قراءة نقدية للحصانة البرلمانية

بقلم الاستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب
• فصل تمهيدي:
أرجع الدارسون والباحثون في الدرا سات القانونية الحصانة البرلمانية باعتبارها «جملة من الاجراءات

لحماية النواب البرلمانيين وممثلي الشعب في المجالس النيابية» الى عصور قديمة تصل الى مجالس روما وحتى قبلها .
ولكن الثابت ان التكريس الفعلي بالمعنى الحديث للكلمة والتقنية كان في انقلترا سنة 1688 في ما يعرف ب bill of rights.ثم بعد ذلك وقع تكريسها في فرنسا وفي الدستور الامريكي (1) واصبحت هذه التقنية او الاجراء قارة تقريبا في كل دساتير العالم سواء في الانظمة الديمقراطية او حتى في غيرها من الانظمة بما في ذلك الانظمة العربية. (2)
وكجل الدساتير العربية فان الدساتير التونسية الصادرة سنة 1959 او سنة 2014 قد كرست هذا الامتياز الخاص والاستثنائي الى اعضاء مجلس نواب الشعب بالرغم عن ان دستور 1861 لم يشر اليها مطلقا.
وتهدف الحصانة البرلمانية الى «توفير الحماية القانونية والسياسية لنواب الشعب في البرلمان حتى يستطيع النائب ان يؤدي وظيفته النيابية كاملة بعيدا عن تاثير السلطة التنفيذية من ترغيب وترهيب»

I / انواع الحصانة البرلمانية:
بالرغم من انه من المالوف الحديث عن الحصانة البرلمانية باعتبارها حالة واحدة وامتياز واحد يتمتع به البرلماني بصفته تلك وبمناسبة ممارسة مهامه النيابية ولكن في الحقيقة وبمراجعة النصوص القانونية المنظمة للحصانة البرلمانية نجد ان الحصانة البرلمانية ليست شيئا واحدا بل هي مجموعة من الامتيازات والحصانات» المختلفة مع بعضها من حيث مجالها ومدتها وآلياتها والابقاء عليه ورفضها وشروط تطبيقها والغائها (3).
وبصفة عامة توزعت الحصانة البرلمانية تقريبا في كل الدساتير بما فيها دستوري 1959 و 2014 بين نوعين من الحصانة وهي التي تعرف بحصانة عدم المسؤولية irresponsabilité ) الفصل 68 /دستور 2014 ) وبحصانة عدم التتبع inviolabilité ) الفصل 69 /دستور 2014).

• أولا : حصانة عدم المسؤولية irresponsabilité
الحصانة باستعمال « نظام عدم المسؤولية « هي حصانة متعارفة ومكرسة في كل الدساتير العالمية وتهدف الى توفر حماية قانونية ضد التتبعات المدنية والجزائية في خصوص « اراء او مقترحات يبديها او اعمال يقوم بها في ارتباط بمهامه النيابية « ) الفصل 68 من دستو ر 2014).
ما يمكن ان نلاحظه وان النائب عضو البرلمان لا يمكن ان يكون موضوع « اي تتبع قضائي مدني او جزائي » ضده لاجل الاعمال التي يقوم بها بصفته نائبا وبارتباط بمهامه النيابية وهو الامتياز التشريعي الذي تمتع به منذ دستور 1959 بالرغم من ان دستور 2014 كان اكثر دقة وتفصيل في التاكيد على ان عدم المسؤولية يكون في فرعيها المدني والجزائي .
ولقد اسال هذا النظام القانوني الكثير من الحبر في مستوى تحديد شروطه ومجال انطباقه وحدوده وكان
مجال كثير من الاختلاف بين شراح القانون وهو الموضوع الذي لا يعنينا في هذه الدراسة (4).

