الاستقـــــــــــــرار زمن الشـــــك

بقلم: د.فتحي التوزري سياسي مستقل
بعد ما يقارب من عشر سنوات من التقلبات أصبح الاستقرار السياسي حاجة ضرورية وأكيدة لمواجهة «زمن الشك والحيرة»

الذي تعيشه تونس بمعنويات منخفضة وصورة مشوهة وخاصة بقدرات تتضاءل مع مرور السنين.
كيف لهذا الاستقرار أن يتحقق في زمن تشتد فيه المنافسة على المستوى الدولي، وتشتد فيه المنافسة على مستوى الإقليم كما تشتد فيه المنافسة داخل البلاد، في مشهد مشدود إلى أفق قاتم يوحي باحتمال انفجارات أو تغييرات جذرية يصعب معها التفكير في الإصلاحات الكبرى الضرورية.
هل لنا القدرة على التأقلم مع هذه المتغيرات الاستراتيجية الكبرى والتفاعل الجيد مع أطراف خارجية مؤثرة تسعى لتحقيق مصالحها وتثبيت مكتسباتها وتعزيز نفوذها؟ وهل لتونس القدرة الكافية والمناعة اللازمة للصمود في «زمن الشك والحيرة» وبأي أدوات سياسية واقتصادية وثقافية ستحدد دورها وسبل خلاصها وخلاص شعبها؟
الواضح أن البلاد في أزمة وأن المسار السياسي يتقدم بخطى ثقيلة وفي اتجاهات متبعثرة وسط الضبابية التي تلف المناخ العام.
الواضح أيضا أن الدولة أصابها الإرباك، فأهداف الثورة لم تكن في مستوى قابلية المجتمع لهضم مثل هكذا تغييرات جوهرية.
الواضح أيضا أن المهجة العامة سلبية إزاء الشأن العام ما يعطي الانطباع بالسقم ويحيل على تدهور المعنويات في كل مستويات الدولة.
الواضح أيضا أن محركات النمو متعطلة، وأن المشاكل الكبرى التي كانت تعرفها البلاد قبل الجائحة وقبل الثورة مازالت تطفو على السطح ويضاف إليها باستمرار كم هائل من المشاكل تبدو مستعصية على الحل.
الواضح أيضا أن المشهد السياسي الحالي غير منتج لقيم الديمقراطية، فهو على تعدده واختلافاته وتناقضاته ينضح بالكراهية ويؤسس للعنف ويتطلع لمعارك وجودية. نكاد نلمس هذا يوميا في تطرف المواقف والدعوات للاحتراب والمزايدات الشعبوية المقيتة.
الواضح أيضا أن جزءا كبيرا من الشعب يرفض القواعد الواضحة ولا يحبذ الخروج من المناطق الرمادية لما فيها من هوامش وما تتيحه من فرص وما تعود عليه من الاعتماد على هذا الغموض لإدارة مصالحه بطيف واسع من الممارسات والتأويلات والتبريرات.
الواضح أيضا أننا أمام تمزق حقيقي للنسيج المجتمعي كما نستشفه من مظاهر التهميش والإقصاء والاستبعاد وما ينعكس في السلوك والخطاب أثناء المواجهات المتواترة بين مختلف الفئات والأجيال والجهات. فالساحة الاجتماعية منذ سنوات وهي حلبة للصراعات بدرجات متفاوتة تشتد حينا وتخفت أحيان أخرى، ولئن بقيت تحت سقف محدود وتأطير نسبي لكنها لم تشهد الهدوء طيلة العشرية الأخيرة وتبدو مرشحة لمزيد من الصراعات بتعاظم الكبت وتعدد أنواع الغبن وبتواجد طموحات غامضة واستلهامات مفزعة.
الواضح أيضا أنه في غياب الإصلاحات المطلوبة تضعف المشاركة، ومن خلالها يتفكك الانتماء للدولة، وبذلك تضعف المؤسسات وتقل نجاعتها، وهو ما يجعل النخب الحاكمة في حالة عجز وفشل.
الواضح أيضا أن البلاد شهدت تدهورا دراماتيكيا وسريعا قل نظيره في بيئتها الأمنية نتيجة انهيار البنية الاقتصادية التقليدية، وهشاشة الجوار الإقليمي بالإضافة إلى أعباء الجائحة.
