وفتح المعرض أبوابه للجمهور صباح السبت 7 افريل2018 ليكون قبلة الشباب والعائلات والمدارس والمعاهد من داخل الجمهورية التي نظمت رحلات لتلاميذها من اجل زيارة المعرض والاطلاع على آخر الإصدارات .
والحقيقة ومنذ تولي الجامعي والروائي شكري المبخوت إدارة المعرض منذ الدورة السابقة فقد عرفت هذه التظاهرة الهامة تطورا كبيرا على عديد المستويات. المستوى الأول يهم اختيار الكتب فقد عرفنا منذ سنوات تزايد عدد الكتب السلفية والمتطرفة التي تروج لفهم مغلق وبعيد كل البعد عن قرائتنا الوسطية لديننا الحنيف. وقد تزايد هذا الكم الهائل من هذه النوعية من الكتب ودور النشر المشرقية ليصبح هذا الموضوع الشغل الشاغل لا فقط لإدارة المعرض والمشرفين عليه بل إشكالا سياسيا لمختلف الحكومات والتي انخرطت منذ سنوات في محاربة الخطر الارهابي إلا أنها ليست قادرة على إيقاف الكتب الدعائية لهذه الأخطار.
ومنذ الدورة الفائتة يبدو أن المشرفين على المعرض قد توصلوا إلى إيجاد الحلول الكفيلة ومع احترام حرية التعبير في وضع نظام دقيق وجدي في اختيار الكتب ومنع المعادية لقيم التفتح والحرية والديمقراطية
المسالة الثانية والتي نجح المعرض في انجازها وهي تحويل هذه التظاهرة من العرض الباهت للكتب وما يعقبها من عمليات بيع وشراء الى عرس فكري وحدث ثقافي بالدرجة الاولى فتم استدعاء عديد المفكرين العرب والعالميين والتونسيين للحديث حول المواضيع الفكرية الهامة. ولئن كانت هذه المحاضرات والندوات الفكرية تمر مر الكرام في السابق فلقد نجحت في تكوين جمهورنا وجلب عديد الزوار لتشكل حدثا ثقافيا ذا قيمة وليصير شعار المعرض «نقرا لنعيش مرتين» واقعا وليس مجرد شعار ذهني.
إلى جانب أهميته الفكرية والثقافية فإن لمعرض الكتاب أهمية أخرى وهي دفع حركة النشر في بلادنا فترى اغلب دور النشر والكتاب تسرع في عملها وخطاها من اجل تقديم الجديد من الكتاب والدراسات والروايات وإثراء المكتبة التونسية والحركة الفكرية في بلادنا.
وفي هذه التخمة الكبيرة من الكتب الصادرة بمناسبة المعرض نجد العديد من الإصدارات الهامة والتي ستساهم ولاشك في إثراء ممارساتنا الفكرية والثقافية. ومن هذه المنشورات الهامة أريد التوقف في هذا المقال على دراسة هامة وأساسية في رأيي بعنوان «الحالة الدينية في تونس 2011 - 2015» وهذا الكتاب مؤلف ضخم يتكون من أربعة أجزاء ويتجاوز كل جزء منه 400 صفحة وقد اعد هذه الدراسة التأسيسية للحالة الدينية في بلادنا مجموعة من الباحثين المرموقين تحت إشراف ثلاثة من كبار أساتذتنا الجامعيين وهم احميدة النيفر ومنير السعيداني ونادر الحمامي وهذا العمل هو نتيجة تعاون بين مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وهي جمعية موجودة في عديد الدول العربية كالمغرب ولبنان وهدفها لاسهام الفاعل في تطوير وتحضير مجال الدراسات والبحوث الدينية والإنسانية القائمة على أسس انسانية وعقلانية وعلمية وباشتراك مع جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية الحديثة العهد في بلادنا والتي تهدف إلى إعادة قراءة الموروث الحضاري والفكري والاجتماعي والبحث عن امتداداته في الواقع الراهن واستشراف مالآته.
أريد الإشارة إلى أن فكرة إعداد التقارير حول الحالة الدينية ليست بالجديدة في منطقتنا. فقد سبق مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والذي اعتبره أهم مركز دراسات في المنطقة العربية من حيث أهمية وكم العمل البحثي الذي يقوم به بإعداد تقارير دينية سنوية تحد إشراف الباحث نبيل عبد الفتاح وهو كذلك أهم الباحثين الشبان في المسالة الدينية. وقد اطلعت على بعض الأعداد من هذا التقرير خلال زياراتي للأصدقاء في المركز وقد انبهرت بالقيمة الفكرية والبحثية لهذا التقرير والذي للأسف لم يقع ترويجه في البلدان العربية وبقي سجين المكتبة المصرية أو بعض الترجمات إلى بعض اللغات الأجنبية كالانقليزية والفرنسية.
