بكل وعودها. صحيح أن عنوانها الظاهري كان طلب الاعتذار من المحتل الفرنسي عبر مشروع اللائحة المقدمة من طرف كتلة ائتلاف الكرامة حول موضوع لا يمكن إلا مساندته اذا ما أحسن عرضه وتقديمه والتنسيق له داخل البرلمان وخارجه والتشاور بشأنه مع المؤرخين ومع مخابر البحث المتخصصة. لكن الهدف المبطن والذي أصبح حقيقة عبر المداخلات المقدمة في النقاش تمثل في محاولة متجددة لتموقع سياسوي داخلي-داخلي عبر تصفية الحسابات بشتم وثلب قامات البلاد ورجالات دولتها وتمريغهم في التراب بعد أن اكتسبوا شرعيتهم من نضالهم ضد هذا المحتل الذي تمت مطالبته بالاعتذار. وكانت الجلسة تعبيرة جديدة عن تأوهات و أوجاع ذاكرة انتقائية وحاقدة و لا تزال تعاني وتتألم ولم تهضم التحولات التي وقعت في تونس رغم مرور السنوات والعقود الماضية وبقيت مشدودة الى سردية مضادة ولم تستوعب الدرس الضروري بأن بداية علاج تعقيدات الماضي وآلامه لا يمكن أن تحل عن طريق مزيد النبش في جراح الذاكرة لإظهار عفنها بل عبر التوجه الى علم التاريخ والذي له وظيفة اجتماعية تقوم على وضع الأحداث في سياقاتها والبحث في أسبابها.
• أوجاع الذاكرة ومحاولة عبثية لفرض سردية مضادة
يتأكد المتابع لأغلب ردهات الجلسة الطويلة التي عشناها بمرارة والتي زادها طولا وعذابا السقوط الأخلاقي والقيمي وعلامات الجهل المقدس لمحتوى بعض المداخلات التي توضح من خلالها ان المسألة لا تتعلق بتاتا بالعلاقات التونسية الفرنسية وإنما غاياتها سياسيوية وانتقامية للأخذ بالثأر ممن يعتقدون أنهم ظلموا-عن حق او باطل- آباءهم أو جهاتهم أو انتصروا على تصوراتهم الايديولوجية. فأغلب المداخلات تميزت بطابعها الانتقائي في عرضها لحدث من الأحداث وبجهلها المقدس لمصادره الجديدة أو للبحوث التي تمت حوله. فالهدف واضح كما كان الأمر ايام الاعتصامات التي تلت مباشرة الثورة أو في الفضاءات التي فتحتها هيئة الحقيقة والكرامة سعت بعض مداخلات يوم الثلاثاء الى فرض سردية مضادة لسردية أخرى كانت سائدة مدعومة من السلطة القائمة حينئذ. لقد كنا أمام خطاب انفعالي يريد الانتقام والأخذ بالثار بعد وفاة أغلب الذين تعرضوا للتجريح والشتم والاتهام وكانهم يريدون
« أن يصبحوا شرفة بعد موت كبار الحومة» . أجوبة متأخرة لذاكرة بقيت مكبوتة لدى جيل أهل الكهف أعادتنا الى بدايات سبعينات القرن الماضي عندما اكتملت سردية المجاهد الأكبر عبر سلسلة المحاضرات التي ألقاها الرئيس الحبيب بورقيبة في سنة 1973 أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار وقدم فيها سرديته لماضي البلاد وهو يشرف على حظوظها. فمنذ ذلك الحين وقبله بسنوات قليلة ظهرت سردية مضادة ومعادية حملتها وآمنت بها عديد المجموعات المعارضة للسياسة الرسمية والتي ظهرت في الجامعة التونسية. هذه الذاكرة المضادة حملها تارة اليسار الماركسي المحنط الذي رفض على حد السواء كل دور للحزب الدستوري وقادته وكل دور للحزب الشيوعي التونسي في النضال الوطني او في الكفاح الاجتماعي متهما الحزبين المذكورين ومناضليهما بالعمالة للخارج. كانت غايته في ذلك اعلان نفسه الطليعة الوحيدة للنضالات الطلابية في الجامعة والعمالية في البلاد ناهيك أنه لسنوات عديدة ظل ينعت الاتحاد العام التونسي للشغل بالنقابات الصفراء وقادته بالخيانة وبالتبعية لحزب الدستور و»للعميل الأكبر» . ونفس الأوجاع حملها التيار القومي الذي بقي مشدودا الى قوالب قام عليها في الشرق أساسها عدم وجود دول قطرية وأن كل الحدود صنعت في الاتفاقيات السرية التي عقدت في سنة 1916 بين كل من وزيري خارجية فرنسا وبريطانا (وعرفت لا حقا سيكس وبيكو) والتي فضحتها الثورة الروسية وبالنسبة لهذا التيار فإن بورقيبة خان المعركة حين جعلها في اطار قطري ولم يتبع فكرة النضال القومي الذي كان يقودة المرحوم جمال عبد الناصر والذي كان يمثله في تونس المرحوم صالح بن يوسف وقد جعلوا منه الخير كله في المقابل تحول الرئيس بورقيبة الى رمز الخيانة في كل مراحل حياته منذ ان ولد الى وفاته.
