هكذا كان الاهداء اراده الكاتب لعتبة تبشر بفجر جديد وبعوالم متغيرة وعادلة في روايته الثانية «لقاء الليلة الصفر» عرج بنا مصطفى بن احمد الى غياهب واسرار ثورة الربيع العربي في تونس في لحظاتها الأخيرة وليلتها الصفر ...
لم تكن الرقابة المتسلطة قبل الثورة تسمح لأحد بالتعبير والحرية بل تضع المثقف والمواطن على حد السواء تحت تبعات الشبهة والملاحقة وخطر الاعتقال والتهديد بالسجن. فكان قدر اغلب شخصيات الرواية قد تراوح بين الهزيمة والانكسار والسجن والخيانة ...فلان «الأدب يتحسس المأساة، ولا يستطيع تفاديها» تصبح رواية لقاء الليلة الصفر احتمالا ممكنا لمساءلة الذات وتعبيرات الكراهية والحقد ومواجهة الرعب والسلطة والتعبير عن لحظة الثورة التي تلهب البلاد.
ان كتابة الثورة ضرورية للصمود وللتوثيق وللتاريخ لأن رسالة الأديب خاصة والادب عامة تلامس جوهر الانسان وقضايا الإنسانية. فالانتفاضات والثورات التي قامت ضد القمع السياسي والتسلط الظلم في العالم العربي والعالم الهمت الكثير من الأعمال الادبية والسير الذاتية والروايات والشهادات الحية والتي وثقت لحظة قصوى وفارقة في حياة الشعوب على عبارة ياسبرس، لحظة لخلجات وتعبيرات انسانية مفصلية.
وفي حديثه عن ادب الثورات يصنف الناقد الإسباني والاديب العالمي خوان غويتصلو رواية الثورة في خانة الأدب الملتزم لأنها حسب رأيه الوحيدة القادرة «على تحويل المادة الخام التي الهبت حناجر الشبان والشابات والكهول والعجائز العرب في ميادين الحرية إلى مادة لعمل أدبي ينتقل بالرواية العربية إلى المستوى الذي مرت به بقية الدول في أوروبا وأمريكا». لذلك يطرح أدب الثورة اسئلة على غاية من الاهمية السياسية والاجتماعية والابداعية على عبارة غويتصلو نفسه وهي» كيف يمكن التقاط هذا النبض الثوري المجتمعي وتجسيده في عمل أدبي لا يغرق في الوصف ولا يسقط في فخ التأريخ ويتجنب التقرير؟ « كيف يمكن لعمل أدبي أن يصوغ الثورة في نفس الوقت الذي تصوغه الثورة نفسها كما حددها» غويتصلو1.
رواية مصطفى بن أحمد هي رواية الثورة التونسية توثق لها بامتياز ويكشف عنوانها المتبرج المثقل بالدلالات والايحاءات بزمنية موغلة متسارعة. أهمية العنوان في «لقاء الليلة الصفر» تكمن في صفة الاتصال الأولى التي يقيمها بين النص والمتلقي، فهو على عبارة إمبرتو إيكومفتاح تأويلي مهم يربط القارئ بنسيج النص الداخلي والخارجي ربطا يجعل من العنوان جسرا يعبر به للتنبئي بخفايا الرواية والشخصيات. كما حدده النقد المعاصر في كتاب جيرار جينات «العتبات»2 الذي يعتبر عتبة العنوان علامة كاملة الدلالة وذات بعد إيحائي مهم في تأويل النص. فالعنوان وظيفته الاساسية هو تعيين طبيعة النص الذي يسمه. وعنوان الرواية دلالة اجتماعية واضحة في لفظ «لقاء» الذي يحيل على مكان وزمان لقاء شخصية او أكثر في الرواية.