• ثانيا : حصانة عدم التتبع الجزائي inviolabilité
كرس دستور 1959 في الفصل 27 قاعدة ثانية او فرعا ثانيا من فروع الحصانة وهي حصانة « عدم التتبع «اذا اكد صراحة على انه « لا يمكن تتبع او ايقاف احد اعضاء مجلس النواب او مجلس المستشارين طيلة نيابته في تهمة جنائية او جناحية ما لم يرفع عنه المجلس المعنى الحصانة ...» .
وذهب في نفس الاتجاه دستور 2014 في الفصل 69 حين نص على انه « اذا اعتصم النائب بالحصانة الجزائية كتابة فانه لا يمكن تتبعه او ايقافه طيلة مدة نيابته من جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة ... اما في حالة التلبس بالجريمة فانه يمكن ايقافه ويعلم رئيس المجلس حالا على ان ينتهي الايقاف اذا طلب مكتب المجلس ذلك».
إذن فالحصانة بعدم التتبع الجزائي ) او الحصانة الجزائية جسب عبارة الفصل 69 ( هي الحصانة المكرسة بشكل واضح منذ الدستور الامريكي لسنة 1789 في القسم 6 الفصل 1 ، وهي الحصانة التي تحمي نائب مجلس الشعب من امكانية تتبعه او ايقافه حتى لو ارتكب جريمة ما لم ترفع عنه الحصانة البرلمانية وما لم يكن في حالة تلبس ففي هذه الصورة يمكن ايقافه ولكن يجب ان ينتهي هذا الايقاف فورا بطلب من مكتب المجلس اي ان النائب الذي وقع ايقافه متلبسا فقد «الحصانة الجزائية» ضرفيا ويستردها بمجرد طلب من مكتب المجلس ويقع تجاوز « استثناء التلبس» الى «قاعدة الحصانة».
وبصرف النظر على التفاصيل الفنية الخاصة بهذا الصنف من الحصانة وخاصة في خصوص تمييزها من حيث الشروط ، والمدة ، والاشخاص المتمتعون بها ، ) وغيرها من العناصر القانونية ( مع صنف الحصانة المكرس في « عدم المسؤولية « فان اللافت للانتباه ان الابحاث الخاصة بمؤسسة الحصانة البرلمانية تجاوزت التدقيقات القانونية والتسليم بمشروعيتها الى مجال آخر من التفكير والبحث وهو مدى امكانية الحد منها اليوم او الغائها كليا . اذا فدراسة الحصانة البرلمانية اليوم صارت تتجاوز المستوى الفني الى المستوى المفاهيمي الفلسفي ومدى وجاهة مبدا اقرارها والابقاء على من دونه وهو حالة من الجدال المتنامي في الموضوع.

II/ الجدل اليوم حول الحصانة البرلمانية:
لم تختلف الدراسات والابحاث القانونية سابقا في ايجاد المبررات والاسباب لاقرار قاعدة الحصانة البرلمانيةودفع عموما تلخيصها في تمكين النائب م ن حماية خاصة تحميه من كل امكانية تعدي عليه من قبل السلطات العمومية ) السلطة التنفيذية ( وتمكينه من الحرية والضمانة الكافية ليؤدي دوره النيابي على اكمل وجه بعيدا عن الضغوطات والتهديدات والتخويف (5).
بالرغم من جدية ومشروعية هذه التبريرات فان فكرة الحصانة البرلمانية تعتبر اليوم موضوع جدل وحتىرفض من قبول مبدا مواصلة تكريسها ومواصلة العمل بها .
يعتبر اليوم عديد الباحثين ان اسباب ومبررات وجود الحصانة البرلمانية قد اضمحلت وان وجودها اليوم في النظام القانوني لا فائدة منه وانما اجراء تاريخي له ما يبرره في الماضي ولكن لا ينسجم مع واقع اليوم ومع التحولات القانونية والفلسفات السياسية الحديثة:
« l’un des grands changements a été la modernisation de la démocratie » 6 .
وبصفة اجمالية يمكن تلخيص عناصر حصر عناصر ومبررات الاعتراض على الحصانة البرلمانية اليوم كما يلي :

• أولا : المساواة امام القانون ودولة القانون (7)
يعتبر مبدا المساواة الجميع عموما مهما كانت الوانهم واجناسهم واديانهم وغيرها من الفروقات قاعدةجوهرية وثابتة على المواثيق والاتفاقيات الدولية وكذلك في كل القوانين الوطنية وخاصة الدساتير منها .
وفي هذا الاطار كان الفصل 21 من دستور 2014 واضحا اذ اكد على ان « المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات ... وهم سواء امام القانون من غير تمييز ... « . وقد تعمد هذا الفصل صيغة التكرار للتاكيد والتوكيد بان استعمل في نفس الجملة « متساوون « و « هم سواء « و « من غير تمييز»
في هذا الاطار فانه من غير المقبول اليوم ان تخص بعض الاشخاص مهما كان السبب بنظام قانوني تمييزي في عدم تحمل المسؤولية المدنية والجزائية وخاصة بنظام تمييزي وخاص « في عدم التتبع « الجزائي او الحصانة الجزائية . وهي الوضعية التي ينظر اليها اليوم بعدم ارتياع لان عدم المساواه امام قواعد الاجراءات الجزائية وامكانيات التتبع الجزائي لم يعد هنا ك ما يبررها خاصة اذا كان المستفيد منها هو الشخص الذي سن هذه التشاريع .
فالمشرع ) نائب البرلمان ( الذي سن التشاريع والقوانين عموما وقانون تتبع مرتكب الافعال الاجرامية خصوصا ويؤكد على وجوب احترامها وخضوع الجميع اليها دون تمييز فانه من باب اولى واخرى ان يخضع لها هو قبل غيره ، والا فان هذه القاعدة ستفقد الكثير من صدقيتها ومشروعيتها وقناعة العموم بها .