الواضح أيضا أن الحكومات المتعاقبة لم توفق في ترتيب الأمور وفي توضيح الطريق وفي صياغة مبادئ توجيهية واضحة للخروج بالبلاد من أزمتها.
الواضح أيضا أن لا حلول سريعة ولا أجوبة ايديولوجية لهذه الوضعية المعقدة، فالخروج سيكون بطيئا وسيتطلب جهدا جماعيا مكثفا خاصة على مستوى التخطيط الاستراتيجي وترتيب المسارات.
لهذه الأسباب وغيرها علينا التقدم نحو الاستقرار وطرق أبوابه من جديد حتى نسترجع شيئا من حياتنا الطبيعية ونضمن للبلاد مناعتها ونفتح بالمشاركة سبلا حقيقية للخروج من الوضع الحالي ونرفع من قدرات الجميع ونصبو نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
يتحقق الاستقرار بالإرادة سواء كان ذلك بالصراع المؤطر أو بالحسم والغلبة. والاستقرار نتيجة، تفضي إليها مجهودات الدولة (مؤسسات تعمل بشكل جيد وبتناغم وتكامل وانسجام، قدرة متعاظمة على الاستشراف والاستجابة السريعة للاحتياجات، تغير ملحوظ في حياة الناس وفي بيئتهم، إدراك بالطمأنينة والأمن) بما يمكنها من وضع مخططات طويلة المدى وكذلك ضبط الإيقاع المطلوب مع الفاعلين الاقتصاديين ومع الشركاء الدوليين بما فيهم المانحين والممولين.
ونحن في مستهل عام جديد، وعهدة تشريعية مضى عليها سنة، وسياق دولي يرزح تحت طائلة الجائحة لا تبدو الأمور تتجه نحو الاستقرار. كما إن الأزمة الحالية بين مؤسسات الحكم الثلاث (الرئاسة، والحكومة والبرلمان) أضعفت مبررات التهدئة ولازالت تغذي الصراعات. ولا تبدو النخب السياسية والأطراف الفاعلة آبهة بإفراغ الحياة السياسية من بعدها الإنساني والذهاب بالصراعات إلى ممارسات مقرفة ومنفرة وحسابات فئوية ضيقة.
علينا الإقرار بوجود إشكاليات حقيقية في الدلالة والمعنى والأبعاد السياسية للاستقرار المنشود تتطلب توضيحات خاصة على مستوى الجدل القائم حول طبيعة النظام السياسي وفضاء الحريات. كما علينا أيضا الإقرار بوجود صعوبات سياسية حقيقية تتطلب إطارا واضحا للخروج من الأزمة وأدوارا تحكيمية ومسهلات للتعايش.
فبقدر ما هناك شبه إجماع على أهمية الاستقرار هناك اختلافات كبيرة في مدلولاته. فلكل طرف فاعل على الساحة موقفه وتفسيره للاستقرار وما يتطلبه ضمنيا من أن يكون طبعا هذا الطرف حاضرا ضمن معادلة الاستقرار المطلوبة وفي موقع مريح. إذ لا يمكن بأي حال استبعاد موازين القوى وأهمية حسابات الربح والخسارة لكل طرف في معادلة الاستقرار المعقدة والحساسة. فالاستقرار ليس مطلوبا لذاته أو لأنه قيمة مضافة وإنما لوظيفته الحوية في خلق ديناميكية المراكمة الضرورية لتغيير الأوضاع وتطويرها وتحقيق أهداف تنموية كبرى. كيف لطرف سياسي على غرار اليسار الراديكالي مثلا أن يقبل بالاستقرار وهو غائب (بحكم الانتخابات طبعا) عن المؤسسات ودوائر الحكم. وكيف لمجموعات أخرى مازالت تتحسس موقعها في المشهد السياسي أن تقبل باستقرار يغلق في وجها أبواب الوصول إلى مراكز القرار. وقد يرى البعض الآخر أن استقرارا ليس هو المستفيد الأبرز منه أو صاحب الريادة فيه لن يرى النور. وعديد الأطراف لها الإرادة والإمكانية الفعلية والمهارة اللازمة لإفساد المسارات المؤدية للاستقرار بما فيها تحريك الشارع وتأجيج الوضع الاجتماعي وتوظيف الأعلام وتوريط مؤسسات الدولة والزج بها في الصراعات.
