لقد أقدم الرومان على احتلال قرطاج وإحراقها كليا سنة 146 قبل الميلاد وهدم البناءات وإتلاف الأشجار المثمرة والمغروسات . ونكالة في السكان تولى القائد الروماني «سيبيون» رش الملح على الأراضي الزراعية للقضاء على خصوبتها مما أدى بكامل سكان قرطاج إلى مغادرتها والالتجاء إلى الأرياف المجاورة، إلا أنَ شعب قرطاج لم يستسلم ونهض من جديد واهتم بغراسة الأشجار معتمدا على التقاليد الفلاحية والخبرات المكتسبة لديه أثناء العهد القرطاجني وعلى القوانين والقرارات الناجعة المتعلقة بالفلاحة والعمل الفلاحي ، فصارت قرطاج توفر كل حاجيات روما الغذائية بمفردها وبلغت صادرات الحبوب إلى روما آنذاك حسب المصادر الرومانية 2،1 مليون قنطار إضافة إلى بقية المنتوجات الفلاحية كالزيت والخمور والحيوانات وأيضا الرخام والسراميك . لقد كان الاقتصاد التونسي متطورا مقارنة بالاقتصاد الغربي سواء في الميدان الفلاحي أو الصناعي أو العمراني .
لقد أكد مؤلف كتاب تونس القديمة «ماكسيم بلوك» بأن تونس كانت عبارة على ورشات عمل بطلة في كل الميادين.
لقد شهد أحد رفاق «سانت أوقستان» بأن بلادنا أصبحت آنذاك عبارة عن «حديقة للمسرَات» حققت الاكتفاء الذاتي وأصبحت المصدر الأول للغرب وأشعت بمختلف منتوجاتها .
لقد أكد مؤرخو الحقبة القديمة على أن ذلك شكَل معجزة.
لئن كانت الظروف المناخية مثل الآن غير ملائمة نظرا لقلة المياه فإن السكان آنذاك تأقلموا مع الوضع وطوروا التقنيات الفلاحية اقتداء بالخبرات المكتسبة وبما أنجزه المهندسون الذين تميزوا وأبهروا العالم بكفاءتهم مثل «ماقون» . ولقد تم ضبط إستراتيجية فلاحية متطورة تقوم على توسيع المساحات المعدة للفلاحة وخاصة المقاسم السقوية و إحداث خارطة لبذر المزروعات حسب مردودية الجهات كإحداث السدود وقنوات المياه مثل القناة التي توصل الماء الصالح للشراب من زغوان إلى تونس والممتدة على مسافة 132 كلم كما ازدهرت الحركة التجارية بفضل شبكة طرقات متطورة ومتكونة من عدة محاور تربط تونس بمختلف الجهات كعنابة وطرابلس وغيرها.
كان توزيع المياه المستعملة للري يتمَ على الفلاحين بأقساط مضبوطة وعادلة عبر وضع آليات مراقبة للحدَ من التجاوزات وردعها .
بفضل تلك السياسات الناجعة والقوانين العادلة والصارمة قفز منتوج الحبوب مثلا من 850 ألف قنطار في عهد «سيزار» الى أكثر من 9 ملايين قنطار في عهد «نيرون» .
إن لوحات الفسيفساء الواقع اكتشافها بقرطاج والمعروضة «بمتحف باردو» تبين الأهمية التي كانت تكتسبها الفلاحة في ذلك العهد.
إن ذلك الازدهار وذلك الرخاء الذي شهدته بلادنا في العصر القديم لم يكن وليد الصدفة بل كان نتيجة التطور العلمي والتقني وخاصة الثقافي حيث انتشرت المكتبات وتطور الإنتاج الفكري واشتهرت قرطاج بعديد المؤلفين للكتب العلمية وغيرها ومن بينهم المهندس «ماقون» الذي ألف 28 مجلَدا قررت روما ترجمتها إلى اللغة اللاَتينية.