بينما تكشف الليلة الصفر عن المقاصد الزمنية الدلالية التي انبنت عليها استراتيجية العنوان والرواية، فعلى مستوى التلقي، تحيل الليلة على زمنية تختص بها الرواية والصفر عدد يزيد في تضييق زمنية وحدود اللقاء في عنوان يتألف لغويا من جملة اسمية خبرها محذوف يترك الاخبار للرواية عن حوادثها.
تمتد رواية الواحد والعشرون فصلا سفرا ليليا في ظلمة البلاد المنتفضة وظلمات الشخصيات المتمردة على المجتمع وعلى قدرها ليلة سقوط نظام بن علي. فوضى احداث وفوضى شخوص تتلمس الوضوح والضياء في» يوم أخير» على عبارة مخائيل نعيمة لنظام يتساقط فتصبح كل شخصية موسى العسكري باحثة عن ذاتها وعن معنى الوجود في فوضى الزمان والمكان والحواس والتواريخ.
تشكل الرواية لحظات فارقة في حياة شعب وشخوص واحداث تترامى بين الجهات الست زمانيا تجمع الليل والنهار ومكانيا بين البحر والقطار والطائرة ازمنة وامكنة تحمل اقدار وهموم شخصيات متباعدة لا رابط بينها الا التسريد وخيط الليل الرقيق.
لقاء الليلة الصفر يلم شتات السيرة الذاتية المتخفية والسير المتنوعة ليصبح بؤرة سردية عميقة تنطلق شرارتها مع شرارة ثورة شعب على نظام متسلط قامع وثورة الشخصية على الذات...
تأتي الشخصيات الورقية حبلى بالترميز والدلالة غير منبتة عن واقعها تخرج كعلامات سردية تمتلئ على عبارة فيليب هامون « فهي كيان فارغ أي بياض دلالي لا قيمة لها إلا من خلال انتظامها داخل نسق هو مصدر الدلالات» 3 من اول حرف اول ليلة 14 جانفي الى انبلاج صبح جديد.
تنطلق الاحداث الروائية في ليلة الرابع عشر من جانفي 2011 ليلة سقوط الطاغية او الديكتاتور المتسلط او النظام حسب تعبير كل شخصية. فعندما يركب يمام الغاني أول شخصيات الرواية قطار بحر الظلمات في الساعة منتصف الليل في الفصل الاول ليلتحق في الفصل الثاني بركب المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة على الساعة العاشرة تبدأ الحركة السردية الخارجية. يتحول القطار الى لحظة سريالية داخلية غامضة لتفتح شخصية يمام الغاني الرواية وتغلقها في حركة دائرية ينتهي فيها السرد في نفس القطار عندما بدأت خيوط الفجر الأولى يقفز يمام الى القطار وتنتهي الرواية.
تبدأ الاحداث وتنتهي، منذ لحظة تحركها، بالارتداد الى الماضي عن طريق سلسلة من الاسترجاعات الاواعية في لعبة الحلم والواقع كما حددها جورج طرابشي تحاول الشخصية فيها وعي اللحظة الثورية ووعي الذات ووعي العالم. الإسترجاعات السريالية في قطار الظلمات تعيد رسم ملامح شخصية يمام الغاني وضبابيتها وعوالمها الداخلية وهمومها. حركة في داخل لاوعي الشخصية مقتضبة سريعة لا توقف حركة السرد بل تدعمها فسرعان ما تعاود الاحداث مسيرتها الخطية متخذة بنية متصاعدة ودائرية تعود لتتكامل في شكل دائرة شبه كاملة ترتد تارة الى الماضي، وتارة اخرى تعود الى سياقها الحيني في نسق زمني متقطع حيناً، ارتدادي احيانا وخطي حيناً آخر. وتبدأ في نسج حكايات الشخصيات الأخرى في علاقة عضوية مع زمنية متناثرة منشطرة ومكان ثابت يخرج من الحركة والفوضى الخارجية الى الضيق على هامش العاصمة وزخم الحركة المتمردة ضد النظام لتتوقف الحركة القصصية الثورية ويعود الوعي الذاتي الى الشخصيات المحاصرة في منزل كمال اختيارا وجبرا.
