سيدي الرئيس، الجمهورية الثالثة ضرورة وليست خيارا

بقلم: د. منى كريم,
أستاذة جامعية و باحثة
في القانون العام
عبر جزء كبير من الشعب التونسي في الآونة الأخيرة عن خيبته و إزدرائه من الطبقة السياسية الحالية التي لم تتوصل بعد ومنذ وصولها

إلى الحكم لإيجاد الحلول المناسبة لمشاكلنا الراهنة، بل ان سقف مطالب هذه الشريحة قد إرتفع أخيرا إلى حد المطالبة بحل البرلمان الذي لم يعد يعكس حسب رأيهم ارادة الشعب و القطع التام مع النظام السياسي الحالي الذي لطالما اثبت حدوده و فشله سواءا بإرسائه لنظام حكم غير مستقر أو بتركيزه لدولة ضعيفة غير قادرة حتى على تحقيق التنمية و العدالة الاجتماعية .كذلك وجهت النخب السياسية التونسية والعديد من الشخصيات داخل الوسط الأكاديمي والجامعي الجدل القائم في هذه الايام نحو فرضيات اقل ما يقال عنها كونها كارثية لأنها في حقيقة الأمر تغذي تأزم الظرفية السياسية الحالية بل انها تفتح الباب على مصراعيه نحو المجهول بدل ايجاد حلول واقعية و ناجعة تنقذ البلاد من حافة الهاوية.
في هذا الإطار، كان من الضروري تحديد أصل هذا الخلل الذي ما فتئ يعرقل السير العادي لمؤسسات الدولة في مرحلة أولى ومن ثمة تقديم خارطة طريق تكون متناغمة مع الدستور وقادرة على طرح فرضية تخرجنا من الازمة.
في الحقيقة، ان هذا الخلل يتمظهر على مستويين اثنين:

اولا، في الدستور في حد ذاته،
وثانيا، في الترسانة التشريعية القانونية.

1 / في الواقع، إذا لم يكن الدستور التونسي سببا في تعاستنا، فهو لم يكن بنفس الدرجة سببا لسعادتنا:
ذلك ان كل أولئك الذين نادوا بحل البرلمان مستندين في ذلك على احكام الفصل 80 من الدستور المتعلق بحالة ا لاستثناء كانوا قد نسوا ان هذا الفصل نفسه يبقي البرلمان في حالة انعقاد دائم. وبالتالي فان البحث عن مخرج قانوني على اساس فصل يبقي على هذا البرلمان الذي يمثل جزءا من الازمة يبدو أمرا غير منطقي.
وإذا كان من باب الفخر ان دستور الدولة التونسية يؤسس لمكاسب عريضة للحقوق والحريات، فإنه لا يمكن لنا أن نهنئ أنفسنا بإقامة نظام سياسي غير معقلنن بالمرة يكون فيه رئيس الدولة الذي تم انتخابه إنتخابا مباشرا من قبل الشعب نصف رئيس عديم الصلاحيات لا يمتلك الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافه. فكيف يمكن ان نقبل بفكرة تحميل مسؤولية رئيس الدولة امام الشعب والحال انه لا يتمتع بالصلاحيات التي تتلاءم مع هذا المنصب؟! فعدم التناسق بين الصلاحيات وطريقة الاقتراع يعتبر مصد را للإشكال. لذلك بات من الضروري تداركه سواء في اتجاه تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية او في اتجاه تغيير طريقة اقتراعه.
فرئيس الدولة، رمز وحدتها والضامن لاستمراريتها، على ضوء الاحكام الدستورية المتعلقة به، يبدو عاجزا عن إيجاد الحلول لهذه الازمة المتشعبة، لأن دوره كحكم بين المؤسسات غير منصوص عليه في نص الدستور لذلك يتوجب في هذا الإطار بالتحديد إعادة النظر في الدستور.

2/ من ناحية اخرى ،وفيما يتعلق بالنصوص القانونية التي تقل درجة عن الدستور:
تتضمن في الحقيقة نقائص كبيرة تحتاج إلى مراجعة من شانها أن تطهر هذا الجو السياسي المشحون وتضمن حوكمة أفضل ولعل هذا ما يجعلني أشير صراحة إلى القانون الانتخابي الذي لا يسمح بإفراز أغلبية برلمانية مريحة قادرة على تكوين حزام مستقر لرئيس الحكومة. إذ ان الحكومات المتتالية اصبحت «رهينة «برلمان يتميز بتركيبة فسيفسائية واغلبيات غير متجانسة وغالبا غير مستقرة ; الأمر الذي يؤدي منطقيا إلى هشاشة العمل الحكومي ومحدوديته.
كما أن القانون الانتخابي المعتمد ولئن كان يضمن تمثيلية متعددة داخل المجلس النيابي فإنه يفتح الباب للتهرب الضريبي وللفساد بحيث يمكن الفاسدين والمتهربين ضريبيا من الاحتماء بالحصانة ضد كل تتبع قضائي زد على ذلك التعقيدات المتعلقة بإجراءات رفع هذه الحصانة.
تنامت هذه التبعية إزاء السلطة التشريعية أكثر بسبب النظام الداخلي للبرلمان الذي يتضمن العديد من الاحكام التي تتعارض صراحة مع الدستور خاصة فيما يتعلق بضرورة المرور الوجوبي امام البرلمان لنيل الثقة كلما اتجهت ارادة رئيس الحكومة نحو ادخال تحوير على فريقه الحكومي.
سيدي الرئيس، 10 سنوات مرت الى حد تاريخ اليوم دون أن يتساءل أحدهم ان كانت هذه الثورة حققت أهدافها في ظل إفرازها لنظام سياسي غير مستقر جراء برلمان غير متجانس تتحكم فيه اقليات لا تتوحد ابدا من جهة وسلطة تنفيذية مشتتة بين رئيسين وغير قادرة على تسيير الدولة والهياكل العمومية والمرافق العمومية واجراء الإصلاحات الهيكلية الضرورية.

