يوميات ناخب (10) : الشباب يريد الثورة من جديد

عرفت تونس العاصمة والعديد من المدن التونسية انفجار موجة كبيرة من الفرح الغامر لم نشهدها منذ شتاء 2011 عند الإعلان

على نتائج الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية .فقد شهد شارع الحبيب بورقيبة خروج آلاف التونسيين للاحتفال بانتصار السيد قيس سعيد في هذه الانتخابات .وقد ذكرنا هذا الحضور والأناشيد والأهازيج التي تم الهتاف بها والأعلام التونسية التي رفعها بالحماس والفرحة والأمل الذي عرفته بلادنا في الأشهر الأولى لثورة 2011.وقد غابت هذه المظاهر المفرحة في الأشهر الأخيرة ليحل محلها اليأس والخوف والاكتئاب عند الكثيرين .وأرجعتنا المظاهر الاحتفالية التي عشناها ليلة الانتخابات إلى الأمل والفرحة والحلم الذين عشناها ذات شتاء 2011.

وقد ذكرتني شخصيا هذه المظاهر من الفرحة بالتعبئة والحشد الكبير الذي عرفته بلادنا بضعة أيام بعد الثورة في القصبة 1 والقصبة 2 عندما انتفضت فئات شعبية واسعة ضد عودة النظام السابق ورموزه تحت شعار « الشعب يريد الثورة من جديد» .ذكرتني هذه المظاهر العفوية في شارع الحبيب بورقيبة ومظاهر الفرحة التي شاهدنها اثر الإعلان عن نتائج الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بمظاهرت القصبة 1 و2 ولكن بشعار مغاير وهو «الشباب يريد الثورة من جديد»فقد انتهى المارطون الانتخابي الذي بداناه منذ أسابيع الى عودة النفس والزخم الثوري الذي بدأناه في 2011 وظهرت إرادة قوية للقطع مع السياسات والخيارات السائدة والتي فشلت في تحقيق مطالب واستحقاقات الثورة .نحن الآن بصدد لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ تجربة التحول الديمقراطي وهي تجربة العودة الى نقاوة اللحظة الثورية الأولى. إلا أن الفرق بين اللحظة الثورية الأولى في شتاء 2011 والهبة الشبابية الراهنة أنها لم تمر عبر الشارع كما كان الشأن في السابق بل عبر صندوق الاقتراع .

ويمكن أن نجد ملامح عودة هذا الزخم الثوري في عديد المؤشرات والنتائج المعلنة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية . المؤشر الأول يهم النتيجة النهائية والتي لم تترك أي مجال للشك حتى أن المرشح المنهزم رفض تقديم أي طعون في هذه النتائج . فقد تحصل السيد قيس سعيد على 7.27% من الأصوات بينما لم يتحصل

منافسه إلا على 27.29% .كانت هذه النتيجة عبارة عن استفتاء لصالح السيد قيس سعيد كما اشار الى ذلك بعض المعلقين والمحللين بدأت تظهر معالمه قبل أيام من الانتخابات .ولم يقدر السيد نبيل القروي على قلب هذا الاتجاه وهذه المعادلة بعد إعلان إطلاق سراحه من السجن ومساهمته في الأمتار الأخيرة للحملة الانتخابية .

أما المؤشر الثاني لهذا الزخم والحشد فيهم نسب المشاركة والتي عرفت تطورا كبيرا . فلئن كانت نسبة المشاركة ضعيفة في الانتخابات التشريعية فإنها كانت قوية في الانتخابات الرئاسية لتشهد ارتفاعا مهما في الدور الثاني . فهذه النسبة بالرغم من الدعوات اليائسة لمسؤولي الهيئة العليا للانتخابات والعديد من الناشطين السياسيين للمسجلين وخاصة الشباب منهم بالتحول إلى مراكز الاقتراع بقيت النسبة ضعيفة وفي حدود %41.3 .ولعل الملفت للنظر أن الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى والتي تم تنظيمها بضعة أيام قبل التشريعية فقد نجحت في جلب %45 من المسجلين. وسترتفع هذه النسبة لتصل إلى %55 في الدورة الثانية للرئاسية يوم 13 اكتوبر .وتطور نسب المشاركة واختلافها بين مختلف الانتخابات لا يعكس فقط عدم جدية الشباب والكثير من الناخبين في التعاطي مع العملية الانتخابية والمسار الديمقراطي كما حاول الترويج له العديد من المحللين. بل يشير التفاوت في النسبة وبصفة خاصة ضعفها الكبير في التشريعية إلى فقدان الثقة في هذه المؤسسة الأساسية في مسار التحول الديمقراطي.

فقد سئم المواطنون منذ المجلس التأسيسي مرورا بمجلس نواب الشعب الصورة التي ظهر عليها النواب وبصفة خاصة معاركهم وصراعاتهم وتنقل البعض منهم من كتلة الى أخرى. أعطت هذه الممارسات صورة غير مشرقة للمؤسسات الديمقراطية وقلص ذلك من مخزون الثقة والاحترام لدى فئات كبيرة وعريضة من الناس .
وقد لعبت هذه النظرة السلبية دورا كبيرا في التراجع الهام لإقبال الناس على التصويت في الانتخابات التشريعية .وقد انتقل اهتمامهم إلى الانتخابات الرئاسية والى مؤسسة رئاسة الجمهورية والتي أصبحت محط أنظارهم في البحث عن قيم أخلاقية جديدة للعمل السياسي في بلادنا .