1- مكان خارجي يضيق وزمن داخلي يتسارع
بقدر ما كانت الزمنية متشعبة ومتوترة وضبابية ومتقطعة بين زمن اللحظة الثورية الموضوعية وزمن الشخصيات الذاتي بدت الأطر المكانية مزدوجة ثنائية وثابتة. اولاها متحرك ومتحول يجوب شوارع العاصمة شرقا وغربا بكل احيائها وشوارعها من التضامن الشعبية الى سيدي بوسعيد البورجوازية طوبوغرافيا واقعية للمكان تزيد من وهم الواقعية في الرواية ولصوقها بأحداث جانفي 2011. لئن حدد الزمن الموضوعي احداث الرواية في الليلة الفاصلة بين 13/14 جانفي 2011 فان المكان يمتد عبر تنقلات الشخصيات في شوارع المدينة مشيا على الاقدام بالنسبة ليمام وكارما وعايش والسعدي وحازم وبواسطة التاكسي بالنسبة لكمال ومطيع. تنقلات تتكشف فيها المدينة واحداث الفوضى التي تعم البلاد ليلة سقوط النظام... تبدو علامات المدينة الواقعية واضحة في جل التنقلات. رواية العاصمة الثائرة كر وفر بين الأمن والمتظاهرين وتشكيلات من الجيش الوطني تطوق المكان واصوات خلع المحلات وتهشيم واجهات المحلات التجارية ونهبها وشعارات معادية للنظام في الشواراع . دلالة على جو الفوضى والشحن والخوف الذي يسطر على المكان وينتقل الى داخل الشخصية المتوترة ذاتيا. العاصمة هي مركز العصب الحسي للنظام وهي مجال تحرك الشخصيات السبعة ....
العاصمة مكان يضيق ويسقط كلما تقدمت الساعات. موضوعيا يضيق المكان على رأس النظام فالرواية تقدم لنا في دقة لحظات هروب بن علي وسقوطه وذاتيا تكشف عن علاقة المكان بالشخصيات التي يضيق بها الاطار فتصبح شخصيات هاربة من الفوضى والعنف ( يمام وكارما والسعدي وعايش) شخصيات هاربة من الانتقام (مطيع وحازم) لتبدأ رحلة البحث عن ملجا. ليصبح المكان في الرواية بؤرة الحدث الروائي وتضيق الزمنية وتتوه في أجواء الخمرة التي تعبث بكل الابعاد الزمنية للشخوص ليغلق المكان حرية التنقل وحرية الشخصيات عند سقوط العاصمة.
رحلة البحث عن ملجا تنتهي بجميع الشخصيات في منزل كمال الراجح صديق الجميع غير بعيد عن المركب الجامعي بالنسبة للسعدي وعايش ومسافة ساعتين مشيا على الاقدام الى أطراف باردو بالنسبة ليمام وكارما. وساعة سياقة بين ميناء سيدي بوسعيد ومنزل كمال بالنسبة لكمال ومطيع. بيت كمال المكان الهامشي بالنسبة للعاصمة يصبح مركزيا في الرواية. منزل يتحول الى ركح مسرحي لتتداخل بوليفونيا الاجناس4 تتحول الرواية الى مسرحية درامية يصبح فيها صالون كمال كما في المسرح مشهدا أولا لعرض سيرة الشخصيات تباعا. فكرة كمال الشخصية المركزية والقوية في المجموعة التي التجالت إليه لتنظيم حوار واداره بنفسه ليشرح كل واحد منهم وجهة نظره في الثورة كثرثرة فوق النيل ثرثرة فوق صفيح الثورة الساخن. ليتحول المنزل الى ركح للجدال. تأخذ كل شخصية الكلمة لتقوم بوح مباشر يشبه عملية التصعيد النفسي تطلق العنان لأفكارها تحت تاثير مفعول الخمرة في انفعالية تصل معها الامور الى الشجار وتتطور الكلمات الى العنف.
