في بعض شؤون الثقافة: الثقافة في زمن الوباء

بقلم: وحيد السعفي
لقد ثبت عند العلماء أنّ فيروس الكورونا فتّاكٌ بالفئات الضعيفة الهشّة من المسنّين وذوي الأمراض المزمنة

وأصحاب السمنة. ثمّ ثبت أنّ هذا الفيروس فتّاكٌ أيضاً بالوزارات الضعيفة الهشّة مثل وزارة الشؤون الثقافية، فانتفى ذكرها أو كاد، وخبا صوت الوزيرة التي نفخر بها امرأة على رأس الوزارة، وسعى اللصوص إلى دور الثقافة يسلبونها وهي فقيرة. وفي الوقت ذاته كثّفت وزارة الشؤون الدينية من الخروج على الناس وجنّدت وزيرها وشيخ الإفتاء والأئمّة والعلماء في الدين وأشباه العلماء، فأفتوا بأنّ الصلاة لا تلزم الجماعة، وأنّ ميّت الكورونا شهيدٌ لا يحتاج إلى طهارة وصلاة وجنازة، وأنّ الدفن يتمّ وفق بروتوكول الصحّة. وأمروا الناس بالاغتسال ووضع الكمائم واحترام مسافة الأمان والاعتكاف في المنازل، طلباً للنجاة من الموت والفوز بالحياة. ثمّ سخّروا المساجد والمآذن والمصادح للتوعية ونشر أخبار الجائحة. تأقلمت وزارة الشؤون الدينية مع الوضع كالعادة، ولبست لبوس الجائحة، وتكلّمت لغة الدنيا والعلم، فإذا الأعمار بيد الفيروس والناس لا بيد الله، وإذا مساجد الله في خدمة الجائحة لا يدخلها اللصوص للسلب.

غابت وزارة الشؤون الثقافية ثلاثة أسابيع أو أكثر، وغابت الوزيرة، وغبنا عن الساحة. فنحن، أولئك الذين يُسمّوْن المثقّفين وأشباه المثقّفين والأتباع والزبانية، إذا ما استثنينا قلّة قليلة، ينخر فينا التوحّد والنرجسية وحب الذات المريضة. اعتكفنا في المنازل. اسْتَزْوَيْنا. لم نتجنّد للدعوة، ولم نخصّص دُورَ الثقافة ولا مدينتنا الكبيرة لنشر الثقافة الصحّية أو خزن المؤونة أو استقبال المصابين.

ثمّ اضطررنا إلى العودة واحتلال مكاننا في الساحة. لا للحوار بشأن الثقافة ووضع المشاريع واستنباط الحلول للمسائل العالقة، بل للتخاصم بشأن مواصلة تصوير المسلسلات في زمن الكورونا والحجر الصحّي. وهي مسألة ليست من اختصاصنا بل من اختصاص التقنيين في السلامة والصحة واللجنة الوطنية لمكافحة الوباء وأصحاب القرار في مَنح الرخص للخروج. ولكنّ المسألة أصبحت شغلنا الشاغل لأنّها تندرج في باب الإشاعة والفضيحة وهتك الستر وتَهمّ الإعلام والصحافة. فتجنّدنا للتراشق بالتهمّ والتبرّؤ وردّ التهم. وصدرت الأحكام تخوّن الوزيرة والوزارة وتتّهمهما بالتواطؤ مع القنوات وشركات التصوير والمسلسلات. وجاءت الردود على تلك الأحكام تُبرّئ ساحة الوزيرة والوزارة، وتتّهم مَنْ طعن فيهما بالتحامل عليهما والتآمر على الثقافة.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

كذلك اندرجنا في المؤامرة التي صارت في البلاد نهجاً وسياسة، وساء وضعنا، وغابت الثقافة أو كادت. نجحنا في تعطيلها. افتقرنا إلى القدرة على ساستها.

