منبــــر: المشيشي بين خيارين صعبين

بقلم: منير  الشرفي
منذ انتخاب المجلس التأسيسي، في أكتوبر 2011، أي منذ حوالي تسع سنوات، يُمكن القول بأن تونس عاشت طيلة هذه الفترة

بدون حكومة مستقرّة، وأن الحكومة بقيت مُكتفية بتسيير الأعمال اليوميّة، دون برامج واضحة ولا مشاريع هامّة، ممّا أدى إلى تفاقم الأزمات في كافة المجالات ويزيد في صعوبة حلّها.
فالحكومات المتعاقبة لم يكن بإمكانها النجاح بحكم تركيبتها وطريقة اختيار أعضائها وطريقة منحها الثقة من قبل مجلس نواب الشعب، وذلك لأسباب عديدة، لعلّ أهمّها النظام السياسي الهجين، البرلماني المُعدّل، الذي يعتمد على حكم الأحزاب، والنظام الانتخابي الذي يفتقد إلى آليات التمثيلية الحقيقية ولا يُفرز أغلبية حاكمة. فدخلت الأحزاب في متاهات المحاصصات والتوافقات، لتُصبح الحكومة مجرّد مواقع في السلطة، أغلب أعضائها ميزتهم الوحيدة ولاؤهم لرؤساء أحزابهم ومُهمّتهم الوحيدة تركيز المُقرّبين منهم، عائليّا وسياسيّا، في مواقع القرار والسلطة بمختلف درجاتها.
المُتحزّبون يدافعون عن نظريّتين : وجوب تشريك الأحزاب المُنتصرة في الانتخابات التشريعيّة، والاعتماد على المحاصصة والتوافق. وهنا يكمن داء السياسة في تونس طيلة السنوات الأخيرة.
فتشريك الأحزاب المُمثّلة في البرلمان وجوبا في الحكومة هو خلط واضح بين السلطتين التشريعية والتنفيذيّة. بل هو تآمر من السلطة التشريعيّة على السلطة التنفيذيّة، يُساعدها في ذلك نصّ دستوري يجعل من الحكومة أداةً طيّعة بين أيدي البرلمان، ليُصبح هذا الأخير يتحكّم في السلطتين في نفس الوقت. فنظرية تفريق السلط التي دعا إليها منتاسكيو تعتمد بالأساس على مبدإ مراقبة السلطات لبعضها البعض (le pouvoir arrête le pouvoir). لكن النظام السياسي في تونس، حسب دستور 2014 يُتيح هيمنة كاملة للسلطة التشريعيّة على السلطة التنفيذيّة، أي سلطة الأحزاب على الحكومة، وهو ما يحدّ بدرجة كبيرة من المهامّ الموكولة للوزراء، ويُؤدّي إلى حكومات مكبوتة، غير قادرة على المبادرة وغير قادرة على البقاء طويلا.
أما مسألة التوافق فهي بدعة تونسيّة، نشأت في ظرف مُعيّن، محدود في الزمن، كان لا بدّ من تجاوزها بتجاوز الظرف. ففي صائفة 2013، كان المجلس التأسيسي في وضع غير شرعي، إذ كان قد انتُخب لمدّة سنة واحدة لصياغة دستور جديد، لكنه لم يُكمل هذه الصياغة بعد سنتين من انتخابه. وبذلك فإنه قد فقد شرعيّته، وبالتالي فقدت الحكومة أيضا شرعيتها باعتبارها مُنبثقة عنه. اعتصام الرحيل الذي نجح في ترحيل الحكومة خلق مأزقا سياسيا وفراغا في السلطة التنفيذية. ولم يكن بالإمكان تشكيل حكومة تحظى بالشرعية. فكان لزاما على كافة القوى السياسيّة أن تجد مخرجا لهذه الوضعية، فالتجأت إلى التوافق لتكليف رئيس للحكومة يُوكل إليها بالخصوص تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.
نرى إذن أن مبدأ التوافق كان ضروريّا للخروج من وضع لم يكن فيه أي أحد يحظى بالشرعية. فأي مُوجب للمواصلة في تطبيقه عندما تتوفّر رئاسة شرعية ومجلس نيابي شرعي مُنتخب ؟
من جهة أخرى، لنا اليوم أن نلاحظ أن سياسة التوافق التي تمّ تطبيقها منذ انتخابات 2014 إلى الآن، بدون أن يكون هناك مُوجب لها، كانت فاشلة فشلا ذريعا. وكان على الشعب التونسي أن يتحمّل النتائج الكارثيّة للحكومات المُتعاقبة طيلة السنوات الأخيرة بسبب الغياب شبه التام للكفاءات الي تعجّ بها البلاد والاعتماد على المحاصصة الحزبية، أي على المُقرّبين سياسيّا، وأحيانا عائليّا، من رؤساء الأحزاب، دون أي كفاءة ولا تجربة.
اليوم، ونحن ننتظر الحكومة التي يستعدّ لتشكيلها هشام المشيشي، لنا أن نتساءل: هل سيُكرّر التجارب الفاشلة أم أنه سيتّعظ بدروسها؟ وسيجد صعوبات في كلتا الحالتين.
فإذا سلك طريق سالفيه واستسلم لضغوطات الأحزاب طمعا في تزكيتها في المجلس النيابي، فستحظى حكومته بثقة البرلمان، كما حظيت سابقاتها، لكنها ستفشل في معالجة الأزمات التي تتخبّط فيها البلاد، كما فشلت سابقاتها، لأن الوزراء الذين ستفرضهم الأحزاب يفتقرون إلى الكفاءة كسابقيهم.
وأما إذا سلك الطريق الصحيح وشكّل حكومة، قليلة العدد، تعتمد بالأساس على الكفاءات المدنيّة العالية وعلى عدد هامّ من النساء القادرات، بعيدا عن الأهداف الضيّقة للأحزاب، وخاصّة منها الإيديولوجيّة والمُنفّذة للأجندات الأجنبية، فإنه يكون قد خدم البلاد فعلا.
قد يحمل هذا الاختيار خطر عدم الحصول على ثقة البرلمان، لكن التاريخ سيُسجّل أن المشيشي اجتهد لخير تونس ومنعه من النجاح أصحاب البرامج الهدّامة. رغم أنني أستبعد عدم اسناد الثقة لحكومة الكفاءات المستقلّة، لأن ذلك يُعطي لرئيس الجمهورية إمكانية حل البرلمان، وهو ما سيعمل النواب، المُتشبّثون بمقاعدهم، على تجنّبه نظرا لأن الكتلتين الكبيرتين داخله فقدتا الكثير من شعبيّتهما، وأن انتخابهما بذلك العدد مرّة أخرى يبدو مستحيلا.
وإذا مرّت حكومة الكفاءات المستقلّة بسلام من امتحان البرلمان، على رئيس الدولة أن يُسرع في اقتراح تعديلات على بعض فصول الدستور وعلى المجلة الانتخابية تجنّبا لأزمة حكوميّة قادمة لن تقدر البلاد على تحمّلها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115