والأمثلة عديدة على صعوبة تنزيل الاستقرار وإغلاق المرحلة الانتقالية بتحقيق أفضل صيغة للاندماج السياسي تحمي الدولة من الارتباك والتطرف وتضمن الدخول في مسار مستقر وواعد. ولم تستطع انتخابات 2019 معالجة هذه المعضلات بل ربما زادت في تعقيد الوضع وإرباكه.
بعد ما يزيد عن السنة عن آخر انتخابات عرفتها البلاد مع ما وضع فيها من آمال لتحقيق قدر من الاستقرار شهدنا تشكل ثلاث حكومات: الأولى سقطت قبل نيل الثقة، والثانية استقالت نتيجة أزمة وقع النفخ فيها واستهدفت الحكومة بعد ثلاث أشهر من نيل الثقة والثالثة تشكلت في بداية سبتمبر ولا تبدو حظوظها أفضل من سابقاتها.
لم تتمكن حكومة السيد الحبيب الجملي من المرور وليس هذا السياق المناسب للحديث عن الأسباب والسياقات. وقد استهلكت حكومة السيد حبيب الجملي ما يقارب الشهرين لتشكيلها والنتيجة تأخرت استحقاقات الاستقرار. ولم تتمكن حكومة السيد إلياس الفخفاخ من البقاء رغم الفرصة الحقيقية للاستقرار. فحسابات البعض وأخص هنا بالتحديد حركة النهضة وغياب البعض الآخر عن التشكيلة الحكومية وأخص بالذكر قلب تونس، بالإضافة إلى إرادات أخرى معقدة ومشبكة شعرت بتهديد محتمل لمصالحها ونفوذها شكل حافزا قويا لاستهداف حكومة إلياس الفخفاخ ومناخا ملائما لأسقاطها. وفي الأثناء توفرت مبررات واهية ووقع تجييش الرأي العام وتوجيهه وتمكنت الأطراف المستنفرة لهذه المهمة من تشكيل تحالفات ظرفية وإسقاط الحكومة ومعها فرصة ثمينة لتحقيق قدر من الاستقرار والانطلاق في الإصلاح. لم يشفع للحكومة أدائها الجيد في إدارة أزمة الكوفيد ونجاحها في بناء الثقة مع الشعب لتحمل التضحيات المطلوبة والإجراءات الثقيلة لمواجهة الجائحة، وقد يكون هذا النجاح وما تتطلبه من جهد وتركيز سبب مضاف لأستهداف حكومة دعت منذ البداية لتثبيت الاستقرار ووضعت بكل وضوح خارطة طريق للإصلاحات الكبرى للبلاد.
وبعد ثلاثة أشهر من تشكيل حكومة السيد هشام المشيشي تحركت الأوضاع من جديد وستشهد الأيام القادمة تحويرا وزاريا كبيرا يعتبر بمثابة تشكيل حكومي جديد. وهكذا تسير الأمور ولا يوجد أدنى مؤشر على قرب تحقيق هدف الاستقرار المنشود. ربما ستحاول النهضة ومعها الحزام السياسي الحالي لحكومة السيد هشام المشيشي تثبيت استقرار هش لفائدة هذه الأطراف المتحالفة والتي تتلذذ بهذا الانتصار وتسوق له على أنه أفضل صيغة حالية للاستقرار في تجاهل مقصود ومحسوب لصبغته الفئوية البائنة وضيق أفقه السياسي خاصة على مستوى غياب انسجام مؤسسات الحكم وضعف نجاعة الدولة وتدهور قدرتها على القيام بوظائفها الأخلاقية والتمكين والحماية لكافة فئات الشعب.
كما تجدر الإشارة إلى أن الاستقرار يترجم في السلوك المجتمعي والخطاب السائد في أوساط عديدة تضررت من العشرية الأخيرة بالحاجة الأكيدة والملحة للأمن وللنظام وإن لزم الأمر لعنف الدولة. وهناك أحزاب فاعلة وصاعدة تستثمر بجدارة في هذا الاتجاه وتسوق للدولة القوية، والحاكم القوي وتؤثث خطابها باستمرار بمعاني وصور تحيل على القوة والحزم والصرامة.
