صريحة تؤكد على دور الحداثة في تدشين مولد الذات الحرة فقبل الحداثة لم تكن هناك ذات لها حقوق في التفرّد والتميّز والتفوق وتصل كتابات تحررية مغالية إلى القول أن كلّ مسعى لسياسة تضامنية اجتماعيا على قاعدة الغاء الفوارق بين الافراد هو اعتداء على الحرية وتقليص لها , و رأ ي ثان مثلته النظريات الإشتراكية و الماركسية بالأساس ينقد الاكتفاء بالحقوق المدنية و الفردية المجردة طالما استمر الحيف الطبقي والتفاوت الاجتماعي وبين المقاربتين عدة أطروحات حول نظرية العدالة وشروطها . لا تزال تشغل حقل الفكر والسياسة .
نملك اليوم مقومات القول أن الثورة التونسية تضع على المحك و الاختبار التاريخي إمكانية تحقق قيمة الحرية وقيمة التضامن أي تضع علي المحك إمكانية ان تكون ثورة سياسية واجتماعية لا مجرّد تحوّل نحو تعددية حزبية وديمقراطية إجرائية .
فكرة الحرية كإطلاق للذاتية و الفردانية لم تبقي بفضل الثورة فكرة أخلاقية او نخبوية بل غدت فكرة متداولة بشكل واسع لأنها تهدف في الجوهر الى تفكيك آليات الهيمنة وآليات إعادة انتاجها ثقافيا و مجتمعيا وسياسيا وهذا ما نستطيع رصده من خلال الدور المتنامي للمجتمع المدني والتطور نحو تأصيل قانوني وتاريخي يحل محل القوانين والمعايير الاجتماعية التسلطية.
فلقد اكتسب منذ بداية القرن الماضي ومع صعود دور الجمعيات المناضلة ضد الاستبداد (نسوية, حقوقية, تقافية..) عدد هام من التونسيين قدرات على المغادرة الفردية لدائرة العائلة و القبيلة و التقاليد سعيا لتحقق الذات بمعناها الحديث هكذا كانت فكرة الحرية موضوع صراع لافت بين المحافظين و التحررين والديمقراطيين والمتسلطين وهو صراع يشهد منذ عشرة سنوات موجات متعاقبة .
لكن هذا التناقض بين ماهو فردي وما هو جماعي يتخذ دلالة أخري حين يطرح من منظور ليبرالي اقتصادي على أنه انعتاق للفردانية من ربقة الجماعة المكبلة له وإهمال للمسؤولية الأخلاقية و السياسية إزاء الغير أي إزاء المشترك وبلغة سياسية تغليب لفكرة الحرية الذاتية علي فكرة العدالة و التعاون و التضامن في دلالتها السياسية وفي ارتباطها بالدوّلة و السياسيات العمومية .
بنفس المنهج التحليلي الذي تناولنا به في المقال الأول علاقة الدولة الوطنية بالإسلام السياسي نحاول أن نقرأ ضمن سياق الثورة التونسية كيف تطرح منذ سنوات فكرتا الحرية و التضامن هل هي علاقة تضاد جوهري أم علاقة تفاعل جدلي ؟
تتخفي الأطروحات الليبرالية للنخب الفكرية والاقتصادية أحيانا وراء التناقض بين قكر الأنوار والفكر الديني, وهو تناقض متعدد العناصر حين ننقل فكرة الحرية الي المجال السياسي و الاقتصادي على أرضية ليبرالية لتصبح الثورة الناجحة و المتحققة هي تلك التي تثمن قدرات الفرد كفاعل اقتصادي ذكي و قابل للتكيف مقابل المحافظ وهو ليس فقط المتدين بل كذلك حامل الأفكار الاشتراكية و اليسارية . اي الذي لا يريد للدّولة أن تنفصل عن المجتمع وتكتفي بالحدّ الأدني . l’Etat-minimal.