وكان آخر الملتحقين بركب الذاكرة العدائية المتألمة جماعة الاسلام السياسي الذي ظهر في الجامعة منذ ثمانيات القرن الماضي ليزايد بدوره على من سبقوه في رفض دولة الاستقلال وانجازاتها انطلاقا هذه المرة من مفهوم الأمة الاسلامية نافيا أن يكون لهذه الديار تاريخ ولا زعماء الذين اتهمهم بموالاة الغرب الكافر ورأى ان المطلوب هو اخراجها من جاهليتها و اعادتها الى حلبة الخلافة الاسلامية التي كانت «تجاهد» من أجل اقامتها الجماعة الاسلامية بكل الوسائل الشرعية ( الجسدية وبالتفجيرات والماء فرق والاغتيالات) برئاسة الاخوان المسلمين الذين ناصبوا العداء للأنظمة التقدمية في مصر وسوريا بتمويل ودعم من السعودية بتكليف من الولايات المتحدة لمقاومة الشيوعية . تلك هي الخلفية النظرية التي تحركت على أرضيتها الذاكرة المريضة والمتاوهة. لقد راينا في الجلسة المذكورة تقاطعات بين تفريعات الاسلام السياسي والتقاءات بين التشكيلات السياسية المنبثقة عن الايديولوجيات القومية. رأينا صراعات وتنافس بين الاخوة الأعداء والتقاءات تلميحا وتصريحا ضد زعماء الحركة الوطنية وتطيرا من انجازات الدولة الوطنية انتهت في بعض الأحيان الى قبول تنازلات تكتيكية حول الاعتراف بأن 20 مارس 1956 هو تاريخ استقلال تونس كما قراناه في الكتب (اللهم ايمان العجائز)
بعد أن ظلت سرديتهم المضادة تقوم على أن البلاد لم تتحصل على الاستقلال وأن 20 مارس 1956 هو تاريخ لانتقال السلطة من الاستعمار المباشر عن طريق المقيم والجيش الفرنسي الى الاستعمار غير المباشر الذي أوكلت فرنسا لأحد عملائها «العميل الأكبر» المرحوم الحبيب بورقيبة بقيادة البلاد مكانها. الا أنه يبدو أنه وقع تنبيهم الى أن هذه الرواية المتداولة لم تعد تستقيم اذ كيف يعقل أن تكون البلاد غير متحصلة على استقلالها وسيادتها وأن فرنسا لا تزال تحكمها وهم يصولون ويجولون في برلمانها ؟!