كما عبرت هذه الانتخابات عن تطور مهم في علاقة الشباب بالسياسة والتزامهم في الفضاء العام . فقد شهدت نسبة تصويت الشباب تطورا كبيرا في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية مقارنة بالانتخابات التشريعية ويخص هذا التطور الشريحة العمرية بين 26 سنة و45 سنة والتي لم تتجاوز %33 من نسبة المصوتين بينما وصلت هذه النسبة الى %39.2 في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية .

ولعل الأهم في هذه المسالة يخص اختيارات مختلف الفئات العمرية وبصفة خاصة الشباب بين المرشحين للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية . فقد تحصل المرشح قيس سعيد على %90 من أصوات الفئة العمرية ما بين 18 سنة و25 سنة.

وسيتواصل الزخم والحشد لصالح المرشح قيس سعيد مع الفئة العمرية الشبابية بين 26 و44 سنة والتي بلغت نسبة تصويتها لفائدته %84.6.كما تحصل المرشح قيس سعيد على أصوات %70 من الناخبين من الفئة العمرية بين 45 و59 سنة .ولم يتجاوزه المرشح نبيل القروي إلا في الفئة العمرية لما فوق 60 سنة. وبهذا المعنى فان فوز قيس سعيد كان نتيجة تعبئة استثنائية للفئات الشبابية والتي صوتت لفائدته بأغلبية كبيرة .

وما يمكن أن نضيفه في هذه القراءة السوسيولوجية للدور الثاني للانتخابات الرئاسية هو توزيع الرأسمال التعليمي بين ناخبي المرشحين .فأكثر من %20 من الناخبين الذين اختاروا قيس سعيد لهم مستوى تعليمي جامعي بينما %54 من الذين اختاروا المرشح نبيل القروي هم من الأميين .

هذه المؤشرات والنتائج في الماراطون الانتخابي تجسد الزخم الثوري الذي صاحب هذه الانتخابات ومخزون الرفض والقطع مع الممارسات والسياسات التي سادت في المشهد السياسي منذ الثورة . وقد عبرت هذه الانتخابات عن الحنين الى الآمال والأحلام التي فقدتها الثورة والتي فشلت مختلف الحكومات في الإيفاء بها وتحقيقها. وشكلت هذه الانتخابات لحظة فارقة ومهمة حيث عبرت الثورة الشبابية داخل صندوق الاقتراع عن الخروج من الفشل الذي ميز مختلف السياسات وضرورة فتح صفحة جديدة يكون هدفها حماية الدولة من اللوبيات والخروج من الأزمة الاقتصادية والمحنة الاجتماعية التي تعيشها الفئات الشعبية المهمشة .

ويعبر هذا التصويت في رايي على ثلاث مستويات من الرفض والقطع مع الممارسات والسياسات السائدة في بلادنا .

المستوى الأول من الرفض يهم تراجع الدولة ومؤسساتها وضعفها الكبير أمام تنامي اللوبيات وخاصة لوبيات الفساد مما جعلها غير قادرة على القيام بدورها الرقابي المستقل عن كل التأثيرات والمصالح. فقد تابعنا عاجزين وبدون قدرة على الفعل صعود الفساد والتجارة الموازية وإضعاف مؤسسات الدولة وعدم احترام القانون ودرسه منذ سنوات فكانت هذه الهبة الشبابية ثورة ضد محاولات تدمير الدولة وإعلان نهايتها أمام صعود اللوبيات الموازية.

المستوى الثاني من الرفض الذي عبرت عنه هذه الثورة عبر الصندوق يهم الخيارات الاقتصادية ومواصلة نفس النظام الاقتصادي ونمط التنمية الموروث من النظام السابق فقد عجزت كل حكومات ما بعد الثورة على القطع مع السياسات السابقة وواصلت سياسات التوازنات الكلية بدعم من المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي . وكانت هذه السياسات والخيارات وراء تنامي البطالة والنمو الهش الذي تعيشه بلادنا وتراجع الاستثمار والارتفاع المهم للتضخم وخاصة فقدان الثقة في قدرة السياسات العمومية على فتح افاق جديدة للتنمية والنمو.

أما المستوى الثالث والذي يفسر تحول هذه الانتخابات الى تعبير واسع على الرفض يهم الجانب الاجتماعي والسياسات الاجتماعية وعجزها عن إيجاد الحلول للازمة الاجتماعية التي نعيشها منذ سنوات والتي كانت احد المحركات الأساسية لثورة 2011. إلى جانب المستويات العالية للبطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد فقد عرفت القطاعات الاجتماعية وخاصة قطاعات الحصة والتعليم تراجعا وتدهورا لم نشهده من قبل مما قلص من ثقة الفئات الشعبية في مؤسسات الدولة وقدرتها على حماية الفئات الضعيفة .

وقد ساهمت هذه الأزمات المختلفة في تآكل العقد الاجتماعي وتراجعه.

لقد ساهم انحطاط الدولة وفقر وازمة الاختيارات الاقتصادية والأزمة الاجتماعية العميقة والخانقة في هذه الهبة وفي الزخم الشبابي الثوري خلال الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. ويبقى التحدي الأساسي والرئيسي اليوم في قدرة الأحزاب السياسية على تشكيل التحالفات الواسعة والعريضة القادرة على صياغة برامج قطع مع السياسات السائدة وقادرة على اعادة بناء الدولة وعلوية القانون ونمط تنموي جديد وتجاور العقد الاجتماعي المتآكل . يشكل هذا التحالف الواسع والبرنامج الواضح الشروط الأساسية لعودة الثقة في المسار الديمقراطي ومؤسسات الدولة ورجوع الأمل في المستقبل .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115