البرنامج التلفزي اليومي بالأبيض والأسود «محل شاهد» حيث يقوم «حميداتو» بفتح الآفاق الذهنية لـ«هناني». إلا أن هذه الحملات توقّفت منذ زمن طويل. وقد يعود هذا التوقّف إلى الاعتقاد بأن الشعب لم يعد بحاجة إلى التثقيف، في حين أن التثقيف عملية يُفترض أن تكون دائمة ومستمرّة.
التلفزة الوطنية تُقدّم اليوم الدعاء بالخير للرئيس المخلوع، ثماني سنوات بعد الثورة، وآذان الصبح بدل آذان المغرب، دون حرج ولا مُحاسبة، وقد تخلّت تماما عن دورها في التوعية والتثقيف، فأصبحت مثل سفينة بدون ربان وبدون خطة سير تتقاذفها الأمواج والرياح.
الوضع في تونس حسّاس إلى أبعد الحدود. فكل المُؤشرات الاقتصادية تُنذر بالخطر. خطر الانهيار التام لخزينة الدولة وللميزان التجاري، وخطر الإفلاس بما يدفع بجيلنا وبجيلين على الأقل من بعدنا إلى معاناة دفع الديون الخارجية المتفاقمة بدون أي أفق لإمكانية تسديدها. والسلطة القائمة في تونس، بكافة مُكوّناتها، لا تُفكّر إلا في البقاء، لا غير.
أمام هذا الوضع، ليس لنا من أمل غير التغيير الشامل للطبقة السياسية الحاكمة، بنهضتها وندائها ومن لفّ لفّهما. ولكن، هل يكفي ذلك؟
فالذين سيمسكون بالسلطة، بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، مهما كانت درجة نزاهتهم وكفاءتهم، سيذوقون الأمرّين لردّ الاعتبار للدولة، ولتطبيق القانون، وللشروع في إنجاز برامج اقتصادية واجتماعية مدروسة وناجعة لإعادة سريان الدم في عروق الاقتصاد، وفي عروق المواطن المُنهك. ولا يتسنّى ذلك إلا بالاعتماد على وطنيّة الشعب وعلى وعيه بخطورة المرحلة وبضرورة مساهمته المباشرة في عملية إنقاذ الوطن وإنقاذ الأجيال القادمة.
لكن السؤال الخطير الذي لا مناص من طرحه هو الآتي : هل أن الشعب التونسي يمكنه اليوم الاعتماد على وعيه وعلى وطنيّته وعلى استعداده للعمل وللتضحية وللنضال ؟
فعندما ترى اليوم صاحب دكان صغير استولى على الرصيف لاستغلاله كجزء من دكانه مُجبرا الراجلين على المرور بين السيارات، وعندما يفتكّ منك مواطن مكانك في طابور أمام شباك في إدارة ما، وعندما تُشاهد سائق سيارة يرمي من نافذة سيارته بمنديل مُستعمل في الطريق، وعندما تبحث عن مُوظّف في مكتبه فلا تجده، وإن وجدته وطلبت منه خدمة فيُجيبك «ارجع بعد العيد»، وإذا رأيت نائبا في مجلس الشعب يتفوّه بعبارات تنمّ عن جهل وقلة حياء وانعدام الثقافة، وإذا علمت بأن وزيرا نسي أنه مسؤول عن قطاع حيوي يخصّ الشعب بأكمله وأصبح يقضي كامل وقته في خدمة مُرشّح للرئاسة... إياك أن تلومه على تصرّفه، فالردّ العنيف مضمون، إن لم يكن مادّيا فلفظيّا.