• ثانيا: انتشار الانظمة الديمقراطيية
لاشك في ان النظام الديمقراطي في بداية القرن الماضي وحتى نهايته كان قليل العدد وكان هناك مجال واسع لتحول النظام الى نظام استبدادي ) تغول الحزب الواحد ، تداخل الحزب والادارة والدولة .... ( ، وعليه كان من المؤكد خلق حماية خاصة لنواب الشعب وتحصينهم من كل الاجراءات التعسفية والترهيبية التي كان بالامكان اعتمادها من قبل السلطة التنفيذية خاصة ضد نواب المعارضة او الاقليات المدنية والسياسية التي لم تكن منسجمة مع النظام عموما .
اما اليوم ، وبعد ان صارت الديمقراطية والتعددية شبه شاملة لكل الانظمة السياسية وبوجود « عولمة ديمقراطية « وراي عام دولي يراقب ويحمي النواب فانه لم يعد من الضروري تخصيص هؤلاء بنظام حماية استثنائي يميزهم عن بقية المواطني ن . وان امكن القول بان مازالت بعض الانظمة السياسية لم تتحول بعد الانظمة ديمقراطية ، فان ما وقع ملاحظته ان هذه الانظمة غير الديمقراطية هي الاكثر تسلط سياسيا ) وهذا بديهي ( لكنها في نفس الوقت هي الانظمة الاكثر فساد سياسي ، بما يعني ان الحصانة وعوض ان تصبح سلاحا لدى السياسيين ) ومنهم النواب ( للحماية من تعسف وتجاوزات السلطة التنفيذية فانها اصبحت وسيلة للحماية من التتبعات الجزائية ضد الفساد السياسي المتحالف مع التسلط السياسي وهو ما دفع بنشطاء «مكافحة الفساد» الى تسبيق مكافحة الفساد ومنع الحصانة عن النواب على حماية النواب من التعسف السياسي للسلطة التنفيذية من ذلك ان حركة عالمية كاملة اليوم تسعى الى تسبيق الشفافية ومكافحة الفساد على الديمقراطية (8).

• ثالثا : استقلال القضاء
ان التهديد الحقيقي والجدي لنائب البرلمان وغيره من المواطنين هو الايقافات العشوائية وغير المبررة ولمجرد التنكيل والترهيب دون سبب قانوني سليم يكون ذلك فقط عند ما يكون القضاء غير مستقل . ان ذراع السلطة التنفيذية للتهديد الجزائي للنائب وغيره يكون بالضرورة عن طريق الاجراءات القضائية عندما يكون القضاء تحت سيطرة وتحكم ونفوذ السلطة السياسية . واذا كان القضاء مستقلا فان هذه التهديدات تكون غير ممكنة سواء أكانت لنائب البرلمان او لاي مواطن بسيط من عموم الشعب.
وبالرجوع لدستور 2014 نجد انه كرس بشكل واضح في الفصل 102 حين نص على « القضاء سلطة مستقلة تضمن اقامة العدل وعلوية الدستور وحماية الحقوق والحريات».
فالفصل 102 من دستور 2014 اقر اولا استقلالية القضاء عن كل السلطات ومراكز النفوذ والتاثير كما اعطى ثانيا لهذا القضاء ضمانة اقامة العدل اي ضمان انه يقيم العدل ولا يظلم من خلاله او بواسطته أي شخص وتحمي ثالثا حقوق الجميع وحرياتهم بما في ذلك بالضرورة الحق الاساسي المنصوص عليه بالفصول 27 / 28 / 29 من الدستور والمتعلقة بتوجيه التهم والايقاف والمحاكمة واصدار العقوبات .
اذا كان ذلك كذلك واذا كان الدستور في اكثر من مناسبة يؤكد على استقلالية القضاء وعدم امكانية اتهام شخص باطلا وايقافه تعسفيا وعدم امكانية عدم تمتيعه بمحاكمة عادلة «تكفل له جميع ضمانات الدفاع في اطوار التتبع والمحاكمة» ، فان تخصيص النائب « بالحصانة الجزائية » يكون فيه نوع من التكرار لنفس الحق، او يفهم منه ان المشرع لم يكن متاكد من حماية للحقوق والضمانات في الفصول المذكورة اعلاه وشك في امكانية فعاليتها حقيق ة وقدرتها فعليا وواقعيا على حماية المواطنين من التعسف والظلم فمكن النائب من ضمانات «اضافية» على سبيل الاحتياط والتمييز والتوقي من كل تجاوز ممكن وهو ما يعتبر غير مقبول وغير منسجم مع الدستور روحا ونصا .

