بل إنها تمثل في كثير من الأحيان الوسيلة الوحيدة المتاحة لتجنب الانحراف إلى العنف بكل أشكاله، وخاصة منها الحروب الداخلية والخارجية. ورغم أن عالمنا اليوم أحوج إلى تجنبها بحكم تبني الديمقراطية والتعددية ليس من النادر أن تثور ثائرة بعض المثقفين والسياسيين التونسيين لمجرد أن أحزابا قد أبرمت تحالفات حكومية أو برلمانية.
ومن قبيل هذه التحالفات ذلك الذي أبرم بين الإسلاميين والعلمانيين في إطار الترويكا، ثم توافق باريس بين زعيم حركة النهضة وزعيم حزب نداء تونس وما سمي بعد ذلك بحكم الشيخين أو التوافق المغشوش بعد 2014. وأقرب منه في الزمن تقارب التيار الديمقراطي وحركة الشعب مع حركة النهضة وحزب تحيا تونس. وغيرها من التفاهمات كثير في الحياة السياسية التونسية. وآخر مثال عليها ما تلى إعلان التقارب بين قلب تونس وائتلاف الكرامة من صيحات فزع واستنكار فاضت بها أعمدة الصحف وموجات الإذاعات وشاشات القنوات، دون الحاجة إلى ذكر رجع صداها في شبكات التواصل الاجتماعي.
بغض النظر عن الموقف من مختلف هذه التفاهمات أو بعضها، تتحمل الأحزاب بالدرجة الأولى مسؤولية حالة التدهور الشامل الذي أصبحت الحياة السياسية التونسية تعاني منه. تتحملها، لا لأنها تتفاهم وتعقد الصفقات، فتلك طبيعة السياسة، ولكن لأنها لا زالت تصر على تعريف هويتها وكسب شرعية لها من خلال مناهضة الآخر، بل وبالتعسف على حقه في الوجود السياسي. ومن ذلك إدارة خطاب الحملة الانتخابية من خلال الهوية والإقصاء ومنطق الشقاق والعداء. فيصوّر كل طرف نفسه على أنه في قطيعة لا رجعة فيها مع هذا الخصم أو ذاك العدو. تفعل الأحزاب ذلك وهي تعلم أن النظام الانتخابي التونسي يشتت المشهد السياسي، فيفرض على كل من أراد التأثير في الفعل السياسي الحقيقي عقد التحالفات، بل وإبرام الصفقات. وتكون النتيجة قطيعة جذرية ما بين خطاب الحملات الانتخابية والواقع السياسي الذي يفصلها.
ولئن كانت الأحزاب ملومة كلها دون استثناء في ما يتعلّق بالخطاب العنيف والمشحون لحملاتها الانتخابية، فإنها معذورة في ما تقوم به بعد ذلك من تنازلات. ومن يقول عكس ذلك، عليه أن يجيب على بعض الأسئلة من بينها: هل من الحكمة إصلاح خطإ تشنج الحملات الانتخابية بخطإ آخر يتمثل في الإصرار على خطاب الحملة باسم الوفاء للمبادئ والبقاء على العهد؟ أليس من الواقعية القبول بما ليس منه بدّ؟ هل لدى المنددين بالتفاهمات الحزبية بديل آخر لرتق ثغرات النظام الانتخابي في انتظار إصلاحه؟ هل من المعقول الإصرار على ارتداء ثوب الطهر السياسي إذا كان لا يستر عورات منظومة حزبية منفلتة انفلاتا هيكليا من عقال الواقعية؟
يسهل الكلام باسم الاتهامات الكبرى كالكذب والإخلاف بالوعد والفساد والخيانة. وأسهل منه الكلام الذي تكون غايته بيان عيوب موجودة لا اختلاف حولها في الأفعال والفاعلين ومجالات الفعل. ولكن أليس من الأخلاق أيضا أن يقدّر المتكلم نتائج البديل؟ أليس عيبا أن لا يتضمن الكلام أفقا واقعيا مقترحا؟ هل أذنب روزفالت وتشيرتشيل مثلا حين قبلا التحالف مع ستالين، عدوّهما الإيديولوجي اللدود، من أجل هزم النازية في الحرب العالمية الثانية؟ أكان من الأفضل لهما أن يرفضا، باسم مبادئهما الديمقراطية اللبرالية، الجلوس إلى زعيم الشيوعية السوفياتية، وأن يفسحا بذلك المجال أمام هيتلر والنازية؟ أكان الجدير بشعبيهما أن يثوروا مطالبين بمزيد الصدق والانسجام مع الذات؟
تتحمل الأحزاب في تونس ويتحمل سياسيوها المسؤولية عما جرى ويجري، لا اختلاف في ذلك ولا شك. ولكن ألم يحن الوقت لتجاوز الخطاب الأخلاقي، الذي يكتفي بالتنكيل بالسياسيين، من أجل التفكير في مجالات الفعل المتاحة التي من شأنها المساهمة في تجاوز سياسة تراوح بين التطرف في الخطاب وبين التنازلات المناقضة للمبادئ؟ أليس من شأن اشتراك الغالبية الساحقة من الطبقة السياسية في نفس العيوب أن يدفع نحو التساؤل عن الأسباب الموضوعية التي تفسرها؟ هل يعقل أن يكون كل السياسيين التونسيين بطبعهم أشرارا وخونة ومنافقين؟
لا تحظى هذه الأسئلة بالشعبية لأن طرحها يفترض عدم الاكتفاء بالتعريض بالطبقة السياسية والتشهير بعيوبها. بل إنه يقتضي تفسير هذه العيوب وإدراك أسبابها، بعيدا عن إعطاء الدروس في المواطنة والأخلاق. أي أنه يفترض إيجاد الأعذار لما يعتبره الكثيرون غير قابل للتبرير.
