح إشارة لأشكال الرفض والهدم ونزع الاعتراف من هذا «الأنا الأعلى» الاجتماعي والسياسي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115