ان أوجاع الذاكرة التي جاءت في معظم الخطب أكدتها تفاصيل نتائج التصويت على اللائحة والتي تبين قراءة أولية لمدلولاتها أن حركة النهضة أوغلت مرة أخرى في نهج التلون والتزلف مع اعدائها الدائمين ومع أصدقائها الظرفيين. فمن جملة 54 نائبا لكتلة تميزت عن البقية بتجانسها العسكري لم يشارك في عملية التصويت سوى 13 عضوا توزعوا بين المواقف الثلاثة ارضاء للجميع . أما الكتلة الديمقراطية التي تعلن معارضتها للتطرف السياسي فنراها حضرت ومنسجمة-عكس ما حصل مع لائحة السيدة عبير موسي- من حيث المبادئ الأساسية مع ائتلاف الكرامة فكل من حضر من هذه الكتلة صوت كالرجل الواحد وان كان في الظاهر للمطالبة بالاعتذار لكن لا يختلف عاقلان في اعتبار أن ما حصل في ذلك اليوم هو محاكمة لرجالات تونس الأبرار الذين ناضلوا من أجل استقلالها عن فرنسا وبناء دولتها الوطنية المستقلة.
ولا بد من الملاحظة أن العدد الجملي للمشاركين في التصويت وهو 125 من مجموع 217 نائب يتكون منهم المجلس ولا يفوتنا أن نسجل أن من بين المشاركين في التصويت 75 نائبا متفقون مع لائحة ائتلاف الكرامة في رؤيتهم وسرديتهم لماضي البلاد التونسية وهذا هو جوهر الموضوع وبيت القصيد يلتقون مع رؤية ائتلاف الكرامة الشعبوية لماضي البلاد التونسية. لذلك وبعد أن «طارت السكرة حضرت المداينية» ومباشرة منذ اليوم الموالي للتصويت اقتنع الجميع بفشلهم وأن اللائحة لم تمر حيث لم تتحصل على 109 صوت وأنهم لم يحققوا شيئا رغم الزبد المتطاير من الأفواه حيث كتب بعضهم بكل مرارة «سيذكر التاريخ أن برلمان تونس رفض لائحة تطالب اعتذار فرنسا عن جرائمها زمن الاحتلال» . ولكن نراه سرعان ما يتدارك معترفا أنه شارك في معركة لم يخترها حيث أضاف «علينا الاقرار أن ائتلاف الكرامة اختار التوقيت الأسوأ لعرض لائحة تطالب الاحتلال الفرنسي بالاعتذار عن جرائمه». أما ائتلاف الكرامة الذي بعد أن خيل اليه أنه كان في زواج أبدي في الخير والشر مع حركة النهضة أعلن الطلاق من جانب واتهمها بالخيانة العظمى بعد هروب 41
من رجالها ونسائها في ظلام الليل تاركين الشيخ يدير عملية التصويت ظنا منهم أنه الشجرة التي ستخفي الغابة وأنه لن تعرف نتائج التصويت ومن هم المتخلفون عن التصويت من جميع الكتل. مرة أخرى تؤكد الجلسة المخصصة للبحث في الماضي كما كان الأمر في حصص هيئة الحقيقة والكرامة التي تم بثها على المباشر أن الذاكرة نسيان وتذكر وهي أداة للاقصاء والتوظيف وان فتح المجال لها لوحدها وبدون ضوابط والتزامات محددة لن يزيد التونسيين والتونسيات الا تقسيما وتجزئة وأن الطريق الأمثل لمعالجة آلام الماضي وتعقيداته يمر ضرورة عبر الاعتماد على التاريخ.
• علاجات التاريخ ومراهمه التي أثبتت التجارب جدواها
ان السرديات المبسطة ستتواصل لعقود طويلة لأن غايتها ليست الاعتبار من الماضي أو جعله مركزا للتفكير النقدي والعقلاني بهدف التساؤل حول ظروف أحداثه أو اسباب وقائعه وإنما الغاية هي شعبوية تقوم على دغدغة المشاعر و توظيف الأحداث وانتقائها للبحث عن مشروعية وتموقع سياسي حالى ولن ينتج مثل هذا السلوك الا حروب ذاكرات وهي في تماس مع حروب الهويات التي لن تخلف اذا لم يقع وضع حد لها الا حروبا أهلية. ولا يعني ذلك القطع أو نفي كل دور للذاكرة او أي مكان لها في حياة الشعوب والأمم لكن لا يمكن للذاكرة لوحدها أن تكون ذات دلالة ومفعول الا عندما تقبل بالتعددية وبالاختلاف والتنوع المثري ولن يكون ذلك ممكنا الا متى قبل اصحابها التفاعل الايجابي مع علم التاريخ باعتباره البوابة العقلانية لمحاولة فهم احداث الماضي. وانطلاقا من التجربة التونسية يمكن القول أن التعايش الذكي ممكن بين الذاكرة والتاريخ. صحيح أن المروية الفردية للرئيس بورقيبة والتي تم التوسع فيها عبر سلسلة الدراسات والوثائق التي برزت في عدد من الكتب التي بلغ عددها عشرون مجلدا والتي اشرف عليها المرحوم محمد الصياح والتي كانت تحضى بالدعم من السلط الرسمية لكن لا بد من الاشارة الى أنها قبلت -وان عن مضض- التعايش وحتى المنافسة مع الدور الذي طمحت الجامعة التونسية القيام به وعملت مدرستها التاريخية على تثبيته.
