على مصراعيه للحديث عن الأزمة السياسية وسبل الخروج منها .
تعود أسباب هذه الأزمة عند البعض إلى طبيعة النظام السياسي الذي وضعه الدستور واعتماده على رأسين للسلطة التنفيذية في محاولته الابتعاد عن النظام الرئاسوي والذي تحول إلى نظام استبدادي لا يقبل الرأي الآخر . تكمن أسباب هذه الأزمة عند البعض الآخر في النظام الانتخابي والذي لم يمكن من ظهور أغلبية واضحة وقادرة على تطبيق برنامجها الانتخابي مما اضطر الأحزاب إلى اللجوء إلى تحالفات كان لها انعكاس كبير على وتيرة تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى وانجاز البرامج والاختيارات السياسية.
إلى جانب هذه الأزمة التي القت بظلالها على المشهد السياسي في بلادنا فإن الوضع العام يشهد كذلك أزمة اقتصادية خانقة – فالنمو وبالرغم من بعض التحسن بقي ضعيفا ومترددا وغير قادر على إعطاء ديناميكية جديدة لاقتصادنا . كما بقيت المالية العمومية وبالرغم من بعض التحسن في الأشهر الأخيرة في أزمة حادة أمام التطور السريع للمصاريف والنمو المحتشم للمداخيل – كما يجب الإشارة إلى التدهور الكبير الذي عرفه ميزان الدفوعات مع تنامي عجز الميزان التجاري مما جعل مخزوننا من العملة الصعبة ينزل بدرجة كبيرة عن السقف الأدنى للتسعين يوما ويصل إلى حدود سبعين يوما استيراد.كما نضيف لهذه الصورة الاقتصادية الانحدار المتواصل للدينار أمام أهم العملات الأجنبية وبصفة خاصة أمام الاورو والدولار . وقد ساهم تدحرج الدينار مساهمة كبيرة في تطور التضخم ووصوله إلى مستويات مرتفعة مقارنة بالسنوات السابقة .
كما لابد لنا من الإضافة لهذا المشهد الاقتصادي المتأزم تردد المستثمرين مما انعكس سلبا على نمو الاستثمار وتطوره ليكون قاطرة النمو في بلادنا .
إلى جانب الأزمة السياسية والاقتصادية لابد من العودة إلى الجانب الاجتماعي لتكتمل الصورة والقراءة للوضع العام في بلادنا . وهنا لابد من الإشارة إلى بقاء البطالة في مستويات مرتفعة . كما أن بطالة أصحاب الشهادات تشكل معضلة لم نتمكن إلى اليوم من إيجاد الإجابات الضرورية للخروج منها وتجاوزها .
إلى جانب البطالة المرتفعة انضافت في الأشهر الأخيرة عديد القضايا الجديدة / القديمة على الساحة الاجتماعية والتي اذكت قلق الناس وتخوفاتهم من المستقبل .
ومن ضمن هذه القضايا أشير إلى أزمة الدواء وغياب الكثير من الأدوية لأشهر من الصيدليات ليصبح الحصول عليها في بعض الأحيان مستحيلا وقد طرحت هذه الأزمة قضية الحق في الصحة والذي كان من أسس دولة الاستقلال .
نشير في نفس الإطار كذلك إلى أزمة القطاع التربوي – وقد أكدت الأرقام التي قدمها الوزير عمق الأزمة التي يعيشها نظامنا التعليمي وعدم قدرته على الرد على حاجيات اقتصادنا .
كما لا يمكن لنا أن نغض النظر عن قضية الصناديق الاجتماعية التي لم نتقدم طويلا في انجاز الإصلاحات الضرورية لإنقاذها . وهذه الأزمة هي انعكاس لتآكل النظام الاجتماعي وعلاقة التعاون والتكافل بين الأجيال .
هذه المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي تعبيرات عن داء وأزمة شاملة تنخر جميع أوجه الحياة السياسية والاجتماعية كما تؤكد هذه المؤشرات عجزنا عن إيجاد الحلول الضرورية للخروج من هذا الواقع المتردي وفتح آفاق جديدة لتجربتنا التاريخية .
