ففي ساعة متأخرة من تلك الليلة ومنذ عشر سنوات أعلم هنري بلسن (Henry Paulson) سكريتير الخزانة الأمريكية ريشارد فيلد Richard Fuld الرئيس المدير العام لبنك الليمان براذرز Lehman brothers أن الإدارة الأمريكية قررت عدم التدخل لحماية بنكه من الإفلاس . كان القرار مفاجئا لريشارد فيلد والملقب بالغوريلا نظر لطرقه العنيفة والفجة في بعض الأحيان في تسيير بنك الليمان براذرز والذي يعتبر احد أهم البنوك العالمية في بورصة وال ستريت Wall street.
كان المسؤول الأول عن هذا البنك يعتقد راسخا أن الإدارة الأمريكية لن تدعه يسير إلى الإفلاس وستحاول إنقاذه . وهذه القناعة متأتية من جانبين أساسيين: الأول قراءته للوضعية المالية التي يصفها أغلب الملاحظين والمتابعين للشأن المالي بأن قليلا من الدعم من الإدارة الأمريكية سيمكنه من المرور بهذا البنك العتيد إلى شاطئ السلام .المسألة الثانية والتي رجحت عند المدير العام للبنك فرضية الإنقاذ تخص أهمية بنك الليمان براذرز وحجمه إلى درجة انه أصبح يشكل خطرا هيكليا على النظام البنكي العالمي – وقد اوجد الاقتصاديون والخبراء الماليون مفهوما لتحديد هذه الفئة من المؤسسات المالية والبنكية وهي باللغة الانقليزية «too big to Fail» اي «كبير جدا للإفلاس»
وهذا المفهوم يشير إلى أن عديد البنوك والمؤسسات صار لها حجم كبير على المستوى العالمي إلى درجة أن إفلاسها سيكون له تأثير كارثي على باقي المؤسسات المالية والبنكية وقد تضع النظام المالي العالمي على حافة الإفلاس .
ظهر هذا المفهوم منذ مدة في الدوائر المالية الكبرى ودفع السلط السياسية والمؤسسات المالية إلى التعاطي بكثير من الحذر مع كبرى المؤسسات المالية والبنكية في العالم . وقد رسخ هذا المبدأ قناعة رئيس البنك ليمان براذرز بأن الإدارة الأمريكية وبصفة خاصة الخزانة والبنك الفدرالي لن يتأخروا في دعمه وإعطائه المساعدة الضرورية للخروج من هذه الوضعية الحرجة .
إلا أن تخمينات رئيس البنك لم تكن صائبة . فبعد مفاوضات طويلة ومضنية قررت الإدارة الأمريكية تركه لحاله وعدم تقديم أي مساعدة لهذا البنك أمام غطرسة رئيسه وعدم شعوره بخطورة الوضع. وقد فسر وزير الخزانة Henry Paulson رئيس البنك الفدرالي آنذاك أسباب رفض الإدارة الأمريكية إنقاذ بنك ليمان براذرز بمسألتين هامتين:
المسألة الأولى تهم حجم الخسائر التي تكبدها البنك والتي وصلت حسب أرقام الإدارة الأمريكية حوالي 613 مليار دولار وبالتالي يصعب تغطيتها.
المسألة الثانية تهم قرار الإدارة الأمريكية بتحميل البنوك مسؤولياتها وبالتالي لا يمكن لها تغطية المخاطر والمغامرات التي يقوم بها المضاربون في الأسواق المالية والتي أصبحت بمثابة كازينوهات للقمار والمضاربة .
إذن فشلت محاولات إقناع الإدارة الأمريكية بالوقوف إلى جانب بنك ليمان براذرز. كما فشلت بعض المفاوضات لشراء البنك من قبل بنوك أخرى . ولم يبق في هذه الليلة العصيبة من عشر سنوات مضت إلا الإعلان رسميا عن إفلاس البنك من قبل المحامي . وهو ما قام به في ساعة متأخرة من ليلة 15 سبتمبر 2008.