مثل هذه الأطروحة تتبني في افضل الأحوال تعريفا للثورة بما هي ثورة سياسية و اخلاقية ضد فساد يمنع آليات السوق من تحقيق الجدوى لخلق الثروة, ففك الطوق عن عالم المال و الأعمال الذي احتكرته ولا تزال حلقة ضيقة هو الذي سيجلب للاقتصاد فاعلين جدد قادرين على خلق الثروة ليعم من بعده الرخاء على الجميع.
تجليات هذا الخط الليبرالي لقراءة الثورة نجدها من خلال تعبيرتين الأولي أيديولوجية تجعل من دوكسا الفكر الاقتصادي النيوليرالي حقيقة علمية غير قابلة للتفاوض أي خارج المجال الديمقراطي والثانية من خلال استقدام وظهور شخصيات وأسماء يقدمون أنفسهم كخبراء وعارفين «غير مسيسين» ودخول فاعلين اقتصاديين حقل الفعل السياسي مباشرة عبر الأحزاب
أو دونها لنرى برلمانين ووزراء ومستشارين «جدد» يؤسسون لدورهم انطلاقا من خبرتهم وكفاءتهم ووجاهتهم وشبكات علاقاتهم الداخلية وخاصة الخارجية ويصبح الناجحون في عالم الأعمال وإدارة المؤسسات هم الأقدر لقيادة الدولة و المجتمع .
مثل هذه «المواصفات الجديدة» هي المطلوبة اليوم في نظرهم للدولة ولا تتوفر في طينة المناضلين السياسيين ممن قاوموا الاستبداد فهولاء قد انتهى دورهم أو ربما صار ثانويا , لقد عرفنا عشرات المسؤولين والسّاسة الجدد فقط داخل الحكم أو هم بعد ذلك عائدون الي أعمالهم هذه الشريحة الجديدة «من الفتيان الذهبيين» هي وليدة عصر الليبرالية الجديدة وظهورها في تونس بعد 2011 منتظر فالحرية في الأصل للجميع ولا إعتراض ديمقراطي على هذا التجلي لكن الديمقراطية أيضا نقد و صراع ضدّ هذا الطّرح لما ينطوي عليه من مغالطات ومخاطر .
«الفتيان الذهبيون» في تونس والعالم يختلفون عن رأسماليي وبرجوازيي القرن 19 أوبين الحربين ممن استبسلوا من أجل مصالحهم الطبقية و القومية أو عن فكر برجوازي حرّ, هم شبكة من الأفراد والحلقات يتحركون داخل الحقل الاقتصادي والإعلامي والسياسي بشكل لزج و غير ملزم وفي مساحة فكرية وثقافية مفتوحة علي المحافظين والعلمانيين وتبرر نهاية الصراع (نهاية التاريخ) الاجتماعي وتضع سقفا له, بعضهم يرفض أن يصنّف كتكنوقراط وينطبق عليه تصنيف – تكنو- سياسي – أي من يعرفون أنفسهم كرجال أعمال وسياسيين ويعتقدون أنهم الأقدر والأجدر في قيادة البلاد وحكم العباد .
مشكلة هذا الفاعل السياسي الجديد مزدوجة ويمكن تناولها من زاوية السيرورة التاريخية التونسية و في علاقة بتجربتنا الديمقراطية إذ عرفت تونس منذ بداية السبعينات تحررا للفاعل الاقتصادي التجاري و الصناعي والخدماتي بدعم وحثّ من الدولة وفي مرحلة متقدمة من الانفتاح الاقتصادي اصبح راس المال الأجنبي و المصدّر ذا حظوة أكبر لدي أصحاب القرار السياسي في الدّاخل وفي الخارج, وفي السنوات الأخيرة لحكم بن علي ضاق المجال على الفاعلين الاقتصاديين غير المرتبطين بمنظومة الحكم وهو ما أفرز في الأخير فئة من المستثمرين والمستفيدين أجانب ومحليين غير معنيين بالتحول نحو الديمقراطية ويمكن القول أن الثورة فاجأتهم وأربكت علاقتهم العضوية بمنظومة الحكم وأسبغت على أدائهم الارتجال والتردد قبل أن تتوضح ملامح شبكة المصالح الجديدة التي أصبح من بينها الفتيان الذهبيون golden Boys وعدة فاعلين اقتصاديين و تكنوقراط ومن مهن حرة صار همهم هو التكيف مع الثورة كمعطي تاريخي والتخطيط للوصول والبقاء في الحكم.