وهذا العجز في بلورة التصورات والرؤى للخروج من هذه الأزمة يعود في رأيي إلى المحاولات الأحادية للخوض في هذه التحديات وغياب رؤية شاملة للتعاطي مع كل الجوانب والتحديات – فقد هيمنت النظرة الأحادية والتقنية في التعاطي مع أزمة شاملة وعامة تهم اغلب أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية . فالعديد من المحللين يؤكدون على الجانب السياسي للأزمة ولا يرون طريقا للخروج منها إلا من خلال تغيير النظام السياسي أو النظام الانتخابي . أما الخبراء والأخصائيون الاقتصاديون فيؤكدون من جهتهم أن انجاز وتحقيق استقرار التوازنات الاقتصادية الكبرى من شانه أن يفتح طريق الخروج من هذه الأزمة . أما الناشطون الاجتماعيون فيؤكدون من جانبهم أن الخروج من هذه الأزمة يمر عبر حل الأزمة الاجتماعية .
إذن تتميز القراءات والتحاليل المختلفة للواقع بهيمنة النظرات الأحادية وغياب القراءة الشاملة والتي تحاول اخذ جميع المؤشرات والمظاهر لترجمتها في برنامج طموح.
وفي رأيي لا يمكن لنا فهم هذه الأزمة ومختلف مؤشراتها ومظاهرها إذا لم نضعها في سياق تاريخي و تحديدا في إطار تطور العقد الاجتماعي لدولة ما بعد الاستقلال أو الدولة الحديثة .
فلقد نجحت دولة الاستقلال في بناء عقد اجتماعي يعتمد على ركيزتين أساسيتين : النظام السياسي والدولة القوية من جهة وتلبية الحاجيات الأساسية وعمل الدولة على تحقيق مبدا تمتع المواطنين بأغلب الحقوق الأساسية كالحق في التعليم والصحة والتنمية والتشغيل والصعود الاجتماعي . وقد لعب هذا العقد دورا أساسيا في دعم مشروعية الدولة الحديثة وهيمنتها على
الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال أكثر من نصف قرن .
إلا أن هذا العقد بلغ حدوده السياسية والاقتصادية والاجتماعية . فالنظام السياسي القوي والدولة القوية لم يعد مواكبا لتطور المجتمع ومطالب الحرية والديمقراطية التي تحملها فئات كبيرة من المواطنين . أما الجانب الاقتصادي لهذا العقد فقد دخل كذلك في أزمة كبيرة وأصبح منوال التنمية الذي اعتمدناه في السبعينات والقائم على التوازن بين السوق الداخلية والسوق الخارجية والتخصص في تصدير المواد والصناعات ذات الكثافة العمالية العالية غير قادر على مواكبة التحولات التكنولوجية والاقتصادية التي عرفها العالم واقتصادنا . أما الجانب الاجتماعي فلقد عرف كذلك الكثير من التراجع . فالطبقات المتوسطة والتي شكلت الركيزة الأساسية للدولة الحديثة عرفت تدهورا كبيرا في مقدرتها الشرائية كما شهدت السنوات الأخيرة تطورا كبيرا في نسب البطالة وبصفة خاصة بطالة أصحاب الشهائد . كما بدأت أزمة الصناديق الاجتماعية في البروز والتطور لتضع مسألة التضامن والتآزر بين الأجيال موضع لا فقط التساؤل بل كذلك موضع التخوفات من المستقبل .
اذن وصل العقد الاجتماعي الموروث من دولة الاستقلال حدوده ودخل في أزمة حادة في بداية هذا القرن . ولم تتمكن الدولة ومنظومة الحكم السائدة من القيام بالإصلاحات اللازمة للخروج من هذه الأزمة وفتح تجربة تاريخية جديدة للدولة وقواعد جديدة للعيش المشترك . وقد فتح هذا العجز للنخب التقليدية ولمنظمة الحكم آفاق التغيير من خارج الأطر الرسمية .
وكانت الثورة في بلادنا وانتفاضات الربيع العربي نتاجا لأزمة الأنظمة العربية ووهنها وعدم قدرتها على فتح آفاق جديدة لتجربتنا التاريخية ولانتفاء الدور التاريخي للحركة الوطنية أمام ظهور وتطور عديد القوى الاجتماعية الجديدة من معارضة سياسية وحركات المجتمع المدني والمنظمات الاجتماعية الكبرى كالحركات النقابية والمنظمات العالمية .لقد فتحت الثورات والحركات الاجتماعية مرحلة جديدة في تاريخنا المعاصر وساهمت في طي صفحة الماضي وفتح فرصة تاريخية للخروج من الأزمة الخانقة للعقد الاجتماعي لدولة الاستقلال وبناء وصياغة عقد اجتماعي جديد منفتح على روح العصر ومواكب لطموحات الأجيال الجديدة في التحرر والانعتاق والإبداع .
