أحمد المستيري ونخبة من السياسيين المنشقين عن بورقيبة والحزب الحاكم على تأسيس حركة الديمقراطيين الإشتراكيين وتزامنا مع صدور كتابه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» أن الحركة الوليدة أعدّت وثائقها وتوجهاتها السياسية معتبرة هذا الكتاب مرجعا لها .
هذه العلاقة التي كشفها جعيط بين مسار الفكر و مسار السياسية تكاد تكون ملازمة لحركة المجتمعات الانسانية بما في ذلك المجتمع التونسي ويمكن أن نقيم تقاطعات بين الحركتين الفكرية و السياسية الحديثة و المعاصرة على امتداد عقود وعبر منعطفات هامة ترافقت فيها منذ بداية القرن حركة الفكر وحركة الفعل السياسي و التغيير الاجتماعي.
من المفيد بناءا على ذلك أن نبحث عن العلاقة الممكنة بين طبيعة الصّراعات و التناقضات الجارية الآن في تونس وتحديدا بعد 2011 وفي العالم ونظام الأفكار المعلن والخفي المحرك لهذا الصراع فما قد يبدو بلا معني و اعتباطيا وغير مفهوم نستطيع أن نحاول فهمه بواسطة مقولات ومفاهيم ونظريات تجعل من الوقائع لا فقط أحداث بل بوجه ما سيرورة قابلة للتنظير .
فرضيتنا هنا أن ثورة تونس ومخاضاتها لا يمكن حصرها في خانة «الاستثناء التونسي» فتنسيب هذا الاعتداد بالاستثناء ضرورة ملحّة تستند الى المنعرج الجديد الذي فتحته الموجة الثانية من الثورات العربية خاصة في لبنان والجزائر والسودان والعراق, وإلي كلّ حركة التمرد العالمية ضد سياسات التقشف, لسنا شعبا دون الاخرين ولسنا فوقهم و يبقي من حقنا أن نذهب بعيدا في جذور ما يعتمل في أعماق المجتمع من تطلع للحرية و الديمقراطية و الكرامة ولكنه تطلع في جوهره انساني ورسالته حضارية و إنسانية هو في الجوهر تجلي محلي لعصيان عالمي وتمرد إنساني عابر للقارات و الأمم في وجه منظومة العولمة النيوليبرالية وتوافقات واشنطن وبرامج الاصلاح الهيكلي المفروضة على بلدان الجنوب, لقد عرفت فترة الحرب البارد ة تقلصا للفوارق الطبقية خاصة في دول مركز النظام الرّأسمالي على حساب شعوب المستعمرات القديمة وتحسبا من تقدم الأفكار الشيوعية, وفي الثمانينات مع صعود الصين ونمور آسيا عرفت القارة الآسيوية بدورها تراجعا للفوارق, ومنذ التسعينات و بعد الأزمة المالية الأولي ثم الثانية في 2008 تتجه الفوارق نحو الاتساع بشكل غير مسبوق ويهدد أجزاء هامة من سكان الأرض بالمجاعة وتفشي الأوبئة و الفقر المدقع.
بناء على ذلك صرنا نميز من خلال التحليلات السوسيولوجية و الاقتصادية من جهة بين أقلية في قمة الهرم عالميا و محليا محتكرة للثروة ولدورة إعادة انتاجها و فئات مدمجة بحكم حاجة المنظومة لها و دورها المتلائم مع الصيغ الجديدة للعمل و الإنتاج و التبادل ومن جهة أخري شتات من الفئات و الأفراد والأقليات و الجهات الغير مدمجة و المبعدة.
