ستكون الاحتفاليات مغايرة هذه السنة في ظل اغلاق شامل لكل الملاهي وكل الساحات العامة. سيكتفي الناس عموما بالبقاء في منازلهم مع الاعتقاد بأن اللحظة الفاصلة بين سنة وأخرى ستنقلهم حتما من مرحلة الكوفيد إلى مرحلة ما بعد هذه الجائحة.
سيكون اليوم الأول من السنة الجديدة يوما لصناعة الذاكرة، ذاكرة السنة التي خلت بكل مآسيها وأوجاعها. هكذا طقوس الانتقال جُعلت من أجل القطع مع صفة أو مرحلة أو مجاز، وبدون هذه الطقوس لن تستطيع البشرية أن تتقدم إلى الأمام. تمنح طقوس الانتقال شعوب العالم وثقافاتها إمكانية التجديد ولكن تعطيها أيضا متعة الذاكرة بكل تفاصيلها وتصبح مقولة قبل و بعد هي المقولة التي تشعر الانسان بأنه يتحرك داخل التاريخ.
ذاكرة 2020 هي ذاكرة الجائحة حتى ولو تواصلت لما بعد 2020. لقد سجلت هذه السنة موقعها ضمن أهم تواريخ البشرية المؤلمة، هي شبيهة بسنة 1929 سنة أكبر أزمة اقتصادية في العصر الحديث، وهي شبيهة بسنوات الحرب العالمية الأولى والثانية وغيرها من سنوات الجمر التي مرّت بها البشرية. وتشترك سنة 2020 مع السنوات الشبيهة في كونها أوقفت مركزية الانسان وتعاليه، أعلمته بضعفه الكبير أمام أشياء لا يستطيع السيطرة عليها كما كان يعتقد. وقدمت هذه السنة درسا للبشرية في كيفية التعامل مع الطبيعة وجعلته يُدرك أن مجتمع الاستهلاك الفاحش لا يمكن أن يكون الوحيد مرجعا للسعادة البشرية.
أطهرت جائحة الكوفيد محدودية منظومات التقشف العمومي الذي انتهجته دول عديدة وأعادت الجائحة هذه الدول إلى أبعادها الاجتماعية والتضامنية وأعطت للقطاع العمومي الخدمي نفسا جديدا بقيم جديدة مبنية على حقوق المواطنين الأساسية. لقد دفعت الجائحة السياسات العمومية للدول وخاصة تلك التي انتهجت الليبرالية طريقا إلى إعادة التفكير في خياراتها الاجتماعية التي أضعفتها ما يُسمى بمنظومة دولة الحدّ الأدنى.
لقد كانت سنة 2020 في تونس سنة استثنائية كأغلب دول العالم تقريبا، وقفنا فيها عند ضعف منظومات الدولة الصحية والتربوية والاقتصادية ومنظومات المساعدة الاجتماعية. واكتشفنا ضعفنا التكنولوجي وتأكدنا من أن أشياء عديدة في حاجة إلى مراجعة عاجلة. ولكن الجائحة لم تمنع بروز ظواهر أخرى لافتة. أهمها ظاهرة التنسيقيات التي تشكلت حول مطالب اجتماعية مرتبطة بالتشغيل والتنمية ولكنها من حيث الفعل الاحتجاجي كانت هذه التنسيقيات قصووية في تعاملها مع الأحداث. اعتمدت هذه التنسيقيات على تجذير الانتماء الجهوي في مواجهة البُعد المركزي واعادت تشكيل العلاقة التاريخية معه ووضعته في حرج لم يكن هذا المركزي مستعدا لها.
اتجهت أغلب القراءات لهذه الظاهرة إلى أنها إضعاف للدولة وانتهاك لحرمتها. هذا دليل على أن ثقافة المركز لا تزال عالقة بأذهان هؤلاء. في حين أن السؤال الذي يجب طرحه في الأثناء هو كيف نعيد تشكيل العلاقة بين المركزي والجهوي والمحلي وماهي مضامين هذه العلاقة بخلفية أن إعادة النظر في هذه العلاقة هو تقوية للدولة وليس إضعاف لها، فالدولة ليست مجسدة في المركز دون الأبعاد الأخرى.
لقد أثبتت التجربة أن الحوار مع التنسيقيات والجدية في تنفيذ الالتزامات هو شكل جديد في العلاقة بين المركز والجهات وأن ثقافة الوعود الزائفة لم تعد تجدي في ظل مرحلة الانتقال الديموقراطي. فهذه المرحلة لها شروطها ولها ثقافتها الجديدة ولا يمكن أن نتناول ظواهر مثل التي حدثت بأليات تفكير وممارسة راجعة بالنظر إلى مرحلة ما قبل الانتقال الديموقراطي.
هذه مرحلة يمكن أن تكون فيها كل المسائل موضوعا للاحتجاج ولم تعد فقط المسائل الاقتصادية والاجتماعية محتكرة للمشهد. يمكن أن يكون الاحتجاج من أجل مدينة رياضية أو من أجل ملعب كرة قدم أو من أجل قضية رياضية. وهذا تحوّل جديد في شكل العلاقة بين المركز والجهات وهي علاقة مفتوحة على كل الاحتمالات. فالدولة مطالبة الآن بمراجعة أكثر من ست عشريات من مقاربتها الشاملة. وهو عمل يتطلب مجهودا كبيرا مثلما يتطلب قدرة فائقة على الخلق والابتكار.
لن تزول الأسئلة حول الكوفيد وحول قضايا أخرى بمجرد لحظة العبور من سنة إلى أخرى. قد تريحنا أزمة الكوفيد قليلا كي نفكر بشكل جدي في ما حدث...
2020: ذاكرة الكوفيد وأشياء أخرى
- بقلم محمد جويلي
- 09:07 29/12/2020
- 933 عدد المشاهدات
الفاصل بين سنة وأخرى لحظة اعتادت شعوب العالم في توقيتات مختلفة عبورها باحتفاليات طقوسية هي الأكثر فرحا من بين احتفاليات عديدة.