ويمثل العقد الاجتماعي نقطة المرور والتحول من المجتمعات التقليدية التي تعتمد على سلطة المشائخ والزعامات التقليدية وهيمنتهم على المجال العام إلى المجتمعات الحديثة والنظام الديمقراطي .
ويسمح العقد الاجتماعي للأفراد بالابتعاد عن الانتماءات التقليدية والقبلية أو العشائرية للانتقال إلى جسم اجتماعي بطريقة اختيارية. وسيكون العقد الاجتماعي أساس ظهور وبناء الدولة المدنية والتي ستصبح المؤسسة المسؤولة على إدارة الشأن العام وبناء النظام الديمقراطي .
وسيكون لفكرة العقد الاجتماعي تأثير هام في التحولات الكبرى التي سيعرفها العالم منذ عصر الثورات والأنوار في أوروبا إلى يومنا هذا فسيمثل نقطة الأساس في الخروج التدريجي للمجتمعات من التنظيم التقليدي ودخول عصر الحداثة السياسية والدولة المدنية. ولن يقتصر تأثير هذا المشروع على البلدان الرأسمالية في أوروبا بل سيمتد كذلك إلى عديد القارات الأخرى ليصبح له بعد كوني.
وستعرف تجربتنا السياسية تأثرا كبيرا وانخراط نخبنا السياسية والفكرية في هذا المشروع منذ القرن التاسع عشر. ولعل هذا الانخراط المبكر في جملة هذه الأفكار التحررية التي حملها فلاسفة الأنوار ومشروع التحديث السياسي الذي عرفته أوروبا كان وراء خصوصية تجربتنا السياسية وتفردها في المحيط العربي الإسلامي .
لقد عرف العالم العربي الإسلامي فترة تراجع وانحطاطا كبيرا إثر سقوط الخلافة في الأندلس سنة 1492. وكان هذا السقوط نقطة انطلاق الانهيار التاريخي للحضارة العربية والإسلامية وتراجعها .وفي المقابل شكلت نقطة صعود وتقدم لأوروبا التي ستعرف ثورة فكرية واقتصادية منذ القرن الثامن عشر ستهيئها للهيمنة على العالم.
إلى جانب التراجع الفكري والعلمي سيعيش العالم العربي انقسامات سياسية كبيرة ليتحول إلى مجموعة من الطوائف والممالك لا تأثير لها على مستوى العلاقات الدولية. كما ستعرف هذه الكيانات السياسية الهشة تنامي الخلافات والحروب فيما بينها لتنتج حالة من عدم الاستقرار والصراعات التي لا تنتهي . وسيعمد اغلب الملوك والأمراء الى اللجوء إلى سلاح الاستبداد والاضطهاد للحفاظ على ملكهم ولاستمرارهم في السلطة.
وهذا التراجع لن يقتصر على الجوانب الفكرية والعلمية والسياسية بل سيمس كذلك الجوانب الاقتصادية.
فمع اكتشاف أوروبا لطرق تجارية عديدة سيعرف العالم العربي تهميشا كبيرا سيكون وراء التخلف الاقتصادي والتجاري الذي سيعرفه العالم العربي . فستتراجع موارد الدول وسيحافظ الاقتصاد على هياكله التقليدية التي لن تسمح له بتحسين الإنتاجية وتطوير الإنتاج.
سيكون العصر الوسيط نقطة تحول كبرى في المسيرة التاريخية للعالم العربي الإسلامي حيث ستخرج من الحقبة الذهبية للخلافة الإسلامية لتدخل فترة جديدة سيكون التشرذم والفقر والتخلف والاستبداد أهم ميزاتها .وسيعرف العالم العربي في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر بعض المحاولات للخروج من زمن الرداءة والاستبداد والتخلف . وستشكل الحركتان الإصلاحيتان في مصر مع محمد علي وفي تونس مع خير الدين أهم المبادرات للقطع مع السائد والدخول في مشروع الحداثة والتنوير.
وستشكل فكرة العقد الاجتماعي كأساس للخروج من المجتمع التقليدي والدخول في المجتمعات الحديثة هاجسا أساسيا في التجربة السياسية التونسية وفي الديناميكية السياسية التي ستعيشها بلادنا والتي ستكون وراء خصوصية تجربتنا السياسية .