لا يتعلق الأمر برسم جدار فصل دائم وسميك بين العالمين فالتنظيرات الاجتماعية المعاصرة تبين أن آليات الإدماج والإقصاء متحرّكة بين من هم في «الدّاخل» أي المدمجون ومن هم في «الخارج» , هؤلاء يتشكلون من عدة فئات اجتماعية يصنفهم المهيمنون لا معياريين بحسب منظومة قيمه وهرميته : النساء, السود, المهاجرون، المرضي، النازحون .سكان الأحياء الشعبية ... كلّ هؤلاء يعدّون في بعض المجتمعات التي يعيشون فيها باعتبارهم فئات ومجموعات غير مدمجة أو مجموعات تكسر العلاقة مع المجتمع الأصلي . حين نعود تاريخيا لبعض المحطات لدي مختلف شعوب الأرض نتبين أن خطّا تاريخيا ما يحكم مسار الانعتاق : السود في المجتمع الأمريكي كانوا إلى حدود ستينات القرن الماضي بالمعيارية القانونية والثقافية المهيمنة خارجيون ويخضعون للتمييز والمنبوذين في الهند طائفة تعد بالملايين وضعوا خارج دائرة الاعتراف ويعيشون على هامش المجتمع.
سكّان المستعمرات تحوّلوا من قبل مستعمريهم إلى كائنات غير آدمية , من ذلك أن فرانتز فانون تبيّن من خلال تجربته العلاجية مع الجزائريين تحت نير الاستعمار عقدة النقص التي بثّتها الممارسات الاستعمارية للرجل «الأبيض» في أعماق السكان الأصليين وإحلال الخوف والمهانة مكان تقدير الذات لذاتها وهو سلوك لا يقتصر على المستعمر الخارجي بل أيضا يمتد إلى كلّ قوى التسلط الدّاخلي.
لقد أريد للثورات المخملية في أوروبا الشرقية ضدّ الأنظمة الشمولية أن تكون خاتمة عصر الثورات وتسقيف لطموح الإنسانية في الحريات السياسية و اقتصاد السوق , لكن حركة التمرد في مقاطعة شياباس بالمكسيك, وموجة صعود اليسار في البرازيل وأمريكا الّاتينية ثم حركة المنتديات الاجتماعية قبل أن نصل الى ثورتي تونس ومصر و ارتداداتها في إسبانيا و اليونان وول ستريت وأخيرا حركة القمصان الصفر و الموجة الثانية للانتفاضات العربية .. كلها حلقات تصادم ميداني وسياسي مع السياسات الاقتصادية المعولمة ومنظومات الإقصاء المحلية.
وبالتوازي مع المعركة الميدانية تشهد الساحة الفكرية والنظرية مواجهة بدورها بين من يستمر في الدفاع عن مرتكزات النظرية الاقتصادية النيوليبرالية المعولمة ومن يتدبر دروبا جديدة لعالم أفضل, نقرأ كثيرا لأسماء صارت معروفة في نقد الرأسمالية المعاصرة, تشومسكي وزتيغلتز ونعومي كلاين وزيغلر.. غير أن كتابين صدرا تباعا للباحث الاقتصادي توماس بيكاتي الأول سنة 2013 تحت عنوان «رأس المال في القرن 21 » والثاني سنة 2019 «رأس المال والايديولجية» يلخصان طبيعة التحول الذي شهده النظام الرأسمالي للتدليل على أن فائض الربح اليوم في الرأسمالية يتأتى من الرأس مال المالي وليس من الرأس مال المنتج والمشغل , وعلى أن ما ينتجه النظام الرأسمالي من لا مساواة بين الفئات و الطبقات و الشعوب يقترن بعوامل تاريخية وبموازين القوي.
فمتي نستطيع القول بأن ما نخوضه نحن التونسيون من صراع من أجل العدالة و الحرية و ضد كلّ أشكال الللامساوة هو جزء من صراع كوني تتقاطع فيه جهود مقاومات عالمية شتى ؟
ما يدفعنا إلي المزيد من ترسيخ هذه القناعة بعد جائحة كورونا هو صعود فكرة المصير الإنساني المشترك وذلك من خلال عدة معارك ومحاور مثل البيئة و العدالة المناخية, حقوق المهاجرين واللاجئين , مناهضة العنصرية وكراهية الأجانب , مناهضة الحرب و التطرف العنيف , وتنضاف اليها بنسق متصاعد قضايا ديون البلدان والفقيرة و النامية, نقد السياسات التقشفية و الدفاع عن القطاع العمومي. عدة تقارير ما انفكت تؤكد عناوين هذه المواجهة العالمية وتبرز اتساع الفوارق و ازدياد أعداد الفقراء في العالم وتكثف الثروة في يد أقلية.