وفي رأيي فإننا نتحمل اليوم مسؤولية تاريخية للمساهمة في بناء العقد الاجتماعي الجديد للجمهورية الثانية . هذه المسؤولية هي اليوم ملقاة على عاتق القوى والأحزاب السياسية وحركات المجتمع المدني لبناء عقد اجتماعي جديد يحول الإحباط وانسداد الأفق إلى أمل في الخروج من الأزمة وبناء تجربة تاريخية جديدة . والإجابة عن هذه الأزمة تتطلب الخروج من الحلول الضيقة والإجابات الأحادية لبناء نظرة شاملة تهدف إلى القطع مع السائد وتفسح المجال لتجربة إنسانية جديدة .
سأحاول في هذه المساهمة تقديم بعض العناصر الأساسية لإعادة بناء العقد الاجتماعي للجمهورية الثانية . وفي رأيي لابد لهذه التجربة الجديدة أن ترتكز على جانبين مهمين – الجانب الأول يخص النظام السياسي وضرورة تدعيم تجربة التحول الديمقراطي وبناء المؤسسات القوية والصلبة والقادرة على إدارة النظام السياسي الجديد وتعديل الصراعات بطريقة سلمية ومدنية . الجانب الثاني يهم دور الدولة وضرورة الخروج من الهيمنة التي شكلت السمة الأساسية لبرنامج الحركة الوطنية . وهذا الدور الجديد لا يمكن له أن يقتصر على الوظيفة التعديلية كما يروج له الخطاب الليبرالي . ففي ظل العولمة والتحولات التكنولوجية والاقتصادية الكبرى التي نعيشها لابد للدولة أن يكون لها دور استراتيجي .كما يجب كذلك للدولة أن تلعب دورا هاما في المحافظة على التوازنات الاجتماعية في ظل تصاعد التفاوت الاجتماعي وتزايد الفوارق الطبقية . كذلك يجب أن تساهم الدولة مساهمة فعلية من خلال سياساتها الاجتماعية في إعطاء الفرص وفتح الإمكانيات للأفراد لتحقيق برامجهم ومطامحهم . كذلك لابد للدولة أن تيسر وتساهم في دفع التحول التكنولوجي والمناخي .
إلى جانب هذه الركائز السياسية الجديدة فإن العقد الاجتماعي الجديد للجمهورية الثانية يتطلب منا وضع قواعد أساسية وجملة من الأولويات الإستراتيجية .
في مجال القواعد أريد التأكيد على مسألة محاربة الفساد وبناء النظرة الشمولية للمستقبل وللتنمية وإيجاد ثقافة جديدة تؤكد على النتائج وعلى الانجاز .
أما في ما يخص الأولويات فالعقد الاجتماعي الجديد فلابد له من التركيز على خمس مسائل أساسية - المسألة الأولى تهم بناء برنامج آني يهدف إلى إعادة التوازنات الكبرى للمالية العمومية ولتوازناتنا المالية الخارجية - المسألة الثانية تهم عودة النمو والاستثمار من خلال برنامج طموح للأشغال الكبرى وسياسات فلاحية وصناعية جديدة تهدف إلى الخروج من نمط التنمية القديم وبناء نمط تنمية جديد يرتكز على الصناعات ذات القيمة التكنولوجية . المسألة الثالثة تهم قضية الاندماج الاجتماعي وتكافؤ الفرص وإعادة فتح المصعد الاجتماعي لإعادة الأمل للفئات المهمشة في قدرة الدولة على تلبية مطامحها وأهدافها . المسألة الرابعة تهم التحول التكنولوجي ودعم هذه الثورة بسياسات تساهم في وصول عدد كبير من المواطنين لهذه الابتكارات والاستفادة منها . أما المسألة الخامسة فتهم سياسات التحول في ميدان الطاقة والدخول في الميادين الجديدة في هذا المجال من اجل التقليص من قيمة الطاقة والمساهمة في التخفيف من انعكاسات الانحباس المناخي .
تعرف بلادنا مند سنوات أزمة شاملة وعميقة ساهمت في نمو الإحباط والخوف من المستقبل . وعلى حدة انعكاسات هذه الأزمة على المدى القصير فإنها تفتح نافذة جديدة وتعطينا فرصة تاريخية لإعادة بناء عقد اجتماعي جديد يرتكز على الديمقراطية ويهدف إلى تلبية الحاجيات الجديدة للشباب وفتح باب الأمل أمامهم . ولعل مسؤولية الأحزاب والحركة الديمقراطية تكمن في المساهمة في دفع الحوار حول العقد الاجتماعي الجديد للجمهورية الثانية وفتح تجربة تاريخية جديدة لبلادنا للخروج من أزمة دولة الاستقلال .