خلف إلى حد اليوم 300.097 مصاب وأدى إلى وفاة 12.895 شخص. وباء يستوجب التصدي له تضامن جميع الدول وتضافر الجهود واستخلاص الدروس باعتبار أن اغلب الدول التي اجتاحها الوباء لم تقدر على التصدي له بإمكانياتها الذاتية فما بالك بالدول الفقيرة على غرار بلادنا. كما يجب أن تعتبر بلادنا من عدة تجارب الناجحة منها والتي فشلت أيضا في محاصرة الوباء. ففي حين لجأت الصين إلى تدعيم إجراءات الوقاية الفردية والجماعية لتتمكن من محاصرة الوباء والتغلب عليه، التجأت ايطاليا، التي أمام سرعة تفشي الوباء الذي خلف إلى اليوم 5476 موتى مقابل التباطئ في فرض الإجراءات الوقائية، إلى انتقاء من من المصابين ستوفر له الإنعاش ومن ستتركه لمصيره اما فرنسا فهي تدرس اليوم مسالة التمديد في فترة الحجر الصحي بأربعة أسابيع أخرى. وباء يمكن تكييفه بأنه خطر داهم يهدد بلادنا وامن التونسيين وحياتهم ويتطلب اتخاذ تدابير استباقية، مدروسة تتماشى مع إمكانيات الدولة التونسية. فهل يبرر ذلك لجوء رئيس الجمهورية إلى الفصل 80 من الدستور المتعلق بحالة الاستثناء (l’état d’exception) وتجميع السلط بيده بدعوى ضمان السرعة والنجاعة في اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الخطر أم أن الإجراءات التي ينص عليها أمر 26 جانفي 1978 المتعلق بحالة الطوارئ التي تخضع لها البلاد التونسية إلى موفى شهر أفريل كافية لمجابهة الأزمة؟
ينص الفصل 80 من الدستور على انه «لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو امن البلاد أو استقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تامين عودة السير العادي لدواليب الدولة في اقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لايجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لايجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبعد مضي ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في اجل أقصاه خمسة عشر يوما».تفترض حالة الاستثناء وجود خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو امن البلاد أو استقلالها على غرار الحرب أو الكوارث الطبيعية التي تؤدي ضرورة إلى عرقلة سير دواليب الدولة. وتمنح لرئيس الجمهورية إن توفرت مجتمعة مطلق الصلاحيات(les pleins pouvoirs) شرط استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية. فهل تتوفر هذه الشروط في الوضعية الحالية؟
بدآ بالإجراءات فان غياب المحكمة الدستورية وذلك لتلكؤ السلط المكلفة بالتعيين وعلى رأسها مجلس نواب الشعب في إرسائها على مدى 6 سنوات لا يعتبر حائلا حسب أستاذ القانون الدستوري الاستاذ سليم اللغماني دون إعمال الفصل 80. إذ اعتبر انه طالما لم يقع إرساء المحكمة الدستورية وجب قراءة الدستور كأنما الأحكام المتعلقة بها، باستثناء الفصل 118، غير موجودة. إذا لايبقى لرئيس الجمهورية كشروط إجرائية إلا استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب. لكن هل نحن اليوم في وضعية خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو امن البلاد أو استقلالها بحيث يتعذر السير العادي لدواليب الدولة مما يبرر لجوء رئيس الجمهورية إلى الفصل 80؟
صراحة لا أرى ذلك لسببين أولا لان الوباء رغم خطورته وسرعة انتشاره هو لا يصل إلى درجة أن يكون خطرا داهما مهددا لكيان الوطن أو امن البلاد أو استقلالها بحيث يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة. السبب الثاني هو أن مجابهة الوباء تتطلب تكاتف الجهود والسرعة في التعاطي مع المستجدات بما يقتضيه ذلك من التعزيز الدائم والسريع للترسانة التشريعية والقانونية ككل خاصة في حالة عدم احترام إجراءات الحجر من قبل المواطنين. ولكن لا شيء يمنع رئيس الجمهورية من اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور شريطة استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب والإعلان عن التدابير في بيان إلى الشعب!!