• رابعا : تكريس الحريات العامة وخاصة حرية التعبير
وقع تبرير الحصانة البرلمانية بانها في احدى آليات تمكين وتحصين حرية التعبير للنائب حتى يكون بوسعه قول ما يريد في البرلمان وتوجيه الاسئلة ) الكتابية والشفوية ( للسلطة التنفيذية دون خشية من التتبعات والملاحقة القضائية.
ولكن ولاجل ان حرية التعبير مكرسة في القانون الفرنسي لكل الفرنسيين منذ سنة 1881 لقانون 29 جويلية المتعلق بحرية الصحافة وبالتالي فان اعادة التاكيد على ذلك في دستور 1958 الفرنسي بقاعدة خاصة بالنائب صار محل انتقاد اليوم .
اما القانون التونسي فقد جاء صريحا في الفصل 8 من دستور 1959 بأن « حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتاسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانو ن» ، وكان دستور 2014 في الفصل 31 اكثر دقة حين قال بان « حرية الراي والفكر والتعبير والاعلام والنشر مضمونة... ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات « اي ان حرية التعبير مضمونة للجميع ) النائب وغير النائب ( كما ان هذه الحرية لا يمكن الحد منها او التقليص منها او مراقبتها مسبقا بغاية « صنصرتها» .
وعليه فانه وبما ان حرية التعبير مضمونة للجميع فانها من باب اولى واخرى فانها مضمونة للنائب باعتباره مواطنا اولا وباعتباره نائب عن الشعب ثانيا وهي الوضعية التي جعلت بعض الدراسين لا يرون مبررا لتخصيص النائب بحماية قانونية خاصة علما وان هذه الحماية كانت مبررة تاريخيا في وجود انظمة استبدادية وكذلك عدم الاقرار الكامل بقوانين الحريات العامة وخاصة حرية التعبير . ففي الزمن الذي كانت فيه حرية التعبير غير مكرسة كان من المعقول اقرارها وحمايتها على الاقل بالنسبة للنائب عن الشعب اما وهذه الحق صار حقا بديهيا مكرسا في القوانين الخاصة والعامة وفي القانون الداخلي والدولي فان تخصيص النائ بقاعدة خاصة صار عديم الجدوى . (9)

• خامسا : المفاهيم الفلسفية السياسية الجديدة
ارتبطت فكرة الحصانة البرلمانية بمعجم فلسفي سياسي معين كان محوره التفريق بين السلطات والديمقراطية التمثيلية، لكن مع مرور الزمن وتطور الفكر السياسي عموما و الفلسفة السياسية تحديدا ظهرت مفاهيم و مصطلحات السياسية جديدة ومنها خاص ة : ما بعد الديمقراطية / الديمقراطية التشاركية / الحوكمة / الشفافية / مقاومة الفساد.
لقد أثبتت الممارسة السياسية ان الديمقراطية النيابية او التمثيلية اهمية كبرى ، لكن ذلك لا يمنع من اكتشاف بعض القصور فيها وعديد السلبيات ومنها ان هذه الديمقراطية - وبدرجة أقل من الانظمة الاستبدادية- لا يمنع بشكل فعال من ظهور وانتشار الفساد عموما والفساد السياسي) فساد الطبقة السياسية واستعمال العمل السياسي والنيابي كغطاء للفساد المالي والاقتصادي ... ( خصوصا .