ويأتي المؤلف الهام الذي بين أيدينا اليوم في نفس المنحى والخيار وهو الخروج بالمسألة الدينية من الخيار الإيديولوجي والعقائدي الذي يصاحبها منذ عقود والتحول بها إلى المنحى التحليلي والبحثي والذي يستند إلى أدوات عمل ومناهج علمية واضحة.
وقد نجح هذا المشروع في رأيي على مستويين مهمين المستوى الأول منهجي ويخص استعمال ولأول مرة منهجية جديدة في دراسة الحالة الدينية في بلادنا فرغم العمل الهام والدراسات والقراءات الجديدة التي قدمها عديد المفكرين في بلادنا حول الحالة الدينية فقد بقيت تتبع مناهج بحثية تقليدية .
وتكمن أهمية هذه الدراسة في إتباعها منهجية بحثية علمية تقطع مع المناهج السائدة في هذا المجال واعتمادها على آخر التطورات في هذا الميدان .ومن بين الابتكارات المنجهية التي ادخلها هذا التقرير يمكن أن نشير إلى تنوع الفريق البحثي من حيث سن مكونيه وجنسهم. واختصاصاتهم التي شملت عديد المجالات في العلوم الإنسانية ومواقعهم البحثية بوجود باحثين اكادميين وغير اكادميين وانتمائهم إلى مؤسسات جامعية مختلفة وكذلك مشارب فكرية وسياسية مختلفة وهذا التنوع في رأيي ليس فقط جديدا على هذا المجال بل كذلك مهما لأنه يفتح مجالا كبيرا لإثراء هذا العمل البحثي بفضل الآراء المختلفة التي جلبها الباحثون.
الجانب الثاني في المستوى المنهجي يكمن في الاعتماد على التحليل والابتعاد عن القراءات الإيديولوجية أو العقائدية والسياسية وفي رأيي هذا الاختيار هام وأساسي ويقطع كذلك مع الاختيارات السائدة في هذا المجال والتي تهيمن عليها المسائل العقائدية- إذن اختار الفريق البحثي الجانب التحليلي وقرر كذلك تحديد منهجية بحثية دقيقة وجب على كل المساهمين والباحثين في هذا المشروع اتباعها بكل دقة ولا تقتصر هذه المنهجية على أدوات البحث والدراسة بل تهم كل جوانب الحلقة البحثية الى حد الكتابة النهائية للمساهمات .
الجانب الثالث للتجديد في المنهجية البحثية يخص اختيار الخروج من المكاتب المغلقة واعتماد العمل الميداني في قراءة الحالة الدينية وفي هذا الإطار قامت مجموعة البحث بإجراء مسح وطني من خلال إجراء مقابلات مع عينة ممثلة متكونة من 1800 شخص للحصول على مواقفها ورؤاها حول المسالة الدينية – وقد أثار التقرير عديد الصعوبات التي تعرض لها الفريق البحثي ومن ضمنها رفض عديد المستجوبين الإدلاء بآرائهم (%38 من العينة ) نظرا للظرف السياسية التي عرفتها بلادنا في تلك الفترة مع تصاعد العمليات الإرهابية.
إلى جانب هذا التجديد المنهجي الذي قامت به المجموعة البحثية فإن أهمية هذا التقرير وهذه الدراسة تكمن في النتائج التي توصلت إليها – وهذه النتائج تكمن في الوقوف على التطورات التي عرفتها الساحة الدينية التي عرفتها بلادنا في سنوات الثورة .
ولعل أهم نتيجة هي التحولات التي عرفها المشهد الديني وخروج المعتقد من الفضاء الخاص في فترة الاستبداد والقمع ودخوله بقوة إلى الفضاء العام ويمكن لنا أن نجد هذه التحولات في خمسة مستويات.
المستوى الأول يهم الجانب المؤسساتي للحالة الدينية حيث اهتم التقرير بعديد المؤسسات الفاعلة في هذا المجال ومنها وزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى والمساجد والجوامع أو ما سماه التقرير بالمؤسسة المسجدية وقد وضع التقرير الإصبع في هذا المجال على حالة الانشطار والنزاع غير المسبوق حول هذه المؤسسات وبصفة خاصة المؤسسة المسجدية والتي بدت «منشطرة على نفسها في خضم عملية مفاوضة تاريخية اجتماعية عسيرة والتي اعتبرها التقرير وجها من عسر الانتقال من إدارة سلطوية تسلطية وقمعية المؤسسة المسجدية في ما قبل 14 جانفي 2011 إلى إدارة حرة وديمقراطية وتشاركية».