الذهاب إلى الاستقرار يتطلب مقاربة إدماجية واسعة تلعب فيها مؤسسات الحكم دورا حيويا في إطار ما يتيحه الدستور من توزيع السلط وفي إطار ما تمكنه القوانين من ضمان مشاركة الجميع في العملية السياسية من مواقع عديدة وبأدوات مختلفة وبفرص متاحة للجميع. وفي هذا الإطار لا بد من جهد جديد ومكثف لتطوير النصوص القانونية، وخاصة القانون الانتخابي في إطار يسمح بوضع هذا الجهد في مأمن من التوظيف الحزبي أو المصلحي الضيق. ويمكن لأداور تحكيمية أن تقوم بهذا الجهد وتقترحه على الأطراف الفاعلة سياسيا لتبنيه والذهاب به نحو الاستقرار بقدر معقول من الضمانات.
المطلوب اليوم هو الذهاب إلى أفضل استقرار ممكن وواعد، وتأطير الأزمة الحالية بأدوار جديدة ومتمكنة لتجنيب البلاد الانزلاق نحو الفوضى بما يشجع على المشاركة ويضمن للبلاد مناعتها وأداء دورها الحضاري من خلال ما تكتسبه من طاقة شبابية وما تزخر به من موارد وطاقات ومخزون ثقافي. يمكن تحقيق ذلك من خلال مشروع سياسي لتونس موجه نحو المستقبل ويجسد الخيار الأفضل لتحقيق الرخاء، ومجهز لاستقطاب جيد يتيح خيارات حقيقية.
أرادت النهضة أن تكون ذلك المشروع ولكنها فشلت فشلا ذريعا. استهوتها زبونية «الحزب الحاكم» كمنظومة فتبنتها مبكرا وطورتها ووظفتها أسوأ توظيف بما أفسد الحياة السياسية. استهوتها الدولة كأداة لتغيير المجتمع فاستثمرت مبكرا في التغلغل في مفاصل الدولة لضمان سيطرتها وديمومتها فأرعبت منافسيها واستفزتهم وأفسدت مبدأ حياد الإدارة وحياد المؤسسات السيادية الأخرى. استهوتها القوة فطفقت تنسف من حولها كل تشكل سياسي قادر على منافستها بجدية، فسهلت بروز التعبيرات المتطرفة والشعبوية ووظفتها في معاركها وأدرجتها في تكتيكاتها وتغاضت عن بعض مظاهرها فأربكت المشهد السياسي وأفسدت الانتقال الديمقراطي. استهواها الحكم وما يوفره من فرص فتشبثت بالبقاء فيه، وأنجزت تحالفات غير طبيعية، وتأقلمت مع البيئة المعادية وتخلت عن وعودها وكرست جميع قدراتها للبقاء في الحكم فأضاعت البوصلة وتخلت عن القيم التأسيسية والواجبات الوطنية. واستهوتها كذلك اللعبة الدولية وأغرتها وظائف إستراتيجية فارتمت في لعبة المحاور وأفسدت المبادئ السليمة التي قامت عليها سياستنا الخارجية.
لذلك لن تكون النهضة هذا المشروع الذي يليق بتونس ويحقق فخرها ورخائها ويعزز سيادتها. فقد فشلت النهضة في امتحان المصداقية إذ اختارت أن تحصن جمهورها بالزبونية فأفسدته، واختارت أن تستفيد حصريا من الانتقال الديمقراطي فعفنت البيئة السياسية. فشلت هذه الحركة الطائفية في أن تكون مشروعا لنهضة تونس، كما فشل النداء ومن بعده «تحيا تونس» في أن يرد الاعتبار للبعد الإنساني في العملية السياسية، ويضع البلاد في رؤية حضارية ويخضع العملية السياسية لمعايير الجودة. هناك فرصة حقيقية لتعديل الكفة ولإبراز مشروع العائلة الديمقراطية في مواجهة النهضة وأهوائها «السلطانية» ولسد الذرائع لبروز أجوبة شعبوية أو فاشية أو سلطوية تحن للماضي وتلعن التاريخ وتستثمر في قلق التونسيين والتونسيات ويرتفع صوتها من استبيان إلى آخر ما يحيل على أهمية العنصر الزمني.
يجب علينا في هذا السياق تحويل الخلل السياسي الحالي إلى وقود لمحرك التغيير نحو الانخراط في ديناميكية جديدة تؤسس لواقع أفضل يوفر شروط التنافس ويحسن قواعده ويسهل الانخراط في الإصلاح والتخطيط للمستقبل لتحقيق أهداف الثورة ولبناء صرح متميز نعتز به وننجز من خلاله أهدافنا الوطنية ويمكننا من التأقلم مع المتغيرات الاستراتيجية الكبرى والتفاعل الجيد مع العالم الخارجي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115