إذا كانت هذه القناعات قائمة على أن النخبة السياسية التونسية فاسدة لا صلاح فيها، فلا جدوى من النقاش. وأحرى عندها بالجميع أن يقبل بحياة سياسية كتب على بابها: «مرحبا بكم في ضيعة الشعبوية، الرجاء تجنب الصراخ والعويل». أما إذا قلنا إن بالإمكان أفضل مما هو كائن، فعلينا أن نفهم الأسباب كي نجتهد في البحث عن الحلول. وتلك وظيفة كل من يتولى بضمير ومسؤولية إنارة الرأي العام وصناعته.
لا شك أن معضلة الهويات المتناحرة ستضل تلاحق السياسة في تونس لمدة طويلة. ولكن يمكن التخفيف من حدّتها بلا أدنى شك. وشرط ذلك تقليص ارتهان الأحزاب السياسية لقواعدها الأكثر راديكالية. فذاك أصل الداء الذي لا ينفع معه أي خطاب أخلاقوي مهما كان شعبيا.
إن اشتراك الأحزاب في التركيز على فئة ضيقة معينة يدفع حقا للتفكير. إذ أن كل حزب قد علم أن التنوع المنفلت في المشهد السياسي التونسي يجعله مرتهنا لجمهور محدد لا بد من إرضائه والاستجابة خطابيا لما يختلج في صدره من عواطف سلبية.
لا يهم كثيرا أن تكون هذه العواطف السلبية موجهة ضد النظام السابق أو الإسلاميين أو الحداثيين أو الفاسدين أو المعتدلين أو اللبراليين أو اليساريين. المهم أن يستثمر الخطاب في إحداها قبل الانتخابات استثمارا مطلقا لا تنسيب فيه. ثم حين تضع هذه الحرب الباردة أوزارها بعد الانتخابات، يتفق الأضداد ويتجرع أنصارهم مرارة الخيبة.
يستثنى من ذلك كل حزب لا ينوي المشاركة في الحكم على المدى المنظور. ويكفي أن يكون له بضع أصوات برلمانية كي يستقطب الأضواء ويواصل على نهج حملته الانتخابية والحرب الخطابية في انتظار انتخابات قادمة قد تحمّله نتائجها مسؤولية المشاركة في الحكم. فلا يجد إلى تحملها سبيلا إلا أن يقبل بما قبل به غيره من قبله.
كلما سُئل أحد السياسيين في تونس عن وعوده السابقة، احتج بالضرورة. فإذا ووجه بضعف الحصيلة، نسب لحزبه نجاحاتها ولشركائه عثراتها. فتستحيل المحاسبة التي هي شرط من شروط الديمقراطية النيابية الناجعة. وتستحيل معها مخاطبة العقل ووضع البرامج الجدية. فلا أمل لمن يسعى أن يكون يوم الانتخابات في عداد الفائزين إلا أن يجد لنفسه عاطفة سلبية يشحنها، فيزيدها تشنجا.
ليست تونس استثناء في هذا المجال. وباحثو العلوم السياسية المقارنة يعلمون جيدا أن التشتت، حين يكون ناجما عن قواعد المنافسة الديمقراطية نفسها، يؤدي عادة إلى نتائج مشابهة، وإن اختلفت السياقات وتفاوتت الحدة. ففي بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية والجنوبية مثلا حدث ما لم يسببه إلى الآن الانفلات التونسي. نقول إلى الآن لأن الانفلات يأتي بالانفلات. أما سياسة الهوية، فلا تأتي هيمنتها على المجال العام إلا بالدمار أو بالاستبداد.
إنها منظومة لا تشجع على مخاطبة أوسط المشاعر ولا متوسط المواطنين. وهي تنتصر للتطرف بكل أشكاله. ولكن يستفيد منها أيضا كل من يريد أن يتكلم في المجال العام دون أن يمتلك وسائل التحليل. إذ يكفي أن يتبنى المتكلم المطلق من الأخلاق والشنيع من الاتهامات حتى يصبح نجما في الإعلام. ولعله يوصف بالمناضل إن شاءت له النخبة أن يوصف كذلك.