وفي رأيي فإن هذه الفكرة ومشروع العقد الاجتماعي سيعرف ثلاث محطات تاريخية مهمة في تاريخنا المعاصر.المحطة الأولى ستكون مع الحركة الإصلاحية الكبيرة التي ستعيشها بلادنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد انطلقت هذه الحركة مع أفكار المفكرين التنويريين والذين تأثروا بالحداثة الأوروبية وبصفة خاصة بالثورة الفرنسية بعد زيارات عديدة لعاصمة الأنوار. ومن بين هؤلاء المفكرين نذكر احمد ابن أبي الضياف الذي ساهم في التعريف بالتحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا وبالثورة الكبيرة في الأنظمة السياسية وبروز النظام الرأسمالي .
وستشكل هذه الأفكار نقطة تحول كبرى عند النخب السياسية وانطلاقة الفكر الإصلاحي في بلادنا الذي سيعمل على الخروج من الهياكل السياسية التقليدية و واقع التخلف ومحاولة تحديث الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ستشهد بلادنا منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر محاولات بناء العقد الاجتماعي الجديد والذي سيرتكز على أربع ثوابت أساسية . المجال الأول لهذا العقد يهم الجانب السياسي حيث ستعمل الإصلاحات على الخروج من النظام السياسي التقليدي والدخول في مشروع الدولة الحديثة المدنية. ومن أهم الإصلاحات في هذا المجال يمكن ان نذكر قانون عهد الأمان سنة 1857 وسن أول دستور تونسي سنة 1864. وهذه الإصلاحات شكلت قطيعة جذرية مع النظام السياسي التقليدي والمؤسسات السياسية البالية وبداية انخراط بلادنا في عملية التحديث السياسي وبناء الدولة المدنية .وستكون هذه الإصلاحات نقطة ارتكاز أساسية في تجربتنا السياسية وخصوصياتها التاريخية في مجالنا العربي والإسلامي .
أما الثابت الثاني في تجربة بناء العقد الاجتماعي فيهم الجانب الاقتصادي ومحاولات الخروج من الهياكل الاقتصادية البالية والدخول في النظام الاقتصادي الرأسمالي . فقد عرفت بلادنا في تلك الفترة ظهور النواتات الصناعية الأولى بصفة خاصة في قطاع النسيج وبعض القطاعات الصناعية الأخرى. وستعرف بلادنا بعض النجاحات في هذا المجال وستصبح هذه القطاعات الجديدة محركا أساسيا لا فقط للإنتاج بل كذلك لصادراتنا بصفة خاصة نحو الأسواق الأوروبية .
ولن تقتصر تجربة بناء عقد اجتماعي جديد على المجالين السياسي والاقتصادي بل ستشمل كذلك الجانب الاجتماعي كمجالي الصحة والتعليم حيث سنعرف ظهور المؤسسات الصحية الحديثة ومؤسسات التعليم الجديدة كالمعهد الصادقي في سنة 1875.
أما الثابت والركيزة الرابعة لتجربة العقد الاجتماعي في بلادنا فيخص مسالة تحرير المرأة من هيمنة العلاقات الأبوية لتنطلق المبادرات من اجل المساواة وفتح عديد المجالات أمام المرأة .
شكلت الحركة الإصلاحية في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر نقطة انطلاق بلادنا في محاولة بناء عقد اجتماعي جديد يمكننا من الخروج والقطع مع النظام التقليدي المتخلف والدخول في عصر الحداثة الفكرية والسياسية من بابها الواسع والعريض . إلا أن هذه التجربة لن يكفل لها النجاح حيث ستلعب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دورا مهما في إحباطها وإجهاضها . وسيضع الدخول الاستعماري سنة 1881 حدا لهذه المغامرة وحلم بناء العقد الاجتماعي التونسي .
إلا أن هذا الحلم لن يتغير طويلا حيث سيعود مع الحركة الوطنية في بداية القرن العشرين والتي ستشكل المحطة الثانية لتجربة بناء العقد الاجتماعي في بلادنا .