منذ ثلاثين عاماً والثقافة تتراجع أمام تحجّر القوانين، وتهافت طرق التسيير والتشجيع والدعم، واعتماد الشعبوية منهجاً، وغياب السياسة الثقافية الواضحة. مرّ الوزراء من هنا. كانوا يفتقرون إلى سياسة في الثقافة، ويجهلون دواليب الوزارة، ويخافون النقد والصحافة والإعلام والنقابة والإشاعات والمسّ من الكرامة، فانغلقوا في ديوان الارتجال والمغالطة، يردّون على الإشاعات ويُرضون الإعلام والصحافة، ويُجنّدون الزبانية لفضح مَنْ تجرّأ ومسّ من كراماتهم. باغتهم الزمن. مرّوا ولا أثر. انقرضوا. والثقافة تنتظر.

إنّ الثقافة تنتظر العناية والإحاطة الشاملة. تنتظر القوانين والتراتيب التي تَجعل من الدعم تشجيعاً للإبداع الحقّ، لا لكسب الودّ وإرضاء الخلق ليسكتوا عن الطعن. تنتظر المشروع الذي يصير مُنجزاً ولا يبقى على الرفوف للذكرى. تنتظر سياسة ثقافية واضحة، لا مجال للارتجال فيها، تسعى إلى إصلاح المسار والخروج من أزمة الثقافة المزمنة وحلّ المشاكل العالقة: الفضاءات الخاصة التي تقتات من فُتات، ودُور الثقافة التي تنخر فيها القذارة وتُستعمل في الخفاء لأغراض باطلة، والدعم الذي صار إرضاءً للأهواء، والشراءات في المناسبات، والمهرجانات زمن الإفلاس والشعبويّة والشعوذة، والمكتبات العمومية التي خلت من زوارها، والحوكمة الرشيدة الغائبة، والإدارات التي تحتاج إلى تحديث، والإعلامية التي تفتح المواقع في الشبكة، ومدينة الثقافة التي صارت عبْءا على الثقافة، والآثار التي حَدّثْ ولا حَرَجَ. كلّها في حاجة إلى سياسة واضحة وقرارات جريئة للإصلاح حتى تضطلع بدورها في نشر الثقافة.

وللثقافة وجه آخر زمن الأزمة، ولها تدابير خاصّة. كيف أزور المواقع الأثرية في سبيطلة أو بلاريجيا أو دقّة أو كهوف الهوارية أو بروج طبرقة وقليبية والمهدية؟ كيف أتفرّج على المسرح الذي أحبّه لا الذي أجبر عليه؟ كيف أحاضر أو أسمع محاضرة؟ كيف أقرأ كتاباً أو أحدّث كاتباً أو كاتبة؟ كيف أرى لوحات المقديش أو المقدميني أو الإخوة التركي أو المكّي أو السهيلي أو قويدر التريكي؟ كيف أمارس حقّي في الثقافة وأنا هنا، في البيت، يترصّدني الغول ولا أخرج. ما هي المواقع التي وضعناها على الشبكة وتوفّر ذلك، فأتمتّع وأنشر المتعة من حولي؟

وللثقافة وجه آخر، إطاراتها. بهم يكون السعي إلى خلاص الثقافة، ولهم على الثقافة حقّ التشجيع على الارتقاء، والتشريك في اتّخاذ القرار، وفتح سُبل التوجيه والاقتراح. وهم أهل لذلك وركيزة العمل الثقافي، يعرفون الإدارة والدواليب والانتظارات. وقد سرّنا أنْ نرى يوسف بن إبراهيم ومحمد الهادي الجويني وعلي مصابحية يضطلعون بمسؤوليات هامّة، وهم مثال المسؤولية والجدّ. وغيرهم كثير في الوزارة.

إنّ الأزمة طارئة زائلة وإنّ المساءلة آتية لا ريبَ فيها. فما هي السياسة الثقافية التي وضعتها الحكومة، ممثّلة في الوزيرة، لتضطلع بالإجابة عن الأسئلة القديمة العالقة المطروحة أعلاه؟ ما هو المشروع الموضوع للتحقيق والإنجاز خلال الأعوام الثلاثة القادمة؟ ها أنا أنتظر الأجوبة لأنشرها في مقال لاحق. وسأعود إلى طرح هذه الأسئلة إذا ما غابت الأجوبة. وسأسأل أسئلة أخرى كالسؤال عن الحساب المُحدث لدفع الثقافة. مع خالص الودّ مُسبقا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115