والجامعيين والناشطين السياسيين.
فظهرت عديد الدراسات والكتب لفهم أسباب هذه الأزمة وطرق إعادة إكسير الحياة للنظام الديمقراطي . ومن جملة هذه الدراسات والتي توقفت عند بعضها في مقالات سابقة أريد الوقوف في هذا المقال على مساهمة هامة وتخص كتاب المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama بعنوان «Identity : The demand for dignity and the politics of resentment» عن دار النشر الأمريكية Farrar Strauss and Grioux قبل نهاية سنة 2018 أو «الهوية : مطالب الكرامة وسياسة .
لقد أثار هذا الكتاب الكثير من الاهتمام لسببين هامين .
السب الأول هو أهمية الكاتب فرانسيس فوكوياما والذي يعتبر اليوم من احد أهم المفكرين في العالم . ولد فوكوياما في 1952 وبعد دراسته الجامعية في جامعة ستانفورد stanford تحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد الشهيرة . وقد تأثر خلال دراسته الجامعية بأهم أساتذة ومفكري العلوم السياسية ومن ضمنهم صامويل هينتنغتون Samuel Huntington وقد اصدر فوكويوما عديد الدراسات والكتب . إلا أن الكتاب الذي سيجلب له شهرة كبيرة ليصبح احد أهم المفكرين في العالم هو بلا شك كتاب «the end of history and the last man» أو « نهاية التاريخ والإنسان الأخير « والصادر سنة 1992 في الولايات المتحدة أي ثلاث سنوات اثر سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفياتي وتجربة البلدان الاشتراكية وفكرة نهاية التاريخ ليست جديدة في التفكير الفلسفي وفي العلوم السياسية . فقد تعرض لها هيجل في كتاباته الفلسفية كما أشار لها Alexander kojéve . وقد تعرض لها ماركس بالنقد وأشار إلى أن الإنسانية لن تعرف نهايتها طالما لم تضع حدا لاستغلال hلإنسان وغربته.
وقد اخذ فوكوياما هذه الفكرة والمقولة الفلسفية في كتابه ليشير إلى أن التاريخ الإنساني وفهمه كصراع بين إيديولوجيات متناقضة وخاصة الصراع بين الايديولوجيا الليبرالية والايديولوجيا الشيوعية قد وصل إلى نهاياته اثر انتصار الديمقراطية الليبرالية والتي ستصبح أفق الإنسانية.
أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة على المستوى العالمي بين مدافعين عن أفكار فوكومايا وبين مناهضين انتقدوا بشدة أفكاره واتهموه بالدفاع عن النظام الرأسمالي العالمي . وساهم هذا الجدل وبالرغم من المواقف المتناقضة من عمله في شهرة فرانسيس فوكوياما ليصبح احد أهم المفكرين العالميين . وسيعقب هذا الكتاب كتب أخرى اذكر منها «state bulding governance and world ordrer in 21st Century « او «بناء الدولة : الحوكمة الرشيدة والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين « سنة 2004 وكتابه قبل الأخير «the origins of political order» أو «في أصول النظام السياسي « والصادر سنة 2011. وقد شكل صدور كل كتب فرانسيس فوكوياما حدثا فكريا وإعلاميا لا فقط في أمريكا بل كذلك على المستوى العالمي .
وأهمية فرانسيس فوكوياما لا تكمن فقط في كتاباته ومساهماته الفكرية بل كذلك في مواقفه السياسية المؤثرة في الرأي العام الأمريكي.وقد عرفت مواقف الرجل تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة . فقد عرف في التسعينات بقربه من مواقف المحافظين الجديد ودعا معهم إلى ضرورة إسقاط صدام حسين . إلا انه سرعان ما عبر عن رفضه للحرب في العراق ليقترب تدريجيا من مواقف الديمقراطيين والمواقف الواقعية في العلاقات الدولية وليصبح احد ابرز ممثلي الفكر الليبرالي العالمي .
والى جانب القيمة التي يتميز بها الكاتب فان أهمية هذا المؤلف تكمن كذلك في جملة الأفكار والتحاليل التي قدمها لفهم أزمة النظام الديمقراطي وطرق الخروج منه . ونقطة الانطلاق والتساؤل في هذا الكتاب هي الانقسام الكبير الذي تعيشه المجتمعات الحديثة والديمقراطية أمام تصاعد الفئات الاجتماعية المختلفة لتصبح الهوية احد ركائز العمل السياسي .
فقد تراجع الاقتصاد والايوديولوجيا ليفتحا المجال لمصالح الفئات الاجتماعية أو الثقافية أو الاثنية لتصبح المحرك الأساسي للتيارات السياسية الكبرى في المجتمعات الديمقراطية . وهذا التطور لا يقتصر على اتجاه سياسي معين بل يشمل اغلب التيارات السياسية من اليسار الى اليمين . فالتيارات اليسارية وضعت نصب أعينها في السنوات الأخيرة الدفاع عن الفئات الاجتماعية المهمشة كالمهاجرين واللاجئين والحركات النسوية والأقليات الاثنية والجنسية. أما التيار اليميني فقد عاد إلى إعادة بناء قناعاته السياسية وجعل من الدفاع على الهوية التقليدية المرتبطة في اغلب الأحيان بالدين أو بالمسالة العرقية هاجسه الأساسي والرئيسي . ويعتبر فوكوياما أن انتصار الهوية كأساس العمل السياسي هي وراء الديمقراطية باعتباره انها قادت إلى انقسام المجتمعات إلى فئات وطوائف واختلال وتراجع العقد الاجتماعي الجامع .