أما الجانب الثاني الذي تعرض له التقرير فيخص المستوى التربوي والعلمي والإعلامي وهنا يوضح التقرير انه رغم محاولة السياسة التربوية التونسية التوفيق بين الاحتكام إلى الإسلام السني المالكي وفلسفة الأنوار والحداثة إلا أن الجانب الإيديولوجي بقي مهيمنا وبقيت محاولات إخضاع الحالة الدينية للمنهج العلمي التحليلي « ضعيفة في الحجم والوتيرة والعمق والانتشار».
وفي هذا المجال يعطي التقرير اهتماما خاصا لدور الشبكات الاجتماعية والدور الذي لعبته في إرباك المؤسسات الرسمية وهيمنة الخطاب التكفيري بعد الثورة .
الجانب الثالث يهم المستوى القانوني اين يرصد التقرير أهم التحولات القانونية التي عرفتها النصوص القانونية المنظمة للحالة الدينية في بلادنا وما فرضته من تفكير على الطبقة السياسية وعلى المجتمع المدني بل على كامل المجتمع التونسي على اختلاف ميولاته التحررية.
الجانب الرابع الذي تولاه هذا التقرير بالدراسة والتحليل يخص المستوى السياسي والاجتماعي ليقف على ما أحدثته الثورة التونسية من خلط للأوراق وفتح باب لاكتساح قوى إسلامية مختلفة التعبيرات ولاسيما المتشددة والمحافظة « يشير إلى تواصل التجاذبات حول الدين وانتقالها من مجال القوانين والمبادئ الدستورية إلى مجال تكريسها في الحياة اليومية .
المستوى الخامس يخص التنوع المذهبي ليشير التقرير إلى بروز عدد كبير من المذاهب في بلادنا اثر الثورة ويرصد تطوراتها وتحولاتها من ضمنها المذهب الحانفي وجماعية التبليغ والحركات الصوفية والاباضية والتيارات السلفية وحركات التشيع.
هذه بسرعة بعض الملاحظات حول هذا المشروع البحثي الضخم الذي قامت بانجازه مجموعة من ابرز الباحثين حول الحالة الدينية وبأدوات منهجية جديدة وقد تمكن هذا التقرير من رصد التحولات الكبرى التي تشهدها الحالة الدينية في بلادنا اثر الثورة وانتهاء الاستبداد وخروج الجانب الديني من الفضاء الخاص واقتحامه بكل قوة الفضاء العام .
وبالرغم من أهمية هذا العمل فانه لابد لنا من الإشارة إلى هنتين هامتين طبعتا هذا التقرير الهام – الأولى تخص الجانب اللغوي واللجوء في بعض الأحيان إلى نوع من اللغة الخشبية لا تساعد على فهم النص وأعطت مثالا على ذلك ما ورد في الصفحة 41 «التحديث والتتريث صنوا ترميق مهجن : مخرجات التفاوض التداولي تلك مرتهنة بالسياقات التاريخية الاجتماعية المخصوصة».
المسألة الثانية تخص المحتوى وقد بقيت في رأيي النتائج البحثية لهذا العمل الهام ينقصها الوضوح لتبقى الاستنتاجات معومة – ربما يكون هذا الاختيار من جانب الفريق قصديا لتجنب الدخول في جدل حول هذه المسائل الحساسة – إلا أن غياب الجرأة في تحديد الاستنتاج والنتائج كان له تأثير سلبي على هذا العمل البحثي .
وهنا نشير إلى أن الهدف من اي عمل بحثي يبقى لقاء جمهور القراء العريض وليس إبقاءه في رفوف المكتبات ومن شروط هذا اللقاء هو الوضوح على مستوى الشكل باستعمال لغة سهلة وبسط النتائج بشيء من الجرأة والوضوح .
بالرغم من هذه الهنات فإن هذا العمل البحثي يعتبر هاما ويفتح مجالا جديدا للدراسات الدينية ولرصد تحولات المشهد الديني – ويؤسس هذا العمل لمرحلة جديدة في تراث نقدي هام تحمله وتدافع عنه المؤسسة الفكرية التونسية منذ سنوات في التعاطي مع الحالة الدينية .