في الحُـقرة المعرفية

بقلم: محمد صالح عمري،
جامعة أكسفرد
إنّ دعوة أطباء فرنسيين إلى تجريب التلاقيح المضادة لفيروس كوفيد 19 على الأفارقة لا تنمّ فقط عن تمييز عنصري ،

بل هي نابعة أيضا ممّا يمكن تسميته بالإحتقار المعرفي أي برؤية استعلائية ناتجة عن تقسيم العالم إلى مالك للمعرفة من جهة وآخر موضوع معرفة، بما في ذلك كحقل للتجارب واختبار النظريات والمناهج. وهذا التقسيم انبنت عليه أطروحات ومناهج في الأنتروبولوجيا والعلوم السياسية ودراسة المناطق وغيرها من المعارف الحديثة. ولئن كانت هذا الظاهرة ضاربة في التاريخ والعلاقات بين الحضارات والشعوب، فهي في الحقيقة لا تقتصرعلى التقسيم العالمي للمعرفة، بل تشكّل ظاهرة ملازمة للواقع اليومي المعيش.

ويمكن اعتبار الحُـﭭرة المعرفية، وهي تعبيرة محلّية عن معاني الإحتقار والإزدراء والإذلال ترتبط باللّهجات المغاربية عموما والتونسية خصوصا، تخصيصا لما وسمته الفيلسوفة الإنجليزية ميراندا فريكر ب»الظلم المعرفي» أو «اللاّعدالة المعرفية». فقد بيّنت أنّه بالإضافة إلى الظلم الاجتماعي أو السياسي، توجد مظالم معرفية، منها الظلم بالشهادة الذي يتألّف من الأحكام المسبقة التي تدفع المرء إلى اعتبار كلام غيره خاليا من المصداقية. ومثاله أن تقدّم امرأة حجّة وآراء مقنعة في اجتماع عمل ولكنّ حججها تعتبر أقلّ كفاءة لكونها امرأة. وقد يترتّب على هذا النوع من الحالات ظلم مادي أيضا مثل الحرمان من الترقية أو الإقصا وغيره. وقد كانت الحُـﭭرة كما نعلم محرّكا أساسيا في الثورة التونسية وفي مختلف الإحتجاجات ضد الظلم المادي والدفاع عن الكرامة. والحُـﭭرة كامنة في المجتمع التونسيفي مجالات منها اللغة والجغرافيا والسياسة والتاريخ.

لنبدأ باللغة أو مُعجم الحُـﭭرة. أتذكر كيف استغرب زميل قديم لي أنني مازلت أتحدث بالـﭭالة «بعد عشر سنوات من الإقامة بأمريكا والحصول على شهادة دكتوراه». والمعنى هو الإشارة إلى التنافر بين التحصيل المعرفي والعيش في بلد متقدّم واستعمال لهجة محلّية ترتبط في ذهنه، وبصورة أعمّ، بكونها خزّان ثري لأنواع من التمييز المضمَر والمعلَن، منه مقولات «من وراء البلايك» و»عروبي» و»جبري»، وغيره من الترميزات والإشارات التي يوسم بها «الآفاقيون».

أماّ في ما أسمّيه جغرافيا الحـﭭرة، فتحضرني حادثة تعود إلى سنة 2005 حين قابلت سكرتيرة رئيس الديوان وزير التعليم العالي لأشرح لها رغبتي في التطوّع للتدريس الجامعي أثناء العطل كي أنقل تجربتي في الجامعات الأمريكية إلى الطلبة التونسيين خاصة في الجامعات الداخلية. ويبدو أنّ الفكرة أعجبتها فتحمّست لترتيب اللقاء. وفجأة سألتني من أيّ جهة من البلاد أنا فذكرت بفخر وتلقائية أنّني من الـﭭصرين ظنّا منّي أنّها سوف تتفهّم رغبتي في المساعدة. لكنّ عينيها اتّقدتا وباغتتني بسؤال لا يزال راسخا في ذاكرتي: «هل صحيح أنّ أسعارالهواتف الجوّالة هناك رخيصة والأنواع كثيرة؟» لم تعد تنظر لي السكرتيرة على أنّني قد أكون مصدر معرفة جامعية أو بحث علمي وإنّما كعارف بالتجارة الموازية والتهريب، وذلك بمجرّد أنني من منطقة ارتبطت في ذهنها بذلك النوع من النشاط. ويمكن سوق أمثلة عديدة مشابهة، كوسم البعض بالإجرام بناء على أصولهم الجهوية.

أماّ في المجال السياسي والتاريخي فقد كان الرئيس المؤقت محمد منصف المرزوقي، وهو الطبيب الجامعي والكاتب المعروف، محلّ تندّر تحقيري ممّن عابوا عليه طريقة أكله وملبسه وتحدّثه. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الرئيس الحالي الذي لا ينسجم مع النمط المهيمن لصورة الرئيس التي زرعها الحبيب بورقيبة والتي تجمع بين البلْدي والمديني والكسموبوليتي. وأنا أرى مثلا أنّ التأخير المفرط في نشر قائمة شهداء الثورة يخفي، في أحد أوجهه، رغبة في عدم تحويل الشهداء إلى جزء من الذاكرة الوطنية، وأغلبيتهم كما هو معلوم ينحدرون «من وراء البلايك» ومن الأحياء الشعبية. فكيف يدخل هؤلاء الذاكرة الجماعية المشتركة التي صاغها أصحاب السلطة السياسية والمالية والإجتماعية على مقاسهم؟
بعد تسع سنوات من الثورة ورغم بروز نوع من دمَقرطة الخطاب واللغة، خاصة في فترة الطفرة الأولى، فإنّ زمن الحُـﭭرة لم ينته. ورغم تحرّر مجالات ووسائط الوصول إلى المعرفة، لم تحدث نُقلة في موازين القوى المعرفية، بل لعلّ ذلك ساعد على تعميم الظلم المعرفي وخوصصته. والحال أنّنا بحاجة، محلّية وعالمية، إلى ركائز ثلاثة: أوّلها اعتبار جميع المعارف ذات قيمة مهما كان موقعها الاجتماعي والتاريخي، وثانيها احترام الإنسان الفرد باعتباره منتِجا لمعرفة عن ذاته وعن العالم وثالثها ضرورة نقد المعارف لا احتقارها أو تجاهلها أو اقصاؤها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115