وسيحدث هذا الإعلان عن إفلاس بنك ليمان براذرز زلزالا كبير على الساحة المالية والبنكية العالمية ليضعها على حافة الانهيار . ففي اليوم الموالي عرفت أهم البورصات العالمية تراجعا لم نعرفه منذ أزمة 1929 لعدة أيام . وستبدأ الحكومات والمؤسسات الدولية سباقا ضد الساعة من اجل انقاذ الرأسمالية المهددة بالسقوط . فإفلاس بنك ليمان براذرز
سيثبت حجم المخاطر التي أخذها المضاربون لتصبح الأسواق المالية عبارة عن كازينوهات للقمار والبحث عن الربح السريع. فأزمة العقار في أمريكا أو subpriMes ستتطور لتصبح أزمة مالية واقتصادية في حجم خطورة أزمة 1929 وقادرة على العصف بأسس النظام الاقتصادي العالمي .
بعد عشر سنوات من هذه الأزمة نود طرح سؤال حول قدرة العالم على وضع حد للمضاربة ومسك جماح العولمة المالية . وهل استطاعت الدول والمؤسسات الدولية الخروج من عالم المضاربة ووضع حد لجشع المضاربين ومغامراتهم في الأسواق المالية .الجواب على هذه الأسئلة ليس بالسهل وقراءة الوضع الحالي للأسواق المالية والاقتصاد العالمي فيه جوانب كبيرة من التباين والاختلاط . يجب الإشارة إلى أن الحكومات والمؤسسات الدولية قامت بضبط إجابات سريعة وطارئة لتفادي تحول هذه الأزمة إلى انهيار للنظام الرأسمالي العالمي ونهايته . وتمحورت هذه الإجابات في جانبين: الجانب الأول هو آني وعملت الدول على إيقاف تدهور المؤسسات المالية العالمية الغارقة في أزمة القطاع العقاري وإفلاسها . وضعت اغلب البلدان الكبرى وخاصة دول مجموعة السبع الكبار والولايات المتحدة الأمريكية برامج إنقاذ ضخمة لمؤسساتها المالية والبنكية الكبرى والتي كانت على حافة الانهيار والإفلاس . وقد رمت هذه السياسات عرض الحائط بمبادئ اقتصاد السوق وتدخلت بصفة مباشرة لحماية المؤسسات المالية الكبرى من بنوك وشركات تأمين من خلال ضخ أموال طائلة في رأسمالها لتمكينها من مجابهة المخاطر الكبرى التي تواجهها وإنقاذها من الغرق .
إلى جانب هذه الحلول الآنية قامت اغلب البلدان المتقدمة بدعم من المؤسسات الدولية بوضع حلول على المدى المتوسط والطويل تهدف إلى تدعيم المراقبة والتدقيق لتحكم سيطرتها على القطاع المالي والبنكي ولتحد من المغامرة الكبيرة التي فرضها المضاربون في الأسواق المالية . وقد فتحت هذه الإصلاحات الكبيرة صفحة جديدة في التاريخ المالي لتضع حدا للجنون الذي ساد الأسواق المالية وشكل ميزة للعولمة المالية منذ بداية تسعينات القرن الماضي إلى حدّ الأزمة المالية – وشكلت قواعد « بازل 3» او «Bales III» جملة القواعد الجديدة والمعايير التي ستقنن عمل البنوك والمؤسسات المالية . وستهدف هذه القواعد إلى فرض مبادئ عمل جديدة هدفها فرض صلابة البنوك والمؤسسات المالية والتقليص من المخاطرة في الميدان المالي . ومن جملة هذه القواعد والمعايير الجديدة يمكن أن نشير إلى فرض مبدإ الفصل بين البنوك التجارية وبنوك الأعمال والاستثمار. كما فرضت القوانين الجديدة على البنوك تدعيم أموالها الذاتية . كما أصبحت مراقبة البنوك المركزية وسلطات الإشراف للبنوك والمؤسسات المالية أكثر دقة وصرامة . كما فرضت
هذه السلط بعض القواعد لتحديد مداخيل المضاربين والعاملين في القطاع المالي لوضع حد للجري وراء الربح ولجشع المضاربين أبطال ما بعد الحداثة وعالم اليوم .وقد ساهمت هذه الإصلاحات خلال العشرية المنقضية في الحدّ من المخاطرة والتقليص من المغامرة في الأسواق المالية . إلا أن الدراسات والمتابعة اليومية للأنشطة المالية أبرزت في الأشهر الأخيرة عودة المضاربة من جديد وبكل قوة ورجوع الجشع في الأسواق المالية وعند المضاربين والتي كانت وراء التخوفات الجديدة على مستقبل الاقتصاد العالمي . فمداخيل المضاربين و الفاعلين في الأسواق المالية عادت لتعرف الارتفاع الجنوني الذي عاشته قبل أزمة 2008. فقد اقتسم المضاربون والفاعلون في الأسواق المالية لوال ستريت Wall street في ربيع هذه السنة ما يقارب 32 مليار دولار اي بمعدل ما يقارب 190.000 دولار لحساب مداخيل 2017 وهو الرقم الأكبر منذ 2006.
