قهوة الأحد: عودة الرحلة إلى عرس السينما العربية والإفريقية ما السر في نجاح أيام قرطاج السينمائية ؟

انطلق البارحة عرس السينما العربية والإفريقية أيام قرطاج السينمائية والتي ستمتد لأسبوع

كامل سنشاهد فيه أهم الانتاجات السينمائية في الجنوب من إفريقيا الى البلدان العربية مرورا بآسيا وبلدان أمريكا اللاتينية . وكما عشناه منذ البدايات ستضيء المدينة وتحتفل بالأفلام وبالسينمائيين والممثلين والمنتجين القادمين من كل بلدان العالم . كما سيمتلئ وسط المدينة وشارع الثورة كما صار الناس يسمونه منذ 14 جانفي وشرارة انطلاق الثورات العربية بآلاف الشباب والعائلات لمشاهدة الأفلام والاحتفال بهذا العرس الضخم .

ولعل السؤال الضخم الذي يطرح نفسه ككل سنة هو أسباب نجاح هذا المهرجان لا فقط على المستوى الجماهيري بل كذلك على المستوى الفني والإبداعي وكذلك مشاركة السينمائيين والمبدعين من كل بلدان الجنوب . وهذا السؤال من الأهمية بمكان فقد صمد هذا المهرجان أمام كل الرياح العاتية والتي حاولت إخماد صوته ليظل منذ انطلاقه سنة 1966 وعلى مدى أكثر من نصف قرن محطة هامة من محطات العمل السينمائي . وقد تمكن هذا المهرجان من مواصلة عمله وإشعاعه بالرغم من ضعف إمكانياته المادية مقارنة بالعديد من المهرجانات الأخرى والتي تملك إمكانيات ضخمة وخيالية مقارنة بأيام قرطاج السينمائية ومع ذلك لم تصمد طويلا .
كما نجح هذا المهرجان في المحافظة على استقلاليته وصمد أمام محاولات تدجينه خاصة في الظروف الصعبة التي مرت بها بلادنا والمحاولات المتواصلة والمتجددة للنظام الاستبدادي لخنق كل الفضاءات الحرة وإخضاعها لهيمنته وسيطرته .

إذن يبقى السؤال مطروحا كيف نجحت الأيام السينمائية لقرطاج في أن تبقى نقطة إشعاع وعلامة مميزة في السينما العالمية بالرغم من ضعف إمكانياتها ومحدوديتها . وكيف بقي هذا المهرجان محافظا على رونقه وعلى علاقة الشغف والحب التي جمعته بالجمهور والمبدعين والسينمائيين لا فقط في دول الجنوب بل كذلك على المستوى العالمي .
سأحاول في هذا المقال إعطاء بعض الإجابات حول هذه التساؤلات الهامة حول هذه التظاهرة الحدث . وفي رأيي فإن نجاح أيام قرطاج السينمائية يكمن في اربعة أسباب أساسية جعلت منها محطة أساسية في الساحة السينمائية العالمية .

المسألة الأولى التي تكمن وراء نجاح واستمرار أيام قرطاج السينمائية كمعلم هام ومحطة أساسية في السينما الدولية تهم هويتها أو الذات التي عمل آباؤها على إعطائها لها . ومنذ بداياتها الأولى في منتصف الستينات فقد عمل المرحوم الطاهر شريعة والتي يعتبر أب هذه الأيام على إعطائها هوية خاصة ومرتبطة بالنفس التحرري لإفريقيا والدول العربية . فقد أتت الأيام بعد انتهاء الهيمنة الاستعمارية في إفريقيا والوطن العربي بسنوات قصيرة . وقد عرفت فترة النضال ضد الهيمنة الاستعمارية التقاء حركات التحرر الوطني في إفريقيا والبلدان العربية وقد جمعتهم في تلك الأيام وحدة النضال وكذلك الالتقاء حول أمل الانعتاق من هيمنة الآخر وبناء الذات في مشروع سياسي وطني ودولة حديثة ومستقلة .وقد تواصل هذا النفس التحرري والحميمية بين أبناء الحركات الوطنية اثر الاستقلال فتم بناء المؤسسات المشتركة كمنظمة الوحدة الإفريقية من اجل تجسيد حلم العيش المشترك على ارض الواقع . ولم يقتصر هذا النفس على المستوى السياسي بل وجد تعبيراته في عديد مجالات العمل الأخرى ومن ضمنها العمل الثقافي حيث انطلقت البلدان الإفريقية والعربية في تنظيم عديد التظاهرات والمهرجانات الضخمة والتي شكلت مجالات هامة لالتقاء الشعوب الإفريقية والاطلاع على مخزونها الثقافي الهام .

وكان انطلاق هذه التظاهرة السينمائية فرصة لجيل الشباب لإعطائها طابعا عربيا وإفريقيا أصبح من أهم مميزاتها واعطاها ليومنا هذا احد عناصر تميزها واختلافها عن التظاهرات الأخرى . ولم تكن المحافظة على هذه الهوية وهذه الذات الخصوصية بالشيء الهين . فقد تعرضت هذه التظاهرة وعلى مدى تاريخها الى محاولات كبيرة للزيغ بها عن هذه الهوية . وقد أثارت هذه المحاولات الكثير من الحساسيات خاصة من قبل السينمائيين القادمين من بلدان جنوب الصحراء في إفريقيا والذين اعتبروا في بعض الأحيان أو بعض الدورات أن هذه التظاهرة لم تعد المنزل المشترك الذي تلتقي فيه أحلامهم وإبداعاتهم مع رفقتهم من الجنوب .

إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح وسرعان ما وجد المهرجان الطريق للمصالحة مع ذاته وهويته ليعود إلى النفس التحرري الذي ميز بداياته وشكل احد أهم أسباب نجاحه . وصارت هذه الهوية إحدى علامات أيام قرطاج السينمائية وتميزها أمام اكبر المهرجانات العالمية الأخرى كمهرجان كان والبندقية ولوكارنوو برلين وغيرها ..
أما السبب الثاني الذي يفسر في رأيي تألق ونجاح المهرجان فيعود إلى انخراطه في مشروع ثقافي وسياسي حملتهما حركات التحرر الوطني ومن بعدها دولة الاستقلال . فقد اختارت الدول المستقلة ومن ضمنها دولة الاستقلال في بلادنا أن تقوم بدعم الاستقلال السياسي ببناء اقتصاد وطني مستقل عن المنظومة الاستعمارية ومشروع ثقافي يسند ويدعم المشروع السياسي الوطني . سيكون المهرجان والسينما التونسية في بلادنا بصفة عامة جزءا هاما من المشروع الثقافي الوطني الذي ستعمل على ارسائه دولة الاستقلال وسينخرط المشروع الثقافي في بلادنا في المشروع السياسي ويعمل على دعم خصوصيته وتفرد التجربة التونسية في الفضاء العربي والإسلامي من خلال تأكيد انخراطها في المشروع الحداثي والعمل على التحرر من الهياكل التقليدية التي كبلت الفرد والمجتمعات لقرون طويلة . وسيبدأ المجتمع والفرد رحلة طويلة في ظل دولة الاستقلال للخروج من قرون الانحطاط والتهميش وبدايات الانخراط في مشروع الحداثة والتحرر . ولن تكون هذه الرحلة بالسهلة . فستشهد فترات تراجع أمام تصاعد التسلط والاستبداد ورفض النظام تمتيع الفرد بالحريات السياسية والاجتماعية ستكون فترة ما بعد الاستقلال فترة صراع حاد ومرير من اجل فتح البرنامج التحديثي لدولة الاستقلال على المكونات الأخرى الأساسية لمشروع الحداثة أي الحرية وحق الاختلاف وحقوق الإنسان .

وستكون الثقافة والسينما بصفة عامة وأيام قرطاج السينمائية جزءا هاما ومكملا لهذا المشروع السياسي وخصوصية تجربتنا التاريخية من خلال فتحنا على تجارب البلدان الأخرى ومساراتها التاريخية من خلال أفلامها . فكان المهرجان نافذتنا على العالم وعلى تجارب الشعوب في الخروج من مجتمعات الأمس والدخول إلى حركة التاريخ .

العامل الثالث والذي يفسر نجاح أيام قرطاج السينمائية وبقاءها كمنارة سينمائية يخص الإنتاج السينمائي وتحوله إلى مخبر لتجارب سينمائية جديدة في بلدان الجنوب . فاكتشفنا من خلال الدورات عديد المخرجين الذين سيصبحون علامات السينما الإفريقية والعربية . فستفتح الأيام أبوابها عريضة للسينمائي صامبان عصمان والذي سيتحصل على أول تانيت ذهبي عن شريطه «سوداء» سنة 1966. كما ستمكننا الايام من اكتشاف أهم التجارب السينمائية العربية كيوسف شاهين والذي تحصل على التانيت الذهبي لدورة 1970 عن شريطه «الاختيار» وتوفيق صالح والذي توج سنة 1972 عن شريطه «المخدوعون» واللبناني برهان علوية والذي فاز بالتانيت في دورة 1974 عن شريطه «كفر قاسم» والتونسيين عبد اللطيف بن عمار المتوج بدورة 1980 عن شريط «عزيزة» والناصر القطاري المتوج عن شريطه «السفراء» سنة 1976 وفريد بوغدير المتوج سنة 1990 بشريط «الحلفاوين» والنوري بوزيد المتوج بشريط «آخر فيلم» سنة 2006 ومفيدة التلاتلي المتوجة سنة 1994 بشريط «صمت القصور».

إذن أصبح المهرجان مخبرا سينمائيا لدول الجنوب يأتيه المخرجون من إفريقيا والبلدان العربية وآسيا وأمريكا اللاتينية لعرض تجاربهم واختياراتهم الفنية والجمالية . وقد ساهمت النقاشات في تطوير هذه التجارب وصقلها وبناء تجربة سينمائية مختلفة عن سرديات السينما العالمية .

العامل الأخير والذي ساهم في نجاح أيام قرطاج السينمائية يهم استقلاليتها عن السلطة السياسية وانحيازها للسينما والفن والإبداع . وقد حافظت الأيام على هذه الاستقلالية حتى في أحلك فترات الاستبداد .وقد جعلت هذه الاستقلالية من الأيام مجالا حرا تتنفس فيه أوساط الشباب والمعارضين لتسلط دولة الاستقلال نسائم الحرية والتعدد .
وقد ساهم هذا الهامش السياسي في نجاح الأيام وفي استقطابها لآلاف الشباب لتصبح الحدث الثقافي الأهم ونافدة على العالم وعلى الحرية .

نجحت أيام قرطاج السينمائية على مدى أكثر من نصف قرن في البقاء التظاهرة الأهم في سينما الجنوب وهذا النجاح هو سينمائي باعتبارها فسحت مجالا لبناء كتابة سينمائية تنطلق من آمال وأحلام أبناء الجنوب في التحرر والانعتاق وهذا النجاح هو كذلك سياسي وهو نتيجة انحياز الأيام لمبادئ الحرية والتعدد والاختلاف .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115