لقد تميزت بلادنا آنذاك بالإضافة إلى ذلك بالاستقرار الأمني والإيمان بقيم العمل والبذل والإخلاص وقد كان المصعد الاجتماعي خير تشجيع للأفراد المخلصين في عملهم حتى ولو كانوا من الطبقة الفقيرة المعدمة ولعل شهادة المواطن «حصاد مكثر» الموثقة بمتحف «اللوفر» أكبر دليل على ذلك إذ تضمنت : >>أنه ولد في عائلة فقيرة ولم يكن لديه مال ولا حتى منزل وأنه خصص حياته للعمل بالحقول دون كلل وملل وبفضل المثابرة أصبح سنياتورا وكون عائلة وعاش ظروفا جيدة وختم شهادته بما يلي «تعلموا حب العمل وحب الحياة بدون خشية».
إن الارتقاء الاجتماعي كان يقوم أساسا على الجهد والبذل والعطاء عوضا عن الجاه والمال والولاء.
تلك حقبة من الزمن مر عليها أكثر من عشرين قرنا أما الحقبة الحالية فقد علَقنا عليها الآمال منذ سنة 2011 وخلال الحوار الوطني على تغيير الأوضاع جذريا في بلادنا وتحقيق الانتقال الفعلي والجيَد في جميع الميادين . ولئن تحقق الانتقال الديمقراطي جزئيا وأصبحت حرية التعبير مكسبا لا يزال مهددا في ظلَ سريان مجموعة من القوانين الزَجرية المخالفة للدستور ولا يمكن إثارة هذه المسألة في غياب المحكمة الدستوريَة، فإن الانتقال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم يتحقق وبقيت الأوضاع على حالها بل ازدادت سوءا فالمنوال الاقتصادي الليبرالي المتوحش المبني على الأنانية والانتهازية والربح السريع لم يتغير والاقتصاد الموازي فاق الاقتصاد المقنَن والتهريب عمَ البلاد.
أما المنظومة التربوية قد تخلفت كثيرا وأصبحت المؤسسات التربوية تتراجع إلى أسفل سلم الترتيب.
ولم يقع منذ 10 سنوات إحداث أقطاب صناعية أو خدماتية جديدة كما لم يقع إحداث طرقات سيارة أو موانئ أو مطارات أو مستشفيات أو مدارس وفق المعايير الدولية بل إن الطرقات أصبحت في أغلبها في حالة سيئة والمدارس في عديد الجهات غير صالحة للتعليم والمستشفيات تشكو من بنية تحتية مهترئة ومن نقص فادح في المعدَات والتجهيزات والأدوية كما تشهد نقصا في أطباء الإختصاص.
أما بالنسبة للأوضاع الاجتماعية فحدَث ولا حرج فقد ازدادت نسبة الفقر وتدهورت القدرة الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار وتغول الوسطاء وتنامي الاقتصاد الموازي كما ارتفعت نسبة البطالة خاصة في صفوف أصحاب الشهائد العليا وفشلت منظومة التعليم لتنتج متحصلين على شهائد دكتورا دون عمل، ولعل اعتصام المتحصلين على الدكتورا أمام مقر وزارة التعليم العالي أكبر دليل على ذلك لقد ازدادت نسبة الفقر في بلادنا إذ أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة أخيرا أن نسبة الأطفال الفقراء بلغت 2،21 بالمائة.
أما البطالة فأسبابها متعدَدة وعلى رأسها ركود النمو الاقتصادي وانعدام الاستثمار وعدم تشجيع أصحاب المشاريع الصغرى والمتوسطة إلا أنَ أهم الأسباب يبقى متصلا بمقومات شخصية التونسي الميَالة عموما إلى الكسل والرَاحة وعدم الرغبة في بذل الجهد ،عدى بعض الاستثناءات كما قال الخبير في علم الاجتماع الأستاذ مناصف وناس في كتابه «الشخصية التونسية» أن الشباب العاطل عن العمل مهما كان مستواه يبحث في أغلبه عن وظيفة وينفر من الأشغال اليدوية الأمر الذي أدَى إلى الاستعانة بالأجانب في سوق العمل إذ بلغ عدد العمال الأفارقة في آخر إحصائيات واحد وعشرون ألف .
