الثورات العربية وتردد التاريخ

هي جملة شهيرة تمت نسبتها الى كارل ماركس أب الماركسية كذلك المفكر والمؤرخ والفيلسوف. قال ماركس «l’histoire ne se répète pas. elle bégie» أي «التاريخ لا يعيد نفسه بل يتلعثم أو يتردد» .

أصبحت هذه الجملة شهيرة ومعروفة كثيرا عند دارسي التاريخ والمفكرين بصفة عامة لفهم وقراءة تطور حركة التاريخ وأهم مراحله.
والتداول الكبير لهذه الجملة وشهرتها يأتي من كونها أعطت معنى لمراحل معينة في التاريخ البشري وفي منعطفاته الكبيرة حيث تبدو حركته كثيرة التردد ومتثاقلة الخطى.وفي هذه المنعطفات تؤكد هذه الجملة الشهيرة أن إمكانيات العودة إلى الوراء محدودة ومنعدمة.إلا انه في نفس الوقت يكون الانطلاق في مسالك جديدة ومسارات أخرى تبدو صعبة ومعقدة.فتدخل حينها المجتمعات البشرية في مرحلة من الدوران في حلقات مفرغة تشع الكثير من الإحباط والعجز والفشل.ولا تنتهي هذه المرحلة إلا عندما تجمع المجتمعات قواها وطاقاتها للخروج من هذا التردد التاريخي والدخول في مرحلة جديدة أو حقبة أخرى من تاريخها .
ولو عدنا إلى المنطقة العربية وخاصة بلدان ثورات الربيع العربي سنجد أنها تمر بنفس مرحلة التردد التاريخي التي لخصتها جملة ماركس الشهيرة .
فبعد عشر سنوات من اندلاع هذه الثورات في بلادنا شتاء 2011 نعيش نفس هذا التردد التاريخي ونفس الخوف والرهبة لفتح حقبة تاريخية جديدة والدخول في مرحلة ما بعد المشروع الكولونيالي .
لقد دخلت المنطقة العربية اثر الاستقلال في مرحلة الدولة الوطنية التحديثية والتي جعلت من الخروج من المجتمعات التقليدية وتحديث السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية أهدافها الأساسية .وستكون الدولة القوية والتي ستتحول تدريجيا إلى مواقع أكثر استبدادا هي الأداة الأساسية لعملية التحديث.
ولئن عرف هذا المشروع الكثير من النجاحات فانه شهد كذلك الكثير من التراجعات والتي تحولت إلى أزمة عامة بعد نصف قرن .
هذه الأزمات التي دخلها المشروع العربي المابعد كولونيالي كانت وراء انطلاق ثورات الربيع العربي بداية من بلادنا ليمتد وهجها إلى عديد البلدان العربية الأخرى .وكان هدف هذه الثورات إلى جانب محاربة الفقر والتهميش بناء نظام سياسي جديد والخروج من مرحلة الدولة الوطنية القوية والمستبدة في عديد البلدان ودخول حقبة الدولة الديمقراطية.

وقد فتحت هذه الثورات فترة من التردد والانتظار التاريخي عرفته المجتمعات الإنسانية في المنعطفات الكبرى .وقد عبر هذا التردد عن نفسه بأشكال مختلفة ومنها العنف والحروب المدمرة التي دخلت فيها عديد بلدان الربيع العربي ومن ضمنها سوريا وليبيا واليمن .
كما شكلت دعوات العودة إلى الماضي في عديد البلدان العربية أحد أشكال هذا التردد التاريخي والخوف من المرور إلى حقبة تاريخية جديدة .
كما عرفت عديد البلدان الأخرى ومن ضمنها بلادنا تعبيرات أخرى من تعبيراتها هذا التردد من خلال فتح لحظة سياسية جديدة ومحاولة إنجاح مشروع التحول الديمقراطي .إلا أن هذا المشروع شابته العديد من النقائص والتحديات مما جعله يتراجع ولا يخطو خطوات كبيرة نحو فتح تجربة سياسية جديدة.
ساهم هذا التردد بإشكاله وتعبيراته المختلفة في حالة الإحباط والخوف الكبيرين من المستقبل التي تعيشها البلدان العربية في الظروف الحالية .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بكثير من الحدة في الوقت الراهن كيف نفهم أسباب هذا التردد ؟ والذي قد يقود إلى فشل وترنح اللحظة السياسية الراهنة.
وللإجابة على هذا السؤال سأعود إلى بعض التجارب المقارنة لبعض البلدان التي عرفت هذه المنعطفات التاريخية .وسنعتمد في صياغة هذه الملاحظات على موجات التحول الديمقراطي التي عرفها العالم قبل الثورات العربية .الموجة الأولى هي التي عرفناها في منتصف سبعينات القرن المضي والتي شهدت سقوط الديكتاتوريات العسكرية في بلدان أوروبا الغربية ونعني بها اليونان والبرتغال واسبانيا .