هذه «الثقافة» المُتفشّية لدى عدد من التونسيين ما انفكّت تنتشر مع الأسف، وقد انضاف إليها التعصّب الديني والانغلاق الفكري ممّا جعل تثقيف المجتمع يزداد صعوبة يوما بعد يوم. فليس من السهل بتاتا اليوم أن تُقنع مواطنا من أصحاب الدخل الضعيف أن كبش العيد ليس فريضة اسلامية وأن شراءه بثمن باهض، وبواسطة قرض، ما هو إلا ضرب من الجهل المُدقع. كما أنه من الصعب جدّا إقناع مواطن تونسي بأن الحج، الذي حُدّد ثمنه لهذه السنة ب 14 ألف دينار، هو مساهمة في تمويل الخزينة السعودية التي يذهب جزء منها إلى أمريكا ومنها إلى اسرائيل لقتل الأطفال الفلسطينيين، وجزء آخر لتشريد وتجويع الشعب اليمني. وفي هذا الصدد، كثيرا ما نسمع بأنه لا دخل للحاج في ما سيؤول إليه ماله، وهو عين الخطأ، لأن المشاركة في الجريمة تُعتبر قانونيا وأخلاقيا جريمة في حد ذاتها.
بيت القصيد هو أن الشعب لا يُمكن التعويل عليه لإعادة بناء الدولة إلا إذا كان على درجة كبيرة من الوعي والوطنية وقد تخلّص من الأحكام المسبقة ومن التطرّف.
الأدهى من ذلك هو أن ما يحصل اليوم يُعتبر على تمام النقيض من التثقيف، وذلك لسببين على غاية من الأهميّة:
فمن ناحية، نجد انتشار الفساد في البلاد، وتطوّرا مُفزعا للعنف والإرهاب، وتنامي التطرّف في الدين وفي السياسة، خاصّة إذا أتى ذلك من كبار المسؤولين الذين يُفترض أن يُمثّلوا القدوة، وكل ذلك يقع دون محاسبة ولا ردع. وعدم المحاسبة على التصرفات المُشينة والمُسيئة للغير تجعلها تنمو وتنتشر، وتجعل المواطن غير عابئ بقواعد ثقافة العيش معا، وبمبادئ أخلاقيات المواطنة. ومسؤولية المواطن في مقاومة الفساد ليست أقلّ أهميّة من مسؤولية الدولة، بل هي -ربما- أكبر، لأن المواطن مُتضرر من الفساد بشكل مباشر في حين أن بعض المسؤولين في الدول يتمعّشون من الفساد، ولا يُقاومونه إلا بالشعارات الانتخابية.
ومن ناحية أخرى، وعملا بمقولة «الجمهور عايز كده»، دأبت وسائل الإعلام على بثّ البرامج التافهة والركيكة بتعلّة أن البرامج التلفزية يجب أن تنزل إلى مستوى المشاهدين. فنرى مُنوّعات مُقرفة ومسلسلات «هزلية» مُبكية وبرامج «ثقافية» مُجهّلة، وصل بعضها إلى نشر ثقافة الشعوذة، والطب الرعواني، والحث على الاستهلاك، وكل ما يحثّ على إدخال العقول في سبات عميق.
فأما القنوات التلفزية الخاصّة فديدنها مع الأسف هو الربح السهل، ولا تهمّها بالتالي أخلاقيات المهنة ولا رسالة الإعلام وقدسية خدمة الغير. وأما التلفزة الوطنية، التي يُساهم كل مواطن، دون اختياره، في تمويلها ضمن فاتورة الكهرباء، والتي تُشغّل ثلاثة أضعاف حاجتها من الموظفين، فلا شيء يُبرر ما وصلت إليه من تفاهات ومن أخطاء فضيعة ومن لامبالاتها بثقافة المشاهد.
وأعيد تساؤلي الأول: كيف لهذه البلاد الراكعة أن تنهض من جديد بالاعتماد فقط على نوايا وبرامج المترشحين للانتخابات القادمة، مهما كانت متفائلة، دون الاعتماد على وعي المواطن وعلى ثقافته الوطنيّة، والعمل الجدي على تطوير وسائل الإعلام والاتصال، وخاصّة منها العمومية، وحثّها بكل حزم على النهوض بالمشاهد حتى يُصبح ما يجب أن يكون عليه مواطن الدولة الحديثة والمُتحضّرة.
إن الإعلام العمومي مُطالب اليوم بالقيام بمراجعة جذرية لسياسته الإعلامية حتى تكون وسيلة ذكية ومهنية ومبتكرة للرفع من المستوى العام للمواطن الذي هو مدعوّ بدوره للرفع من مستوى البلاد.