فرنسا تحديداً ليس من باب الصدف أبدًا، لأن العالم ما يزال يعيش في مجال الأنظمة السياسية منذ ما يزيد عن القرنين على شعارات الثورة الفرنسية، وقد أثبتت باريس منذ « كومونتها» أنها أهم ورشة لصناعة الأنظمة السياسية الجديدة.
كان غالبية المهتمين بمستقبل الديمقراطية يعتقدون ان حركة ماكرون « الجمهورية إلى الامام» هي من سيقود التغيير المنشود، باعتبارها ثورة على الأحزاب التقليدية والطبقة السياسية الجامدة او الفاسدة، لكن ما تجلّى خلال الأسابيع الماضية أثبت ان ماكرون وحركته ليسا سوى باباً او مقدمة قصيرة للتغيير الجارف القادم، والذي يتوقع ان يقود الى ولادة جمهورية سادسة ستكون عنوانا لما يمكن ان نسميه بعصر «ما بعد الديمقراطية التمثيلية».
أشار مفكرون سياسيون منذ سنوات إلى هرم «الديمقراطية النيابية» ونقاط ضعفها المتفاقمة في الدول الأكثر ديمقراطية واستقرارًا.. عاد الإقبال على الانتخابات محدودا، وأصبحت عضوية الأحزاب السياسية لا تتجاوز 2 او 3 بالمائة ممن يحق لهم التصويت، وتزايدت الإشارات النقدية لسطوة وسائل الاعلام ولوبيات اصحاب المصالح والنفوذ على العملية السياسية، مثلما أثر غياب الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية على الرأسمالية التي بدا أنها تتجه الى العودة الى طابعها المتوحش غير العابئ بالعدالة الاجتماعية.. كل هذه العوامل وغيرها جعلت الديمقراطيات التمثيلية غير مقنعة أكثر فاكثر في أنظار شعوبها، التي بدا انها تبحث عن حلول جذرية لتطلعاتها لم يعد التمثيل النيابي قادرًا على إيجادها.
لقد عادت الطبقة السياسية بيسارها ويمينها، وحتى وسطها، عنوانا للفساد والكذب وعدم المصداقية والتلوين وقلة الاخلاق وخدمة الاجندات الفئوية الضيقة، كما لم يعد للقادة والزعماء السياسيين ذات التأثير والمكانة، وقد عمّقت العولمة بما أنتجته من وسائل اعلام واتصال أزمة الديمقراطيات التمثيلية، وظهرت أشكال جديدة للتنظم والضغط والاحتجاج متاحة لعموم المواطنين بفضل هذه الثورة الرقمية، على نحو صعّب على الأنظمة السياسية تقدير حركة المجتمعات وضبطها وتوجيهها مثلما كان متاحا من قبل، تماما كما أصبحت عمليات القمع والاحتواء اكثر صعوبة وتعقيدا، ان لم نقل انها عادت مستحيلة.
ربّما اصبح جديرا بمن قدٌسوا لعقود - وربما لقرون- الديمقراطية النيابية، باعتبارها النظام السياسي الافضل او الأقل سوءًا، ان يعتذروا لأولئك الذين ظهروا اليوم انهم « سابقو عصرهم» ممن أعلنوا قبل دهر ان الديمقراطية التمثيلية لن تصمد طويلا، وان على الشعوب منذ الان التفكير فيما بعدها، ولمَ لا التخلي عنها لصالح أشكال من الديمقراطية المباشرة، وما كان بمثابة الرجم بالغيب قبل عقود او قرون اصبح الان حقيقة ساطعة، فزمن الديمقراطية النيابية يعيش الفصول النهائية من تاريخه، وفجر الديمقراطية المباشرة يطلّ برأسه على الانسانية.
تحدث « بوشكين» فيلسوف اليسار الأخضر الامريكي منذ مطلع التسعينيات عن النظام السياسي الجديد وقال ان المستقبل هو ل» البلدية الديمقراطية الخضراء»، تماما كما تحدّث مفكرون اخرون على انه ليس امام الديمقراطية التمثيلية لحل ازمتها الا أخذ مزيد من جرعات الديمقراطية المباشرة، ومن ذلك مثلا اعتماد مبدإ «التشاركية» الذي قامت بعض الأنظمة الجديدة بدسترته كما هو شأن تونس في دستورها الجديد لسنة 2014، وتعني التشاركية توسيع دائرة القرار ليشمل اكبر قدر من المواطنين.
تونسيا، لسنا بمنأى عن هذا الحراك الذي يهزّ قواعد الديمقراطية التمثيلية، فعلى الرغم من حداثة التجربة الديمقراطية وقصر عمرها، ظهرت على وجه نظامنا الديمقراطي النيابي نفس أعراض الشيخوخة التي ظهرت على وجوه الديمقراطيات العريقة المستقرة، حيث لا يشعر غالبية المواطنين بالثقة ازاء مؤسسات الحكم وفي مقدمتها مجلس نوّاب الشعب، وحيث فقدت النخب السياسية غالبا كل مصداقية، بالاضافة الى غضب عارم من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة، وبدأت تلوح في الأفقِ العديد من الحركات المدنية الشبابية المتطلعة الى تفكيك المنظومة السائدة وإعادة تركيبها على نحو ما يجري في فرنسا وسائر الديمقراطيات العريقة، فمثل هذه التحولات شبيهة بالتكنولوجيا الجديدة التي لم تعد تبطئ لتنقلها من بلد المنشأ الى سائر البلدان الاخرى، مثلما كان الحال مع المنتجات القديمة التي كانت تحتاج مدداً أطول حتّى تعمّم على الانسانية.
ان تجاهل حاجة النظام الديمقراطي النيابي الى مراجعات وتغييرات تستجيب لانتظارات الأجيال الجديدة وخصائصها، قد يفاقم من الأزمة ويجعل حلها مستقبلا مستحيلا او شبه مستحيل، ومن هنا استوجب الوضع تفعيل مبدإ التشاركية المنصوص عليه دستوريا من خلال التوافق على اليات تطبيقية مقنعة، سواء في مستوى مؤسسات الحكم المركزية، او في مستوى مؤسسات الحكم المحلي، ودون هذا التمشي قد نجد أنفسها مجددا في مواجهة احداث قد لا نعرف تطويق تداعياتها وضمان عدم خروجها على الخط العام المعقول والمقبول.