ويشير الكاتب إلى ظهور الهوية في الأنظمة السياسية الديمقراطية في بدايات ستينات القرن الماضي مع ظهور الحركات المطالبة بالمساواة كالحركات النسوية والحركات المساندة لنضالات السود والحركات المدافعة عن الاختلافات الجنسية . وقد بدأت هذه الحركات تدريجيا في التأثير على الأحزاب السياسية التقليدية لتصبح التعددية السياسية والدفاع عن الفئات المهمشة احد اهتماماتها الأساسية .
وستساهم الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلدان الديمقراطية وتراجع دولة الرفاه في تدعيم هذه التطورات الهامة وانخرام أسس النظام الديمقراطي .
فقد ساهمت هذه الأزمة في تطور التهميش الاجتماعي وتزايد الفوارق الاجتماعية. وستكون الأقليات الاثنية والدينية والجنسية الضحايا الأولى لهذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتي ستلعب دورا هاما في المزيد من تهميشها وتراجع دورها الاجتماعي والسياسي .
وسيكون هذا التهميش الاجتماعي والاقتصادي وراء التعبئة السياسية لهذه الفئات والتي ستجد تعبيراتها في الأحزاب التقليدية وبصفة خاصة في الحركات الشعبية لتفرض وتجعل من مطالبها الفئوية و الخاصة كنه وجوهر العملية السياسية .وحسب فوكوياما فإن تراجع الجامع السياسي العام أمام تنامي السياسات المرتبطة بالهوية ستلعب دورا أساسيا في أزمة الأنظمة
الديمقراطية وتنامي الحركات الشعبوية وهيمنتها على الساحة السياسية .
ويؤكد فوكوياما أن هيمنة سياسات الهوية ستشكل خطرا على مستقبل المجتمعات الديمقراطية باعتبارها ستساهم في تفتتها وانقسامها وانغلاق كل فئة وكل اقلية على مطالبها الخاصة والضيقة وتنفي بالتالي العقد الاجتماعي والجامع للأفراد في المجتمعات الديمقراطية .
وأهمية هذا الكتاب لا تقتصر في قراءته وفهمه لأسباب الأزمات التي تعيشها المجتمعات الديمقراطية بل تكمن كذلك في جملة الأفكار والآراء التي وضعها للخروج من هذه الأوضاع . والفكرة الأساسية التي يدافع عليها فوكوياما هي دعوته إلى الأخذ بعين الاعتبار مصالح واهتمامات الأقليات والفئات المهمشة في إطار شامل وجامع وبرنامج مشترك يهم كل الفئات الاجتماعية .والمشروع الذي يدعو إليه فوكوياما يسعى إلى إعادة بناء المشروع الديمقراطي والليبرالي لن يكون يرفض ونفي الهويات الخاصة بل بإدراجها في هوية وطنية شاملة تجمع وتوحد المجتمعات ولا تزيد في انقسامها .
وهنا يشير فوكوياما إلى السياسات التي يجب وضعها من اجل الخروج والتي تندرج ضمن ما يسميه سياسات الاحترام المتبادل والتي تسعى إلى بناء هوية جديدة منفتحة على الآخر . وتمر هذه السياسات بفتح الفرص أمام الفئات المهمشة من خلال المدرسة والصحة والخدمات الاجتماعية الاخرى .
يدعو فوكوياما في هذا الكتاب الهام إلى الخروج من سياسات الهويات القاتلة وإعادة بناء المجتمع والمشروع السياسي الليبرالي والديمقراطي من خلال بناء هوية وطنية جديدة منفتحة على الآخر وقادرة على الأخذ بعين الاعتبار وإدماج الفئات والأقليات المهمشة من خلال الأخذ بعين الاعتبار بمصالحها وإزالة العوائق أمامها وإعطائها الفرص لتحقيق مشاريعها .
ككل كتاب اثار الكتاب الجديد لفوكوياما الكثير من الاهتمام واعتبره العديد مساهمة متميزة لإعادة بناء النظام الديمقراطي والليبرالية السياسية . إلا انه في رأيي لم يتعرض فوكوياما بما فيه الكفاية إلى المسألة الاجتماعية ولتنامي الفوارق الاجتماعية والتي كانت نتيجة السياسات النيوليبرالية التي تم إتباعها مع الثورة النيوليبرالية منذ بداية الثمانينات . فإعادة بناء النظام الديمقراطي والخروج من الأزمة الحادة التي يعيشها تمر في رأيي بإعطاء المسائل الاجتماعية وبصفة خاصة قضايا العدالة الاجتماعية الأهمية التي تستحقها وجعلها الركيزة الأساسية للأنظمة الديمقراطية .