وأكدت الابحاث والدراسات وانه من بين الاجراءات الاولية في اطار الحوكمة والشفافية ومحاربة الفساد هو تقليص دائرة ومجال الحصانة من ذلك مثلا وان القرار عدد 97 للمجلس الاروبي وفي اطار خطة عامة للتوقي من الفساد وقع التا كيد على
« la nécessité de limiter toute immunité à l’égard Des infractions de corruption à ce qui est nécessaire dans une société de démocratique »
فالتوصيات المتعلقة بالحوكمة والشفافية ومقاومة الفساد يركز على انه «للحد من الفساد لا بد من الحد من الحصانة من حيث المجال والمستفيدين».
من ذلك ان اعمال منظمة GRECO قد لاحظت وأن عديد الاشخاص الذين لهم مشاكل مع القانون صاروا يسعون للحصول على مقعد في البرلمان للحماية . ) 10 ( والاستفادة من امتياز الحصانة البرلمانية بل الاكثر من ذلك وان بعد التقارير ومنها تقرير لجنة Venise لسنة 2014 تلمح اليوم الى ان الحصانة تشكل بعض الخطورة على دولة القانون وسير القضاء .

« elle se prête à des multiples détournements susceptibles D’affaiblir la démocratie, d’éroder l’Etat de droit et d’entraver la justice »
III/ من اجل الالغاء ولو تدريجيا للحصانة البرلمانية

« هناك من يعتبر ان الاسباب التي ادت الى نشاة الحصانة البرلمانية والمتمثلة في الانظمة الملكية المطلقة والاستبدادية لم تعد توجد منذ زمن بعيد ... الشئ الذي ادى الى فقدان الحصانة البرلمانية .... لمبرر وجودها.....والحقيقة ان هذا القول ان كان بصدق نسبيا في الحصانة البرلمانية الاجرائية التي اصبحت محل اخذ ورد وموضوع انتقادات كثيرة بسبب تطور وانتشار ثقافة حقوق الانسان والحريات ومبدا المساواة ومبدا دولة القانون مما دفع الدساتير الى مراقبتها من ذلك ان المشرع الفرنسي الغى حصانة المتابعة التي غدت حرة دون الحاجة الى الاذن بالمتابعة بينما احتفظ بالحصانة ضد القاء القبض... (11)
تلخص هذه الفقرة رؤية حديثة كاملة لم تعد مقتنعة بنظام الحصانة البرلمانية .
وفي العموم ، لقد توزعت الموافق الرافضة او المتحفضة لفكرة الحصانة البرلمانية الى 3 اتجاهات عامة :

• الاتجاه الأول : يعتبر ان فكرة الحصانة في كل انواعها ) عدم المسؤولية / عدم التتبع ( متعارضة مع المنظومة
التشريعية الحديثة ) الوطنية/الدولية ( وخاصة مع فكرة المساواة ودولة القانون ولم يعد لها ما يبررها ويتجه إلغاؤها .

• الاتجاه الثاني: يرى انه يمكن الابقاء على الحصانة البرلمانية الموضوعية ) حصانة عدم المسؤولية ( والغاء حصانة عدم التتبع ) الحصانة الجزائية ( لانها فرع الحصانة الذي لم تعد مقبولة اكثر من غيره من الفروع ولم يعد ما يبرره في الحياة السياسية المعاصرة وخاصة مع فكرة « محاربة الفساد (12).

• الاتجاه الثالث : لا يعارض هذا الاتجاه امكانية الابقاء على الحصانة البرلمانية بشقيها (عدم المسؤولية / عدم التتبع)ولكن لابد من التنصيص بنصوص صريحة على انها ليست عامة ولا تشمل كل الحالات والصور والاماكن والاوقات ، من ذلك انه يمكن حذف المسؤولية المدنية من فرع «عدم المسؤولية» وتصبح تخص فقط المسؤولية الجزائية عن اعمال النائب بسبب وبمناسبة أداء مهامه النيابية .

كما أنه يمكن كذلك تعديل حصانة « عدم التتبع « وتوسيع دائرة الاستثناء منها، فالى جانب حالة التلبس (الموجودة الآن) فانه يمكن التنصيص صراحة على اجراءات معينة لا تشملها الحصانة البرلمانية كاجراء التتبع والابحاث اي ان تتبع النائب وبحثه واستنطاقه (دون ايقافه) لا تعطل عملية النيابي في شئ. او التنصيص على جرائم معينة لا تشملها الحصانة البرلمانية الجزائية كالجرائم المتعلقة بالفساد المالي/السياسي والجرائم التي تدخل في نشاط النائب المهني والتجاري (13).