المنزل / المسرح يجمع ستة رجال وسابعهم امرأة. كل الشخوص هاربة من نفسها في الأخير من خيباتها ومن ماضيها السحيق... عملية تكثيف اللحظة الروائية مكانًا يحيل على مرجعيات دلالية دينية. اهل الكهف في القرآن الذين لجأوا إليها خوفا وحماية مع كلبهم. ستة شخصيات ذكورية وكارما المرأة في منزل. لتتحول كارما المرأة الى فتنة وبؤرة صراع تختفي فيه الثورة وخطابها وتصبح المرأة الجسد مركز الصراع بين الشخصيات الى حد التقاتل والتناحر.
شخصيات جمعهتم مائدة الماكرونة بالدجاج... ينتابني بعض الضحك من الاختيار في دلالاته المعاصر لواقع تونس السياسي اليوم.... هل هي ايحاء لأحزاب الماكرونة التي فازت بالانتخابات في المجلس ... ايحاء يواصل سيرورة التسريد ليحاكي اللحظة الزمنية الانية.
ماكرونة الليلة الأخيرة التي اعدتها ربح المرأة التي خسرت كل شيء فحولة زوجها العاجز بسبب حادث وخسرت شرفها بعد ان وهبت لحمها الى كمال وخسرت صدقها عندما نكثت قسمها للجماعي زوجها بعدم الخيانة وخانته. نفس الدلالات الإنجيلية الحاضرة في المائدة الأخيرة ليلة صلب المسيح ... مائدة المقرونة واللحم والخمر تجمع الشخصيات في اخر رمق الليل ... ليصبح خونة الثورة مطيع وحازم يهودا الخيانة وتصلب كارما الانثى على صليب نار الصراعات الذكورية.
مكان كسفينة نوح ضم من كل ايديولوجية ومن طبقة ومن كل مستوى اجتماعي وفكري. منزل كمال سفينة جمعت في الاخير كل المتناقضات... الثوري والطالب الإسلامي واليساري والانتهازي الذي تمعش من النظام والامني الهارب من الانتقام والمرأة الفارة من جحيم المجتمع ...
يقوم البناء السردي للشخصية في رواية «لقاء الليلة الاخيرة» على مفهوم كلاسيكي للشخصية القاعدية، التي تمثل تجريدا لمكونات الشخصية الاجتماعية والمهنية والإيديولوجية والسيكولوجية فتعمد الرواية الى تشكيل شبه نمطي للفئات المجتمعية التي تنتمي لها شخصيات النص الروائي باليات دمج المتخيل السردي للمبدع والمحتمل التاريخي الموضوعي.
وتوسع مجال الرواية بشخصيات سياسية تاريخية حقيقية ربطت الرواية بتواريخ بعينها فاستحضر النص عليسة وهاينبال وبورقيبة بن علي. وعي الشخصيات التي عمقت كتابة التاريخ والايحاء بواقعية الرواية...5
كرس مصطفى بن احمد نماذج متعددة من الشخصيات. يمكن أن نختزلها من وجهة نظرية فيما أطلق عليه النقاد بالشخصيات المركزية وهي التي استقطبت الجزء الاكبر من الرواية وحضرت في مستوى الحركة الروائية وشاركت في احداثها وهي يمام/كمال/عايش/ السعدي/مطيع/حازم/ كارما والشخصيات الثانوية الأخرى التي لم تشارك في الحركة السردية والافعال. فقط صنعتها ذاكرة الشخصيات المحورية وقذفت بها ارتدادات تقنية الفلاش باك.
2- الذكورية المنهزمة ...
من الخيانة الى الخصي...