لكن المخاوف والقلق بلغ اليوم مستويات مرتفعة أمام عودة الأسواق المالية لسالف تقاليدها ونمو المغامرة وروح المضاربة . وتكمن هذه التخوفات في أربع مسائل ومظاهر هامة تخص الاقتصاد العالمي اليوم .
المسألة الأولى تهم صعود ما يسميه الخبراء بـ «shadaw banking» أو «بنوك ومالية الظل» والتي تضم الصناديق الاستثمارية الكبرى والصناديق المالية السيادية وشركات الاستثمار .
تكمن خطورة هذه المؤسسات في عدم خضوعها لأي مراقبة من قبل سلطات الإشراف والمراقبة . وقد عرفت مالية الظل تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة لتبلغ في نهاية 2016 100.000 مليار دولار . وهذه الأرقام تثير اليوم مخاوف الخبراء والمراقبين لقدرتها على وضع الاقتصاد العالمي في وضعيات حرجة وإيقاعه في أزمات كبرى كالتي عرفناها منذ عشر سنوات .
المسألة الثانية التي تؤرق المراقبين والخبراء تخص التعقيد المتزايد للعمليات المالية وغياب الشفافية مما يجعل عمل المراقبين صعبا وعويصا . الى جانب هذه المخاوف ذات الطابع المالي لابد من الإشارة إلى تخوفات أخرى في المجال الاقتصادي. وهنا لابد من الإشارة إلى مسالتين هامتين . المسألة الأولى تخص المديونية العالمية والتي وصلت إلى أرقام قياسية حيث تشير أرقام المؤسسات العالمية أنها بلغت في منتصف سنة 2017 قرابة 170.000 مليار دولار .ويمكن لهذه الطفرة المالية للمديونية أن تنفلت لتهدد استقرار الاقتصاد العالمي وتضعه من جديد على حافة الانفجار . كما تثير وضعية البلدان الصاعدة والأزمات المالية التي تمر بها كتركيا والأرجنتين والبرازيل وإفريقيا الجنوبية الكثير من التخوفات لقدرتها على إحداث هزات كبيرة للاقتصاد العالمي .في النهاية يبدو الاقتصاد العالمي بعد عشر سنوات على إفلاس بنك ليمان براذرز والأزمة المالية العالمية مشوبا بالكثير من التخوفات والشك والتردد .فالإصلاحات الكبرى التي تم وضعها في السنوات الأخيرة ولئن نجحت بعض الشيء في إيقاف نزيف الأزمة المالية لسنة 2008 إلا إنها لم تنجح في إيقاف جشع المغامرة والمضاربة في الأسواق المالية العالمية مما يجعلنا نتوقع أزمات جديدة أكثر قوة من الأزمات التي عرفناها في السابق إن لم ننجح في وضع حد لهذه الانحرافات والمخاطر .