خلال الأيام الفارطة توجه رئيس الجمهورية في مناسبتين الى الشعب يوم 17 مارس ويوم 20 مارس 2020 وفي كلا المناسبتين لم يشر لا صراحة ولا تلميحا إلى أن التدابير الاستثنائية المقررة اتخذت على أساس الفصل 80 من الدستور. لم يعلن رئيس الجمهورية عن حالة الاستثناء بل اكتفى في خطابه يوم 17 مارس 2020 بالإعلان عن جملة من الإجراءات التي ستتخذ إلى جانب الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ومنها منع الجولان من الساعة السادسة مساء الى الساعة السادسة صباحا، قرار كان سيؤدي وحده إلى تفاقم الوضع لأنه يؤدي بالضرورة إلى تجمهر المواطنين والاكتظاظ في محطات النقل العمومي والمراكز التجارية ويعطي بذلك نتائج عكسية ، ثم أضاف «يجب على السلطة التشريعية في قادم الأيام أن تضع التشريعات الضرورية حتى يظهر التآزر الفعلي خاصة في مستوى التعويض لمن تضرر من هذه الإجراءات ومنعتهم من العمل» ! مما يعني بصفة غير مباشرة عدم نيته إعمال للفصل 80.
إلا انه بمراجعة الأمر الرئاسي المؤرخ في 18 مارس 2020 المتعلق بمنع الجولان بكامل تراب الجمهورية ، نلاحظ من خلال الاطلاعات أن رئيس الجمهورية استند فقط على الفصل 80 من الدستور المتعلق بحالة الاستثناء بالإضافة إلى انه اخذ رأي كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب كما ينص على ذلك الفصل 80 من الدستور ولم يستند على أمر 1978 المنظم لحالة الطوارئ.هل يعني هذا أن رئيس الجمهورية طبق الفصل 80 وارتأى أن حالة الطوارئ المعلنة في تونس لاتكفي للتصدي لخطر وباء covid 19؟ هنا لابد من التذكير أنه بمقتضى أمر عدد لسنة 2020 المؤرخ في 30 جانفي 2020 قام رئيس الجمهورية بالاستناد على الفصل 77 من الدستور وأمر عدد 50 المؤرخ في 26 جانفي 1978 والأمر الرئاسي عدد 239 لسنة 2019 المؤرخ في 27 ديسمبر 2019 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ بالتمديد في حالة الطوارئ في كامل تراب الجمهورية لمدة 3 أشهر ابتداء من 31 جانفي 2020 الى غاية 29 افريل 2020.
ثم في خطابه يوم عيد الاستقلال أعلن رئيس الجمهورية عن إجراء آخر وهو الحجر الصحي الشامل، خطاب عابه الغموض وغياب المنهجية، وكان على الجميع أن ينتظر 24 ساعة أخرى حتى يتدخل رئيس الحكومة يوم 21 مارس 2020 ليوضح التدابير التي وقع الاتفاق عليها في مجلس الأمن القومي الذي رأسه رئيس الجمهورية وحضره رئيس الحكومة و رئيس مجلس النواب حسب الفصل 77 من الدستور المتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية. وقد صدر الامر الرئاسي عدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 22 مارس 2020 المتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان وورد في اطلاعاته الفصل 80 من الدستور وامر 18 مارس 2020 المتعلق بمنع الجولان بكامل تراب الجمهورية. ونص الفصل الثالث منه على انه «تضبط الحاجيات الاساسية المنصوص عليها بالفصل الاول من هذا الامر الرئاسي وكذلك مقتضيات ضمان استمرار سير المرافق الحيوية بمقتضى أمر حكومي». تلاه في نفس الرائد الرسمي الامر الحكومي عدد 156 الذي استند بالاضافة الى الأمر الرئاسي المؤرخ في 18 مارس والأمر الرئاسي المؤرخ في 22 مارس والمتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان ، على الفقرة الاخيرة من الفصل 65 المتعلقة بمجال السلطة الترتيبية العامة والفصل 94 من الدستور!