تقدم الرواية سيرة ست شخصيات ذكورية مختلفة عمريا واجتماعيا وايديولوجيا. ظاهريا تمتد سلطة الأبوية في السردية التي يهيمن عليها الرجل. فالراوي مذكر والشخوص ذكور لتسود فقط اصوات البطركية الشرقية الموغلة في الثقافة الميزيجونية المتسلطة. في سرديات الروايات العربية بصفة عامة تعتبر جدلية الانوثة والذكورة مبحثا مهما لتفكيك العلاقات التي يقيمها النص بين الشخوص.
تسيطر على الرواية مجموعة من الشخصيات الفاعلة التي نالت كميا أكثر من ثلثي النص منتصرة بحضورها الذي اخفى المرأة الحاضرة الغائبة بقوة. في إطار تفاضلي خص السرد بحجم متفاوت شخصيتين رئيستين حضرت تقريبا على مدار السرد حتى نهاية الرواية وحزمة اخرى من شخصيات اقل اهمية تربطها علاقات تفاعلية مع بعض الشخصيات يوجد النص علاقة دموية عائلة مثل عايش اللوزي ابن اخت كمال وصديقه السعدي وبعضها تتدخل الصدفة في تعالقها كمطيع حريف التاكسي الأخير وحازم طارق الليل الهارب من الفوضى.
كما توزعت الشخصيات في النص كما يلي :
- يمام الغاني : ص 49-62 و 145-163
- كمال الراجح : ص 63-75 و 109-131
- مطيع بن شلبية 77-90ص
- عايش اللوزي والسعدي. 91-108ص
- حازم علي.133-143ص
أقام النص تشكيل الشخصية وفق ثنائيات منطقية تقوم على معطى عمري او ايديولوجي او فكري. قامت ثنائية يمام/ كمال على منطق السن وتماثل التجربة الحياتية والفشل. قامت ثنائية عايش/السعدي على نقيضة ايديولوجية بين شاب متحرر واخر اسلامي متطرف بينما جمعت الثنائية الاخيرة اعوان النظام السياسي المتساقط أي مطيع وحازم الرافضان لمسار الثورة وولائهما للنظام السابق.
يمام/كمال
تعتبر شخصيتا يمام الغاني وكمال الراجح أكبر الشخصيات عمرا وتجربة وأكثرها حضورا نصيا في الرواية. نشأ الأول على كره السلطة والادارة التي اوغلت في ايذائه وعاش كمال حقدا متواصلة على الدولة. لئن سكت النص على تاريخية العلاقة بينهما ... فإن يعمد الى مقاطع تشابه بينهما بينة في النص.
فيمام طرد من عمله وفقد اباه وطلقته زوجته وانقطع عن ابنائه تماما كما كمال الذي استشهد اخاه إبان ثورة الخبز وهرب من البلاد ليلتحق بالمقاومة في لبنان وتهرب زوجته مع بناتها ليبقى وحيدا. لغويا التماثل الوزني بين يمام/كمال في صيغة فعال يبدو جليا ارادة من المؤلف لتعميق هذا التحاور بين الشخصيتين وكأنهما وجه وقفا يجمعها الفشل في كل المجالات دراسيا اجتماعيا وحياتيا وماديا.
يمام الاسم الغريب كما تقول كارما مسافر قطار الظلمات يخرجه الراوي في صورة مكتملة سرديا على عبارة فيليب هامون في كتابه شخوص الرواية. فالنص يفصح عن اغلب تفاصيله ... الهوية (الاسم واللقب) المكتملة منذ فاتحة النص لا تنقص من عمق الشخصية شيئا. شخصية تمتد على فصول الرواية لنكتشف سيرتها من الولادة الى البعث الأخير ويسدل عنها ستار الغموض كباقي الشخصيات في لحظة الركح المسرحي.