3/ملامح الجمهورية الثالثة:
ان الحديث عن الجمهورية الثالثة لا يجب باي شكل من الأشكال ان يقودنا إلى فكرة الانقلاب على النظام القائم وذلك بالقطع الجذري مع هذا النظام وبتعليق الدستور التونسي او لتأسيس لديكتاتورية تحت أي شكل من الأشكال. ثم أن المقترحات التي من شانها أن تقودنا للفوضى ولفكرة المجهول يجب أن نتركها جانبا وعلى العكس من ذلك يجب علينا أن نحافظ في هذه الظرفية الاستثنائية على مكاسبنا والعمل على زيادة ترسيخها وتجاوز الاشكالات ; بل اسمحوا لي أن أجزم هنا بان الدولة والدستور والمؤسسات انما هي خطوط حمراء لا يجب تخطيها.
وعليه، بات من الضروري جدا أن يتم التفكير في الإصلاحات الجذرية التي يمكن ان ترى النور حسب الاجراءات المتاحة حاليا والتفكير الجدي في التأسيس لحوار وطني جامع دون اقصاء حول المحاور الكبرى التي تشكل سببا في العراقيل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

3/1 على مستوى الدستور يجب القيام بالتعديلات التالية:
- مراجعة وتعديل الاحكام الدستورية المتعلقة بتوز يع الاختصاصات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة لان هذا التوزيع أدى إلى تشتيت السلطة وإلى انسداد يتجلى بوضوح خاصة في فرضية تأزم العلاقة بين راسي السلطة التنفيذية.
-ضرورة تناغم النظام القانوني لرئيس الدولة مع طريقة انتخابه لأنه من باب العبث ان يتم انتخاب رئيس دولة من قبل الملايين من افراد الشعب التونسي دون تمكينه من الصلاحيات التي تتلاءم مع مشروعيته.
-تمكين رئيس الدولة من صلاحيات التحكيم في صورة قيام أزمة على مستوى مؤسسات الدولة بما في ذلك صلاحية الحل وصلاحية الاستفتاء وصلاحية تحميل المسؤولية السياسية لرئيس الحكومة.

3/2 على مستوى القوانين يجب القيام بالمراجعات التالية:
- مراجعة النظام الانتخابي بغية افراز أغلبية برلمانية مستقرة ومتناسقة قادرة على تكوين حزام سياسي ناجع لرئيس الدولة ولرئيس الحكومة على حد السواء.
- مراجعة احكام النظام الداخلي للبرلمان التي تقيد رئيس الحكومة وخاصة تلك المتعلقة بمنح الثقة في حالة التعديل الوزاري.
- إعداد قانون يتعلق بالأحزاب يضمن أكثر شفافية وأكثر ديمقراطية في هياكلها.
- إعداد ميثاق يتعلق بأخلقة الحياة السياسية.
- التصويت على المحكمة الدستورية التي هي بمثابة العمود الفقري للمنظومة السياسية والقانونية للدولة.

3/3 على المستوى الاقتصادي يجب ان يكون التصور على المدى القصير والمدى المتوسط.
على المستوى قصير المدى لا بد من:
• الإحاطة بفاقدي السند والعاطلين عن العمل وخاصة منهم ضحايا ازمة الكوفيد التي تسببت لآلاف العائلات التونسية في فقدان موارد رزق مما جعلها في وضعية مزرية.
• الإحاطة بالمؤسسات الاقتصادية وخاصة منها الصغيرة والمتوسطة التي أصبحت لها احتياجات ملحة لتمويلها قصد انقاذها من افلاس وشيك وإتلاف للعديد من مواطن الشغل الإضافية.

أما على المستوى متوسط المدى فإن الإصلاحات الهيكلية أصبحت أمرا ملحا يسبقه عقد حوار اقتصادي و اجتماعي يكون الهدف منه تحديد ورسم خارطة طريق تضع خطة ورؤية اقتصادية واجتماعية على مدى خمس سنوات على الاقل متفق عليها من كامل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين وكافة المؤسسات النقابية .
ختاما ونظرا لكون الدستور الحالي عاجز على توفير الإصلاحات المذكورة، فإنه يجب التفكير في مسار موازي مشروع دون خرق الدستور يسمح في نفس الوقت بتحقيق توافق وطني. وعليه، فإن الحل الوحيد للوصول إلى هذا التوافق يكمن في عقد حوار وطني مفتوح جامع لسائر الاطياف السياسية والوطنية التي يجب عليها التخلي عن مصالحها الحزبية الضيقة والالتفاف حول المصلحة الوطنية. فمرحلة التاسيس لدولة الدستور لا تزال متواصلة والدولة القوية لا يمكن ان تقوم على الإقصاء.
سيدي الرئيس، اننا نعول على استعدادكم الدائم لتحمل المسؤولية كما عهدناكم لقيادة الوطن نحو الأمن والسلم المرجوين وانه لمن البديهي ان هذا لا يتحقق الا بوحدتنا والتفافنا حول مصلحة تونس لان التاريخ لن يغفر لنا تهاوننا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115