لقد تضاعف بفعل الفقر والبطالة عدد المهاجرين غير النظاميين عبر قوارب الموت ورغم المخاطرة بأرواحهم فإن اليأس يدفعهم لمغادرة وطنهم .
و لقد بينت الإحصائيات أن عدد المهاجرين السريين الذين وصلوا إلى إيطاليا خلال الخمس الأشهر الأولى لسنة 2020 بلغ 685 شخصا مقابل 347 شخصا في الفترة ذاتها من العام الماضي .
وفي دراسة أعدها المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية اتضح أن عدد المهاجرين غير النظاميين بلغ منذ 2011 إلى 2017 نحو 38 ألف مهاجر ضم عددا كبيرا من القصَر، اتجهوا في اغلبهم إلى السواحل الجنوبية لإيطاليا إلا أن هذا الرقم لا يشمل عدد الذين حاولوا الهجرة حيث تم إحباط أكثر من 900 عملية هجرة سرية أنقذت آلاف الشباب من الموت.
أما بالنسبة للمسألة الثقافية فإن نسبة الأمية ولئن تراجعت خلال سنة 2019 إلا أنها مازالت مرتفعة حسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء إذ بلغت في الوسط الحضري 9,12 بالمائة لترتفع إلى 5,29 بالمائة في الوسط الريفي ولئن بلغت نسبة التمدرس سنة 2011 : 1,96 بالمائة بالنسبة للفئة العمرية بين 6 و14 سنة فإن المدارس في وضعها الحالي وفي أغلبها لا توفر ثقافة . ذلك أن المطالعة التي كانت خلال عشرينات ماضية ركنا أساسيا وإجباريا أصبحت في غالب المدارس نسيا منسيا وحتى استعمال الهواتف الجوالة يقع التركيز فيه غالبا على الجانب الترفيهي والعبثي.
إن هذا الوضع ليس خاصا ببلادنا بل يتعلق بكامل الوطن العربي الذي يمتد على مسافة تفوق 23 مليون كلم2 وهي ثاني مسافة في العالم بعد روسيا . إلا ان ميادين العلم والمعرفة شهدت تراجعا وتقهقرا في الوطن العربي كافة فمعدل إصدار الكتب لا يتجاوز 4 ٪ من معدل الإصدار في انقلترا وحال الكتب الالكترونية ليس أفضل من الورقية ففي بلاد الغرب قد تصل المبيعات إلى أكثر من 40.000 نسخة يوميا أما في الوطن العربي فإن المبيعات لا تكاد تُذكر . أما عن القراءة فإن الأمر مُحبط تماما بالنسبة لأمة أول كلمة أنزلت عليها في القرآن «إقرأ « فحولها الشباب إلى « تقرا وإلا ما تقراش المستقبل ما فمَاش» .
إن الجهل مصيبة عظمى كما أكد أحد المفكرين بقولة مأثورة «لو كان الجهل رجلا لقاتلته» وهو مصدر كل المصائب، فالجهل مع الفقر قد يِؤدي للإجرام، ومع الغنى قد يؤدي إلى الفساد، ومع الحرية قد يؤدي إلى الفوضى، ومع السلطة يِؤدي آليا إلى الاستبداد . إن الجهل يقضي على كل القيم الإنسانية «قيمة العمل» ، « قيمة الصدق» ، « قيمة الثقة» ، « قيمة الإخلاص» ، «قيمة حب الوطن» ...إن كل هذه القيم تكاد تندثر، ألم يقل منور صمادح :
« شيئان في بلدي خيبا أملي ....الصدق في القول والإخلاص في العمل»
إن استهداف المثقفين والمفكرين وتفكيك البنية الأسريَة (العدد المهول لقضايا الطلاق وانحراف الشباب أكبر دليل على ذلك) وتهميش المنظومة التربوية والتعليمية من شأنه أن يساهم في تآكل السلم الاجتماعي .
