سجال: احتيال على الصدق في نقل الأحداث

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي
عالم الاجتماع
هناك أسباب متعددة تجعل الأفراد عاجزين عن نقل الأحداث بطريقة صحيحة تتطابق مع واقع الأحداث ويعود فقدان الصدق

في نقل الأحداث إلى عوامل في شخصية الفرد أو في محيطه الاجتماعي أو فيهما معا. انتقد ابن خلدون بشدة المؤرخين العرب والمسلمين الذين ينقلون الأخبار التاريخية التي لا تتطابق مع طبيعة واقع الأحداث. ومن ثم، توصل إلى أهمية ما سماه قانون المطابقة الذي «يميز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه».
أود استعمال قانون المطابقة الخلدوني في تقييمي المختصر لما نقله السيد شيحة قحة عن محاضرتي ونشرته جريدة المغرب في 4 و5/ 01/ 2018.

1 -يتحدث السيد قحة في بداية مقاله بعنوان «حديث الأنا» فيصفني هكذا «هو قصير القامة...». وهو وصف غير صحيح بالكامل يتعارض في الصميم مع قانون المطابقة. وبالتالي تصدق عليه كثيرا الآية القرآنية: «إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور». ويمكن إرجاع هذا القول الباطل حول قصر قامة المحاضر إلى عاملين: أ- موقف الذم الذي تحتضنه شخصية السيد قحة إزاء المحاضر لأن قصر القامة أمر مذموم في المجتمع التونسي وغيره و ب- لعل السيد قحة يشكو من خلل أو إعاقة حتى في رؤية الأشياء المادية كما هي.

2 - بناء على ما ورد في 1 من قصور في الرؤية البصرية، فإن تشويه مقال السيد شيحة قحة للفحوى وللمواضيع الفكرية للمحاضرة نفسها هو أسوء بكثير. وكيف لا، وهو لم يذكر الموضوع الرئيسي الذي ركزت عليه المحاضرة والمتمثل في شروط وجود العلاقة السليمة بين الناس ولغاتهم ومنه علاقة التونسيات والتونسيين باللغة العربية، لغتهم الوطنية. فلم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى العناصر الرئيسية التي يجب حضورها لكي يقيم الناس علاقة سليمة مع لغتهم. وهذا ملخص لما لم ينقل منه السيد شيحة قحة شيئا لقراء جريدة «المغرب».

ميثاق العلاقة الطبيعية مع اللغة
إن أي نقاش حول تردي وضع اللغة العربية في المجتمع التونسي يكون دون فائدة كبيرة ما لم يوضع في إطار فكري واقعي وصحيح يستند إلى أبجدية ما نسميه هنا «إقامة علاقة طبيعية/ سليمة» مع اللغة الأم أو اللغة الوطنية ألا وهي اللغة العربية. تلك العلاقة هي العمود الفقري الذي يضمن سلامة وضع اللغات في مجتمعاتها في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد. وبعبارة أخرى، فهذه العلاقة ينبغي أن تكون القاعدة الكبرى الثابتة والراسخة في حياة الأفراد والمجتمعات ودساتيرها وأعرافها الثقافية وقوانينها. فبدون الالتزام الكامل ببنود ميثاق إقامة العلاقة الطبيعية/ السليمة مع لغاتها، تفشل المجتمعات في الشرق والغرب في المحافظة عليها. فالنقاش حول حماية اللغة العربية والذي يثار من حين لآخر في المجتمع التونسي ينبغي أن يستفيد مما نسميه هنا بنود الميثاق اللغوي. فما هي يا ترى تلك البنود؟

اللغة والعلاقة الطبيعية معها
نطرح هنا نظريتنا اللغوية التي ترتكز على أبجديات بسيطة لإقامة الناس لعلاقة طبيعية أو سليمة مع لغاتهم. نستعمل في هذه المحاضرة كلمتيْ طبيعية وسليمة كنعتين مترادفين. نعتقد أن أبجديات منهجيتنا تتضمن معالم جديدة في الطرح تسهل الحكم بشفافية وبساطة على وجود أو فقدان علاقة سليمة للناس والمجتمعات مع لغاتهم. تؤكد وتقول هذه الأبجديات إن العلاقة الطبيعية بين الناس ولغاتهم تتمثل في ثلاثة معالم تندرج في ما يسميه العلماء القوانين الطبيعية. يتمثل سلوك التناسق والانتظام الطبيعيين في التعامل الطبيعي مع لغة الأم أو الوطنية في سلوكيات الناس اللغوية التالية :

1 - استعمالهم لها شفويا وفي الكتابة في كل شؤون الناس الشخصية والاجتماعية.

2 - من المسلّمات أن استعمال اللغة بطريقة سليمة يتطلب معرفتها الوافية والمتمثلة في معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحوية والصرفية وغيرها لاستعمالها بطريقة صحيحة في الحديث والكتابة.

3 - تنشأ عن هذه العلاقة الطبيعية التفاعلية مع اللغة ما نسميها «العلاقة الحميمة» مع تلك اللغة والتي تتجلى أساسا في المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلمها الأفراد في مجتمعاتهم.
وبناء على تلك المعالم يسهل التعرّف على نوعية العلاقة التي يمارسها الناس مع لغاتهم. فالذين يلبون بالكامل تلك المعالم الثلاثة مع لغاتهم هم قوم يتمتعون بعلاقة طبيعية أو سليمة معها. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة حسب مدى تلبيتهم لأي عدد من المعالم الثلاثة في التعامل مع لغاتهم الأمر الذي يؤدي إلى إعاقة ما للغات. تسمح لنا بسهولة المعطيات المذكورة بتشخيص حال اللغة العربية الفصحى والدارجة العربية النقية في المجتمع التونسي وذلك ببيان درجات فقدان العلاقة السليمة مع الفصحى والدارجة بين المواطنات والمواطنين التونسيين اليوم.

أبجدية العلاقة الحميمة مع اللغة
يساعد منظور علم اجتماع المعرفة على فهم العلاقة الحميمة التي تربط الناس باللغة إنْ هم استعملوها هي فقط بالكامل شفويا وكتابة (1) في كل شؤون حياتهم الفردية والجماعية منذ الطفولة وعرفوا مفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية وغيرها (2). يجوز القول بكل بساطة إن تلك العلاقة الحميمة (3) مع لغة الأم أو اللغة الوطنية هي نتيجة لعملية التفاعل/الاستعمال المكثف معها ولها الذي يُنتظر أن ينشئ مثل تلك العلاقة النفسية القوية التي تخلق علاقة وثيقة ومتينة ، أي حميمة مع اللغة. كل ذلك هو حصيلة لتنشئة لغوية اجتماعية طبيعية منذ الصغر تقتصر على استعمال لغة الأم أو الوطنية على المستويين الشفوي والكتابي ووفقا لمفرداتها وقواعدها النحوية والصرفية الصحيحة في كل شؤون الحياة الفردية والجماعية في المجتمعات. يمكن صياغة مقولة أطروحتنا النظرية بخصوص العلاقة مع اللغة في معادلتين شبه حسابيتين: 1 - الالتزام الكامل بالمعالم (3+2+1 )= علاقة سليمة مع اللغة و2- الالتزام الجزئي أو عدم الالتزام الكامل بالمعالم (3+2+1) = علاقة غير سليمة كثيرا أو قليلا أو ما بينهما مع اللغة.تمثل المعادلتان دليلا يشخص بسهولة علاقة الناس بلغاتهم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115