معضلة هؤلاء الفاعلين أنهم لا يشكلون طبقة بالمعني التقليدي و لم يكونوا في جزء كبير منهم في حاجة للديمقراطية كمشروع مجتمعي , ولقد اصطدمت إرادة يناء قوة سياسية جديدة لتمثيلهم بصعوبات و ارتد كل هذا الفضاء الى وضع الشتات وصار بلا هوية فكرية وسياسية وثقافية المهم هو القرب من الحكم و تسقيف المشروع الديمقراطي حتي لا يعيد كلّ السلطة للمجتمع ويطرح مطلب النفاذ لخلق الثروة والعدالة في توزيعها.
بتعبير ماركسي نحن أمام صعوبة بنيوية لخلق ثقافة برجوازية ديمقراطية تؤمن بقيمة الحرية دون وجود طبقة برجوازية ففي غياب الطبقة تنمو شبكات المصالح وتبادل المنافع و يتداخل القانوني بالغير قانوني وتعود شبهات الفساد , وسياسة الصالونات واللوبيات, فهشاشة البنية الاجتماعية و براغماتية هذه الشبكة بقدر ما مكنتها من الوصول الى الحكم لكنها أخفقت عدة مرّات في التشكل السياسي تنظيميا وفكريا و عمليا .
أمام هذا الوضع تضمر فكرة التضامن وتفقد معناها وتتخذ في أفضل الحالات دلالة التضامن الافقي ( الخيري – التطوعي – العائلي ) و تستبعد دلالة التضامن العمودي الذي تتكفل به الدولة و السياسيات العمومية
هكذا يحل التناقض بين مجتمع الافراد الأناني الذي يريد ان يعمم قيمه علي الجميع والمجتمع المتضامن محل التناقض الذي يراد التنظير له بين الحرية و العدالة الاجتماعية , سواء كانت عدالة توزيع الموارد أو عدالة تكافؤ الفرص أي العدالة التي تكسر حلقة إحتكار الثروة و إعادة انتاج الهيمنة . أمرتا صن تفطن أن الحقوق الشكلية تحيل الي ما يسميه الحرية السلبية
لأن غياب العدالة وتكافؤ الفرص يقلص لدي المحرومين و الضحايا مجال الحرية ذاتها . لننعم كلنا بحرية الارادة و الإختيار لا بدّ ان نضمن تساوي القدرات .
مسرح هذا التناقض هو المجتمع المدني بين من يتبني أطروحة حتمية الامساواة وضرورة معالجتها أفقيا من خلال جمعيات وحملات العمل الخيري أي نقل العدالة من الحقل السياسي الى الحقل الأخلاقي ومن يخوض صراعا فعليا من أجل عدالة توزيعية وتعويضية و تفعيل سياسات التمييز الإيجابي ووضع سياسة إرادية للدولة في مجالات اقتصادية قطاعية.
سيكون من الصعب الإستمرار في جهد الربط بين فكرتي الحرية و التضامن طالما بقيت الدولة ومؤسساتها غير ممثلة للجميع وهذا جزء من أزمة التمثيل السياسي لليسار و القوي الاجتماعية و طالما بقي الاقتصاد سجين مقولات أيديولوجية ليبرالية تقدم كما لو أنها علمية وقوانين لا نملك حق نقضها وتغييرها . لذلك من المهم أن تستمر المطالب الاجتماعية وتستمر التعبئة من أجلها لأنها في المنتهي دعوة للتفاوض من أجل ديمقراطية اجتماعية وهي ديمقراطية تؤمن بها فئات واسعة من المجتمع من الطبقة الوسطي وحتي العليا فضلا عن الفئات الهشة.
يتبع:
• النضال ضد اللا مساواة مهمة عالمية ومحلية
بقلم: ماهر حنين