يمام الذي غادر للتو مستشفى شارل نيكول في اول الرواية سيكون شاهدا على نهاية التاريخ (ص43). وحيدا كان يحتاج لرفيق يشاركه هذا الحدث التاريخي... يستحضر فشله في ادارة الضرائب وخيانة زميله محمود الذي تسبب في طرده من العمل. زمن ينفتح على الخيانة والخيبة... لكن بارقة الامل التي تنذر بنهاية التاريخ كانت كارما تلك الظبية التي تأتي كقوة مغناطسية تجلبه نحوها. ص 52 قوة اقتلعته عن الزمان والمكان كما قال... هو الذي فقط كل روابطه الاسرية وانفصلت عنه زوجته جاءت هذه الحمرة لتعيده للحياة. كارما بالنسبة له مفرد بصيغة الجمع هي صورة دلال امها التي عرفها في احدى الملاهي راقصة.
هذا الفقير القادم من جنوب البلاد مع اهله في سن العاشرة غريبا عن العاصمة الكبيرة التي تطحن الخلق. في رحلة انكسارات متواصلة لا تذر. يمام الذي عانق الفكر الثوري وحلم طالبا بالعدالة ... ينتهي بالطرد من الجامعة ويرحل ابوه ويخسر حبيبته ثم عمله ثم زوجته ويزج به في السجن... فقد شرف النضال بعد مكيدة الامني السري في الجامعة وفقد حلمه كالعديد من الشباب في زمن التسلط. خسر من الإعلام الكثير بسبب الخيانة. كهلا اليوم يجر جسدا أنهكه السكري وخيبات الماضي فهل يترك له حلم الثورة والعدالة وحلم هذا الجسد الناعم الصغير الذي أعاد له شهوته الذكورية ممدا امامه كقطعة حلوى تثير شاهيته وهو الممنوع من السكر بسبب مرضه ايحاء النص بالخصي والعجز استباق سردي لما قد يقع بينه وبين كارما.
في إطار لعبة الحضور والتخفي يغيب يمام فاسحا المجال لكمال اخره الاخر ... الاخر كما انا على عبارة ريكور وكريستيفا
كمال الراجح دلالة الاسم تغوي باكتمال الشخصية ونضجها وكمال الذي جرب الدنيا تاريخا وجغرافيا. سيكون ملاذا لجميع الشخوص في نهاية المطاف يمسك بجميع خيوط اللعبة. هو الذي خسر كل شيء زوجته املاكه وبناته.... رغم انحداره من عائلة غنية ينتهي الى الكفاح من أجل الخبز كسائق تاكسي. كمال العليم بكل الحكايات والراوي لها. تحيل وظيفة التاكسي في الرواية على الاسرار المنطوية. سائق التاكسي هو عين للمجتمع راصد لهمومه ويجسد هموم الشارع التونسي ويتمتع بتحليل سياسي كمثقف ومناضل سياسي. كان كمال عينا واذنا لسرد الثورة في يومها الأخير. التاكسي مرآة المجتمع تظهر فيه شخصيات جانبية مثل الطبيبة والخليجين وخاصة شخصية مطيع محامي الفساد. كمال السائق يقع ضحية العنف والفوضى العارمة في العاصمة وتكون التاكسي عدسة سردية تنقل للقارئ كل تفاصيل حالة الانفلات في العاصمة يوم نهاية النظام. خلع المحلات اعتراض السيارات تهشيم الواجهات العنف الدامي. ثورة تنبئ بالانهيار...
1 https://fethijouou.com/archives/7364 تجليات الادب في افق الثورة. محمد المحسن. تونس .
2 Gérard Genette, Seuils, éditons du Seuil, 1987.
3 Philippe Hamon, Le Personnel du roman. Le système des personnages dans les Rougon-Macquart d'Émile Zola, Genève, Droz, coll. (poche), 1998, 329p.
4 حسب نظرية تعدد الأصوات لباختين.
5 انفتاح النص الروائي – سعيد يقطين- المركز الثقافي العربي- بيروت – الدار البيضاء. ص 20-18