وستدافع الحركة الوطنية بمختلف فصائلها السياسية كالحزب القديم والحزب الحر الدستوري والحزب الشيوعي والمنظمات المهنية النقابية العمالية والصناعية والفلاحية على ثوابت العقد الاجتماعي . ففي المجال السياسي دافعت كل مكونات الحركة الوطنية على فكرة الدولة المدنية من خلال المطالبة بسن دستور تونسي ومؤسسات منتخبة تمثل اغلب التونسيين .
أما في المجال الاقتصادي فقد ناضلت أغلب مكونات الحركة الوطنية على ضرورة حماية مصالح المؤسسات الاقتصادية الوطنية امام الاحتكارات والمؤسسات الاستعمارية الكبرى .
وفي المجال الاجتماعي فقد دافعت هذه المنظمات على ضرورة بناء مؤسسات تضامنية وطنية تساهم في دفع علاقات التآزر والتآخي بين الفئات الاجتماعية من اجل الحد من ضيم المستعمر . كما عرفت هذه الفترة صعود النضالات النسوية وظهور المرأة في الفضاء العام من اجل التصدي للهيمنة الاستعمارية .
أما التجربة الثالثة لبناء العقد الاجتماعي فستنطلق مع دولة الاستقلال والتي ستعمل على تحقيق هذا المشروع في المجالات الأربع التي حددتها النخب الإصلاحية منذ القرن التاسع عشر . ففي المجال السياسي ستسعى دولة الاستقلال إلى بناء مؤسسات جديدة وتحديث النظام السياسي من خلال إرساء مبادئ الدولة المدنية.
أما في المجال الاقتصادي فستعمل دولة الاستقلال على الخروج من نمط الاستقلال التابع للاستعمار وبناء نمط تنموي جديد متنوع يعمل على تطوير بنية اقتصادية جديدة ناشطة وديناميكية من خلال التناغم بين القطاع العام و القطاع الخاص وتوازن بين السوق الداخلية والسوق الخارجية.
وفي المجال الاجتماعي عملت دولة الاستقلال على بناء مؤسسات تضامن جديدة وعلى دفع الصحة والتعليم وقد ساهمت هذه المؤسسات في تفعيل المصعد الاجتماعي وإعطاء فرص البروز لأبناء الطبقات الشعبية .
أما المجال الرابع للعقد الاجتماعي والذي يهم الحريات الفردية وحقوق المرأة فقد قامت دولة الاستقلال بثورة كبيرة من خلالا التشريعات الجديدة وبصفة خاصة مجلة الأحوال الشخصية والتي مكنت المرأة من حقوق أساسية ميزت تجربتنا في هذا المجال.
شكلت محطة دولة الاستقلال نقطة مميزة في تجربة بناء العقد الاجتماعي في بلادنا . وقد ساهمت هذه التجربة في بناء مشروعية دولة الاستقلال وهيمنتها على الفضاء السياسي في بلادنا.
إلا أن هذه التجربة ستعرف أفولها في سنوات وستدخل في سلسلة من الصعوبات والأزمات فعلى المستوى السياسي ستعرف تجربتنا انحرافات كبيرة لتتحول الحداثة السياسية تدريجيا إلى استبداد وغطرسة للسلطة السياسية على المجتمع . أما على المستوى الاقتصادي فقد وصل نمط التنمية إلى نهايته وضرورة إعادة بنائه من جديد.وفي الجانب الاقتصادي قد دخلت أهم ركائز النظام الاجتماعي كالتعليم والصحة والصناديق الاجتماعية في أزمات عميقة .
أما مسالة الحريات العامة فقد نادت عديد القوى بضرورة مسح الغبار عليها وتطويرها .
إن فكرة العقد الاجتماعي ليست بغريبة عنا بل شكلت أساس تجربتنا السياسية وخصوصيتها وتميزها . وقد بدأت هذه التجربة مع الحركة الإصلاحية في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر ولتتواصل مع تجربة الحركة الوطنية ثم لتأخذ طريقها للتطبيق مع السلطة الوطنية .
إلا أن هذه التجربة دخلت منذ مدة في أزمات متعددة وكانت الثورة تعبيرا سياسيا على هذه الأزمة وعلى ضرورة بناء عقد اجتماعي جديد.