فمنذ انطلاق التسجيلات في المرحلة الثالثة تاريخ لم يمنع اي طالب من التسجيل – لسبب سياسي- في أي موضوع اختار أن يكون مبحثا له بطبيعة الحال تم اشتراط احترام قواعد البحث التاريخي من ضمان توفر المصادر ووجود مقاربة تاريخية واضحة. فمعلوم أن البرنامج الوطني للبحث في تاريخ الحركة الوطنية انطلق حوالي عشر سنوات قبل مغادرة الرئيس بورقيبة الحكم وتعايش هذا الخير معه . فدراسة تاريخ الحركة الوطنية أصبحت أحد محاور تاريخ تونس المعاصر ومبحثا في الجامعة تلقى حوله الدروس وتسجل ضمنه مواضيع الدكتوراه ضمن مواضيع تعلقت بالشباب التونسيون بالحزب الدستوري القديم والجديد والحزب الشيوعي التونسي وتاريخ الحركة النقابية وغيرها من تيارات اليسار ومن تاريخ الحركات القومية والاسلامية التي حدث أن كان مناضلوها في السجون لكن تناقش بكل موضوعية الأطروحات التي تخص منظماتهم. كما كانت ولا تزال تنظم الندوات التاريخية العالمية المفتوحة. كما توفقت تونس في حل مشرف لقضية الأرشيف منذ اربعين سنة حيث تم توفير المادة الوثائقية والأرشيفية في شكل نسخ وكان فيها دور رائد للرئيس بورقيبة الذي وظف
علاقاته مع كبار الشخصيات العلمية والفكرية الفرنسية وطلب تدخلها لتمكين الباحثين الشبان التونسيين من الاطلاع على الوثائق الفرنسيين. وللتذكير شرع في استجلاب نسخ من الوثائق الفرنسية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي بعد أن طلب الرئيس بورقيبة من المؤرخ والسياسي وصديق تونس ومرافق كفاح البلدان شارل أندري جوليان وتم تجنيد فرق من الباحثين الشبان الذي اختاروا كل الوثائق المتعلقة بتاريخ تونس والموجودة في فرنسا والمفتوحة للعموم وفق القوانين المنظمة للنفاذ للمعلومة التاريخية. فالتاريخ وأدواته يمثل الطريق الأمثل لفهم أغوار الماضي بكل تعقيداتها وظروف تشكل أحداثها. ونفس الأمر بالنسبة لتاريخ العلاقات بين تونس وفرنسا اذ يجمع بين البلدين والشعبين تاريخ يمتد لقرون طويلة بما فيها الحقبة الاستعمارية وبكل ما حف بها من آلام ويتواصل اليوم عبر حضور حوالي مليون تونسي على الأراضي الفرنسية. لذلك نرى أنه من الضروري طرح دراسة هذا الماضي المشترك بكل تجلياته وتعقيداته ليس بمنظار الذاكرة لأن لكل مجموعة ذاكرتها وانما عبر بوابة التاريخ بادواته ومناهجه في استقصاء الماضي وهو الطريق الذي اخترنا الانتصار اليه ضمن بحوث مشتركة مع زملاء مؤرخين فرنسيين من جامعات فرنسية مختلفة منذ أكثر من 25 سنة وهو ما سنعود اليه في مقال مشترك تم تحريره مع زميلة مؤرخة فرنسية.