آخر صيحات الغضب في وجه الللامساوة العالمية كانت للأمين العام للأمم المتحدة في محاضرة من على منبر مؤسسة نيلسون مانديلا: «قضية اللامساوة سمة عصرنا البارزة .., تقول الأسطورة «إن الجميع في مركب واحد لكن إذ نطفو جميعا علي نفس أمواج البحر, من الواضح أن البعض مناّ على متن يخوت فاخرة , بينما يتشبث البعض الآخر بالحطام خوفا من الغرق» ما أراد قوله الأمين العام للأمم المتحدة هو نهاية مرحلة كاملة من الهيمنة الرأسمالية التي بدأت بجرائم الاستعمار وتتواصل اليوم يتكريس فوراق في الدّخل ومستوي العيش وبين الجنسين .وبين الطبقات .
هذا المنوال العام للتشخيص يتنزل في كل بلد وفق خصوصياته المحلية ويتخذ محتويات متنوعة ولسنا في تونس خارج هذا الوضع العالمي ومن الطبيعي أن ينتج اندماجنا في العولمة من منا فوق اليخوت ومن منا يركب قوارب الموت هربا من الفقر و انسداد الأفق ومن منا يكابد من أجل البقاء.
وحين نعبئ طاقتنا للصراع من أجل العدالة فبقدر ما نقوم بذلك بأنفسنا وبحرية وهذا من مكاسب ثورتنا فإننا ندرك أننا لا نقوم بذلك إلا كجزء من مستضعفي العالم و مضطهديه, فعلى خلاف سياسة المحاور التي تشهدها المنطقة العربية بين محورين يدفعان معا نحو عسكرة المواجهة بدءا من العراق وسوريا واليمن وصولا الى ليبيا وهو صراع لا مصلحة للشعوب فيه بل يهدف لوقف احتمالات التشبيك بين المقاومات العربية وباقي مقاومات شعوب العالم وأسرها في بوتقة الهويات القاتلة .
إن كلّ الصخب المؤجج للعصبيات و القوميات , ليس حكرا علينا بل هو سمة هذا العصر الأخرى ومن أوكد مهام نضالنا ضد غياب العدالة هو ربطها في وعي الفاعلين وفي أدائهم و انفعالاتهم بآثار العولمة السلبية ولعل من محاسن هذه العولمة هي أنها أيقظتنا على حدود كلّ تنظير لقيمة العدالة بحصرها في الجغرافيا الغربية فالبوذيون و الكنفشسيون و الأفارقة و المسلمون و شعوب أمريكا اللاتينة.. كلها معنية بمعركة العدالة .
وقد يكون التاريخ في سيره الدائم نحو ترسيخ قيمة الحرية وقيمة التضامن قد سمح لنا نحن التونسيين أن نقدم أوراق إعتمادنا داخل الفضاء العمومي العالمي كمقتدرين لانتزاع حقوقنا في تضامن مع الآخرين الامر لا يتعلق بعزلة هوويّة أو اقتصادية بل بعرض بديل بدأت ملامحه تتشكل في حوض المتوسط بدءا من جنوبه هذه المرة تونس ومصر الجزائر المغرب وشماله اليونان واسبانيا , لسنا إذن وحدنا ولسنا قبالة العالم بل نحن في العالم ومدخلنا لعالم عادل هو مغرب الشعوب و متوسط الشعوب فهل من هنا نبدأ؟
انتهى
مخاضات الثورة التونسية من منظور فلسفة التاريخ: النّضال ضد الللاّمساواة مهمة عالمية ومحلية (الجزء الثالث والأخير)
- بقلم المغرب
- 09:38 22/07/2020
- 1496 عدد المشاهدات
بقلم: ماهر حنين
كشف المفكر هشام جعيط في أحد حواراته الصحفية الأخيرة ان الرئيس الرّاحل الباجي قائد السبسي أكّد له في أواسط السبعينات حين كان يعمل مع الوزير السابق