كما تميز وضعنا الحالي بضعف الإرادة السياسية في تطبيق القانون وفي قلة الوعي باحترام القانون ولعل الوضع العمراني والبيئي في بلادنا أبرز دليل على ذلك ، فالعمران أصبح في حالة فوضوية والبناءات العشوائية الغير مرخص فيها تقام بانتظام وخاصة أيام العطل وحتى أثناء الليل والأكشاك انتشرت كالفقاقيع إلا أنَ البلديات والشرطة البلدية لا تتحرك في الإبان لإيقاف الأشغال المخالفة للقانون، وإذا تحركت فيكون ذلك بعد فوات الأوان.
وأصبحت البيئة منهكة ومريضة فالشريط الساحلي أصبح ملوثا جدا وخطرا على مياه البحر وعلى منظومة التنوع البيولوجي وصحة الإنسان ، والأوساخ أصبحت تعم طرقاتنا والمساحات الخضراء والمقاسم الغير مبنية أصبحت مصبا للفضلات، وتواصل التخلص من النفايات المجمعة بواسطة الردم عبر تقنية أثقلت المالية العمومية وأصبحت سما قاتلا للأجيال المتعاقبة ومرتعا للحشرات ومنبعا للأمراض المستعصية فبرج شاكير بسيدي حسين السيجومي يستقبل سنويا مليوني طن من النفايات قصد ردمها تحت الأرض وهو ما دفع بالبلدية إلى أخذ قرار في غلقه لم يُنفذ إلى حد الآن .
ألم يحن الوقت مثلما حصل بالبلدان المتقدمة للكف فورا على ردم النفايات وتجميد صفقات الردم والمرور فورا إلى رسكلة النفايات وتثمينها وخلق مزيد من مواطن الشغل وموارد الطاقة البديلة على غرار «ميثاق التنمية المستدامة والمسؤولية المجتمعية لمصانع الإسمنت الأساسية « الذي وقعه منتجو الإسمنت ببلادنا والذي ينص على إنتاج الطاقة البديلة من خلال تثمين النفايات ورسكلتها بصفة مشتركة للتقليص من تكلفة توريد الطاقة الحالية بقيمة 350 مليون دينار حسب تصريح السيد سمير ماجول رئيس منظمة الأعراف في ندوة صحفية .
مما زاد الطين بلَة مسألة النفايات الإيطالية التي أثارت ردود فعل غاضبة واستنكارا من الأوساط الحقوقية والسياسية لقد كشف برنامج الحقائق الأربعة عن صفقة مشبوهة تتعلق بقيام شركة تونسية بإدخال حوالي 300 حاوية من الفضلات المنزلية (121 ألف طن) عبر ميناء سوسة بهدف ردمها في تونس مقابل 18 مليار .
إن ما حصل كارثة بأتم معنى الكلمة ، مست من السيادة التونسية والاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية «باماكو» .
إن مصالح الموفق الإداري نظمت خلال هذه السنة ندوات وطنية وإقليمية حول الحوكمة البيئية والعمرانية ضمت كل الأطراف المسؤولة والمتداخلة والتي اتفقت بعد التشخيص الدقيق والصريح على عدة مخرجات وتوصيات لإصلاح العمران وحماية البيئة سيصدر في شأنها عن قريب كتاب جامع يحتوي على مداخلات قيمة وتوصيات هامة. صحيح أن بلادنا مازالت تزخر بالمثقفين وبالخبرات والكفاءات من أطباء ومهندسين وتقنيين ومختصين في مختلف الميادين إلا أن أغلبهم أصبح يفضل الهجرة خارج الوطن سواء طوعا أو قهرا ..
وهكذا أصبحت بلادنا تصدر الكفاءات وتستورد النفايات.
نحن في حاجة إلى ثورة ثقافية لإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية ولكي تتغير الذهنية نحن في حاجة إلى الوعي بواقعنا . فإذا كان الماضي سر وجودنا فإن الحاضر رهان مستقبلنا.
تونس من مطمور روما إلى مصب لفضلاتها بقلم: عبد الستار بن موسى
- بقلم المغرب
- 10:10 18/11/2020
- 2769 عدد المشاهدات
لقد أطلق الرومان خلال فترة الاحتلال على تونس اسم مطمور روما نظرا لوفرة إنتاجها وأهميته وتنوعه وخاصة إنتاج الحبوب والزيتون والتين والعنب.