من جهة أخرى، قام رئيس الحكومة في خطابه ليلة السب 21 مارس بتفصيل الإجراءات التي سيتم اتخاذها، ثم دعا المجلس التشريعي(مما يجعلنا نستبعد اللجوء الى الفصل 80) إلى أن يفوض له جزءا من اختصاصه التشريعي حتى يتمكن من اتخاذ التدابير التي تفرضها الضرورة «لكي نستطيع قيادة العملية بكل نجاعة سنطلب من المجلس التشريعي تمكين الحكومة من إصدار مراسيم لاتخاذ التدابير المستعجلة حسب مقتضيات الفصل 70 من الدستور». وينص الفصل 70 فقرة 2 على انه «يمكن لمجلس نواب الشعب بثلاثة أخماس أعضائه أن يفوض بقانون لمدة محدودة لاتتجاوز الشهرين ولغرض معين الى رئيس الحكومة اصدار مراسيم تدخل في مجال القانون تعرض حال انقضاء المدة المذكورة على مصادقة المجلس».
هذا التراوح والاضطراب يجعلنا أمام معضلة قانونية: هل نحن في حالة استثناء يمسك فيها رئيس الجمهورية بكل السلط التنفيذية والتشريعية معا أم نحن لازلنا في ظل حالة الطوارئ التي يتم الإعلان عنها حسب الفصل الأول من أمر 26 جانفي 1978« في حالة خطر داهم ناتج عن نيل خطير من النظام العام، أو في حالة حصول أحداث تكتسي بخطورتها صبغة
كارثة عامة». هذا الأمر يعطي الحكومة والولاة عديد الصلاحيات على غرار التسخير، ومنع جولان الأشخاص والعربات وتنظيم إقامة الأشخاص( الفصل 4)، والإقامة الجبرية(الفصل 5)، والغلق المؤقت لقاعات العروض ومحلات بيع المشروبات وأماكن الاجتماعات مهما كان نوعها و تحجير الاجتماعات التي من شانها الإخلال بالأمن (الفصل 7 من أمر 1978)».
من المفروغ منه أن تنظيم حالة الطوارئ بأمر لايستجيب لشرط الاختصاص التشريعي في مادة الحقوق والحريات (الفصل 65) وانه مخالف للدستور. لكن رئيس الجمهورية استند عليه للإعلان على حالة الطوارئ في 27 ديسمبر 2019 وكذلك للتمديد فيها في 27 ديسمبر 2020 أمام تلكأ مجلس نواب الشعب في المصادقة على مشروع القانون . كما أن ذلك لا يبرر
حسب رأينا اللجوء إلى الفصل 80 وجمع كل السلط بيد رئيس الجمهورية خاصة في غياب المحكمة الدستورية التي كان من المفروض أن تكون صمام أمان وتسهر، على غرار المجلس الدستوري الفرنسي( في إطار الفصل 16 من دستور 1958)، على احترام القيم والمبادئ الدستورية. في المقابل وان بان لنا أننا لسنا في حالة الاستثناء ولاندري صراحة كيف او متى ندعو مجلس نواب الشعب إلى تحمل مسؤوليته واستغلال الفرصة التاريخية لمحاولة إصلاح الصورة السلبية التي رسمها لدى المواطنين وزرع الثقة في نفوسهم التي بددها السلوك غير المسؤول لعديد النواب والارتقاء إلى مستوى اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد والإنسانية ومنح الحكومة (نحن بحاجة الى 131 صوتا) الإمكانية لاتخاذ النصوص القانونية الضرورية في أجل معقول وذلك عبر تفويض سلطة اتخاذ مراسيم إلى رئيس الحكومة وهذا لايعني أبدا تخلي المجلس عن صلاحيته التشريعية لان هذه المراسيم تبقى قرارات ذات صبغة إدارية ولا ترتقي الى مرتبة القوانين ولا بد ان يقع عرضها فيما بعد على مصادقته بل يعني تحمل النواب لمسؤوليتهم كممثلين للشعب ووعيهم بخطورة المرحلة التي تقتضي إرجاء الحسابات السياسية الضيقة خاصة وانه لاخوف على «استحقاقاتهم» الانتخابية لأنه وحسب الفصل 70 «يستثنى النظام الانتخابي من مجال المراسيم».