الموجة الثانية من التحولات الديمقراطية هي التي عرفتها أمريكا اللاتينية مع سقوط الديكتاتوريات في أكبر البلدان في بداية ثمانينات القرن الماضي وبصفة خاصة في الأرجنتين والبرازيل وبعض البلدان الأخرى .
أما الموجة الثانية للتحولات الديمقراطية فهي التي عرفتها بلدان أوروبا الشرقية في تسعينات القرن الماضي اثر سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي .
وقد عرفت أغلب هذه التجارب فترة طويلة من المخاض والاهتزاز قبل أن تنجح في بناء أنظمة ديمقراطية صلبة وتجارب سياسية قطعت نهائيا مع إمكانية عودة التاريخ إلى الوراء.وفي هذا المجال تلتقي تجاربنا مع الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي والتي تعيشها اليوم عديد البلدان العربية مع الموجات الثلاث الأولى في الطابع المتعثر لهذه التجارب وصعوبة الخروج من الاستبداد لبناء تجارب جديدة وصياغة مشروع سياسي جديد .
إلا أن تجربتنا تختلف عن التجارب التي سبقتنا في مسألتين مهمتين تفسران عمق هذا التردد والأزمة التي تمر بها تجاربنا وحالة الإحباط التي تصحبها.

تكمن النقطة الأولى لاختلاف تجاربنا التاريخية في التاريخ السياسي لأغلب هذه المناطق وتميزه على التجربة السياسية في المنطقة العربية .فأمريكا اللاتينية وأغلب البلدان الأوروبية دخلت مرحلة الحداثة السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر في إطار الدولة الوطنية وتمكنت بالتالي من صياغة تجربة سياسية ثرية.وقد عرفت هذه البلدان ظهور الأحزاب السياسية الحديثة كالأحزاب الاشتراكية والشيوعية والليبرالية والتي كان لها إشعاع جماهيري كبير جدا.كما عرفت هذه البلدان تطورا كبيرا للمنظمات الاجتماعية كالنقابات والجمعيات .
وقد قامت الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية في أغلب هذه البلدان منذ خمسينات القرن الماضي بمنع الأحزاب الديمقراطية.وبالرغم من التراجع الذي عرفته هذه الأحزاب فقد بقي لها تأثير كبير على الناس بالرغم من دخولها في السرية .
وعند سقوط الديكتاتوريات خرجت هذه الأحزاب الديمقراطية الى العلن وتمكنت من قيادة الناس في هذا المسار من التحول والمنعطفات التاريخية الكبرى التي عرفتها هذه البلدان إلا أن الأوضاع تختلف جذريا في البلدان العربية التي لم تدخل الحداثة السياسية إلا مع الدولة الوطنية ولم تعرف التعددية وثراء التجربة السياسية للجهات الأخرى .وقد هيمنت أحزاب السلطة على المشهد السياسي بدعم من الدولة ولم تتمكن الأحزاب المعارضة من التطور والانتشار ليبقى تأثيرها محدودا وضعيفا .
عند سقوط الأنظمة القوية في بلدان الربيع العربي وانهيار الأحزاب الحاكمة لم تكن لدينا أحزاب جماهيرية كبرى قادرة على قيادة هذه المرحلة الجديدة في تاريخنا وفتح التجربة السياسية الجديدة .
المسألة الثانية والتي تشكل اختلافا كبيرا بين تجربتنا والتجارب السابقة تهم الإطار العام وبصفة خاصة قوة تأثير المشروع الديمقراطي في المجال السياسي الكوني .فقد عرف العالم اثر الحرب العالمية الثانية ظهور مشروعين سياسيين هامين : المشروع الاشتراكي والمشروع الديمقراطي الليبرالي .وشهد العالم مرحلة تنافس وحرب كادت أن تقود العالم إلى حرب كونية جديدة .

إلا أن تأثير المشروع الاشتراكي بدأ في التراجع اثر ثورات الشباب في نهاية الستينات.وفي المقابل بدا المشروع الديمقراطي يعرف عصره الذهبي ليصبح الإطار الكوني للممارسة السياسية .
وعند خروج البلدان الأوروبية وبلدان أمريكا اللاتينية من الدكتاتورية كان المشروع الديمقراطي في أحسن حالاته وشكل بالتالي الإطار السياسي للموجات الثلاث للتحول الديمقراطي .
إلا أن الوضع يختلف بطريقة جوهرية مع الثورات العربية التي انطلقت في فترة تميزت بتراجع كبير للمشروع الديمقراطي الذي لم يعد يشكل الإطار الجامع للتجارب السياسية .كما عرفت نفس هذه الفترة دخول العالم في اللحظة الشعبوية لتعطي لهذه القوى تأثيرا كبيرا.ولم تسلم بلادنا من هذه التطورات حيث أصبح المشروع الديمقراطي محل نقاش وجدل كبيرين مع تنام كبير للحركات والأحزاب الشعبوية.وقد ساهمت هذه الفوضى وعدم الوضوح السياسي في ضعف تجربة التحول الديمقراطي وتذبذبها في السنوات الأخيرة .
وتعيش بلادنا واغلب بلدان الربيع العربي مرحلة مفصلية في تاريخنا المعاصر .ولئن يبدو الرجوع إلى الوراء صعبا كما أشارت الى ذلك الجملة الشهيرة لماركس فان التردد التاريخي لازال يمنعنا من فتح اللحظة الديمقراطية والدخول فيها بكل قوة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115