ولقد ، اعتمدت بعض الدول تقنية خاصة بها في الحد من صرامة الحصانة البرلمانية وخاصة حصانة « عدم التتبع « وذلك بتخصيص القضاء بالنظر في رفع الحصانة واخراج هذا الاجراء من بين يدي المجلس النيابي الى سلطة محكمة الاستئناف لدى المحكمة المتعهدة بالملف كما هو الحال في الشيلي او من مشمولات المحكمة العليا كما الحال في قبرص وايطاليا .

عموما يمكن ان نلاحظ ان كل هذه الاتجاهات بدات تتحسس طريقها نحو تنقيحات الدساتير للحد من فاعلية الحصانة البرلمانية كخطوة اولى في اتجاه إلغاءها ولعلها تجد طريقها نحو دستور 2014 سواء بالحد منها او بالغاءها كليا ويمكن ان يمر ذلك عبر مراحل تمهيد به مثل اعطاء القضاء سلطة النظر في مطلب رفع الحصانة (14).

-----------------------

(1) كرست الحصانة البرلمانية في فرنسا منذ دستور 1 1789 و 1791 الى دستور 1958 في الفصل 26.

( 2 ) في مصر غابت فكرة الحصانة على دستور 1868 وبدات الاشارة اليها منذ دستور 1882 وكرست بشكل في دستور 1971 ثم في آخر دستور صدر سنة 2014 بالفصل 114.

( 3 ) عدم المسؤولية non-liability وعدم التتبع inviolabilité او كما تعرف في سويسرا ب Relative immunité.

( 4 ) الحصانة البرلمانية –دراسة مقارنة- ) رسالة دكتوراء في القانون العام ( احمد بومدين السنة الجامعية2014 / 2015جامعة تلمسان.

(5) Commission de Venise : rapport sur l’étendue et la levée de l’immunités parlementaires : 98 session plénière Venise 21/22 mars 2014
( 6 ) التقرير السابق ص 6

Rapport de commission de Venise p7 (7

( 8 ) ما يمكن ملاحظته في الحركات الاحتجاجية التي يجتاح العالم اليوم من العراق الى الشيلي هي انها كلها تطالب بمحاربة الفساد والشفافية في العملية السياسية ولا تطالب بالديمقراطية لان هذه الحركات صارت تدرك ان الديمقراطية بالمعنى القانوني والاجرائي لا تساوي شيئا مع تفشي الفساد وغياب الشفافية.

( 9 ) « la liberté de l’expression et la protection contre l’arrestation arbitraire reconnus dans nous sociétés. Modernes protègent tout …. Et réduisent considérablement la nécessite d’une protection spéciale des parlementaires » commission de Venise op

cit p 6

(10) Groupe d’Etats contre la corruption ) GRECO )

(11) احمد بومدين المرجع السابق ص 414

(12) ان الابقاء على حصانة اعضاء البرلمان في فرعها المتعلق بـ «عدم المسؤولية» لا يعتبر اليوم عملا شاذا وغير مقبول باعتبار ان عديد المهن لها حصانة من هذا النوع متعلق بالحماية الخاصة من المسؤولية المدنية والجزائية « بسبب ممارسة العمل وبمناسبته « كما هو الحال مثلا بالنسبة للفصل 47 من مرسوم عدد 79 لسنة2011 المتعلق بتنظيم مهنة

المحاماة

(13) ورد على سبيل المثال بالفصل 64 من دستور 2011 بالمغرب ما يلي « لا يمكن متابعة اي عضو من اعضاء البرلمان... ما عدا اذا كان الراي المعبر عنه تجادل في النظام الملكي او الدين الاسلامي او يتضمن ما يخل من الاحترام الواجب الملك».
كذلك فان القانون الفرنسي قد اخرج اجراء البحث من دائرة « الحصانة الجزائية» وصار بامكان بحث النائب واستنطاقه دون اجراءات اولية خاصة) حتى خارج حالة التلبس ( وقد ذهب الدستور البلجيكي في نفس الاتجاه.

( 14 ) بعض الدول اعطت للقضاء سلطة رفع الحصانة البرلمانية بصفة مباشرة أو كجهة طعن في قرار المجلس النيابي (في رفض رفع الحصانة).

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115