تؤكد على الأزمة العالمية وخاصة على نهاية مرحلة الحداثة المنتصرة والتي أكدت على قدرة الإنسان على تغيير الواقع وفتح آفاق جديدة للتجربة الإنسانية. وواقع العجز والإحباط الذي عشناه في السنوات الأخيرة ليس وليد اللحظة بل هو نتاج صيرورة تاريخية وتراكم عديد الانكسارات والهزائم التي زعزعت الإيمان في نظريات الحداثة وخاصة في قدرة الإنسان
على وضع حركة التاريخ على طريق التقدم وبناء المجتمعات المتطورة والمدينة الفاضلة.
فعرف العالم على الأقل في العشرية الماضية العديد من الأزمات السياسية والحروب .وكان لنا نحن العرب نصيب الأسد من هذه المآسي والكوارث.فاثر حروب الخليج المتعددة والتي ساهمت في أزمة الدولة الوطنية والمشروع القومي العربي عرفنا ثورات الربيع العربي التي فتحت أمل الخروج من عالم الاستبداد والدكتاتورية. إلا أن هذا الحلم والأمل سرعان ما تحول إلى كابوس قاتل مع اندلاع مآسي وأهوال الحروب في سوريا واليمن وليبيا.
وقد فتحت هذه الحروب مآسي الهجرة والهروب للمواطنين العاديين من ساحات الوغى إلى أماكن أكثر أمنا كلفهم ذلك ما كلفهم .فعشنا مآسي هؤلاء المهاجرين والأخطار التي واجهوها للهروب من أهوال الحروب.
كما عرفنا في هذه الأيام بروز غول الإرهاب والحالمين بالعودة بالقوة إلى نقاء عالم الأمس.فتعددت العمليات الإرهابية لينفلت معها مخزون العنف الكامن في الإنسان ولنعيش معه أحلك الأيام.وسيساهم هذا العنف الأعمى في فقدان الثقة في الإنسان وفي تنامي الشك في قدرته على بناء عالم آخر وتحرير الإنسان.
لم يقتصر الشك في الإنسان على الجوانب السياسية بل شمل كذلك عديد الجوانب الأخرى لعل أهمها المسائل الاقتصادية والاجتماعية فمنذ الازمة المالية العالمية للسنوات 2008 و2009 لم يتمكن الاقتصاد العالمي من إيجاد عافيته والديناميكية التي ميزت حركته منذ سنوات .فالنمو بقي هشا بالرغم من كل البرامج وسياسات الدفع التي طبقتها عديد البلدان .وكان من نتائج تراجع النمو تطور كبير للبطالة والأزمات الاجتماعية التي عرفناها منذ سنوات.إلا أن التأثير الأهم كان فقدان الثقة في قدرة النظام الرأسمالي على الخروج من الأزمة المالية الخانقة ووضع العولمة في صالح النمو وخدمة مصالح الناس وتلبية حاجياتهم.
هذه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة في السنوات الأخيرة ساهمت في فقدان الثقة في البرنامج الحداثي وقدرة الإنسان على تغيير واقعه نحو الأفضل .خلق هذا الوضع الكثير من الإحباط وخلق جوا من السوداوية وغياب الأمل وانسداد الأفاق.وسهل هذا الوضع وساهم في أزمة القوى السياسية التقليدية وتراجعها وصعود القوى الشعبوية والتي جعلت من رفض الآخر والانغلاق على النفس جوابا وبديلا لازمة المجتمعات الديمقراطية.
إلا انه وبعد سنوات من السوداوية وغياب الأمل وانسداد الآفاق عرفنا منذ أشهر تطورا مهما.فقد عادت الدراسات والمفكرون في استنباط الحلول للخروج من الأزمة التي يعيشها المشروع الإنساني منذ سنوات .وقد ساهمت هذه الأعمال في تغيير النظرة العامة وواقع النقاش العام الذي بدأ يتجاوز بطريقة تدريجية واقع العجز والأزمة الذي عرفه منذ سنوات ليفتح مجالات البحث والتفكير حول عالم جديد وتجربة سياسية متجددة.
ومن ضمن هذه الدراسات نريد التوقف اليوم عند كتاب أثار الكثير من الاهتمام منذ أشهر على المستوى العالمي.هذا الكتاب هو بعنوان
«Utopies réalistes» أو «طوباويات واقعية» والصادر في ترجمته الفرنسية منذ أيام عن دار النشر الباريسية seuil.وهذا المؤلف هو للكاتب والصحفي الهولندي Rutger Bregman الذي اصدر أربعة كتب حول الاقتصاد والفلسفة .وقد أثار كتابه الأخير الكثير من الاهتمام على المستوى العالمي لتقع ترجمته إلى 17 لغة وليتصدر قائمة اكبر المبيعات في عديد البلدان.
وينطلق الكاتب في بداية كتابه في نقد الجو السوداوي وواقع الشك الذي يهيمن في المجتمع الدولي إلى درجة فقدان الأمل في قدرة الإنسان على الفعل وعلى تغيير الواقع.فيعود الكاتب ليشير إلى التطورات الكبرى التي عرفتها الإنسانية خلال القرنين الماضيين .فقد تمكنا من تحسين معدل حياة الفرد بطريقة راديكالية لتصل إلى مستويات لم نكن نحلم بها في السابق.كما تمكنت الإنسانية من خلال التطور العلمي من القضاء على عديد الأمراض والتحكم في عديد الظواهر الطبيعية.كما حققنا تقدما كبيرا في محاربة الفقر والحرمان .ولم تقتصر هذه التطورات الايجابية على البلدان المتقدمة بل دخلت البلدان النامية كذلك هذا المسار التاريخي لتعرف هي الأخرى مجتمع الرفاه والازدهار الاقتصادي والاجتماعي وهذه العودة إلى التاريخ جاءت لتؤكد أن مسيرة الإنسان لم تكن عدمية كما يشير اليه بعض الفلاسفة والكتاب بل عرفت صيرورة تاريخية تصاعدية مكنت الإنسانية من تحسين ظروف معيشتها وبناء الثقة في المشروع الإنساني وتجربته السياسية.
وهذه النظرة التاريخية كانت ضرورية أكد فيها الكاتب أن حالة الإحباط والعجز التي تعيشها التجربة الإنسانية ليست جديدة بل عرفناها في عديد الفترات التاريخية أين سعت عديد القوى السياسية والتيارات الفلسفية الى تقويض الحلم الانساني ولم تنج التجربة الانسانية في هذه المراحل ولم تستعد روحها الإبداعية إلا بالعودة للحلم والأفكار الطوباوية والتي قد تبدو بعيدة المنال إلا أنها مكنت التجربة الإنسانية من العودة إلى طريق الحلم والتغيير وبناء المستقبل.
وككل التجارب السابقة يرى الكاتب أن طريق الخلاص من واقع العجز والإحباط السائد لن يكون إلا بالعودة والانغماس في عالم الأحلام والأفكار الطوباوية الرحب .
إلا أن الكاتب يشير إلى أن هذه العودة يجب أن تأخذ العبرة من التجارب السابقة ومن فشل المشاريع الطوباوية الكبرى والراديكالية كالشيوعية والفاشية والتي أدت إلى الحروب والأهوال والمآسي.
ولئن يرى الكاتب أهمية وضرورة العودة إلى هذه الأفكار والأحلام فانه يؤكد على ضرورة الابتعاد عن المشاريع المطلقة والتوجه نحو المشاريع الطوباوية الواقعية والتي تمكن من تحسين واقع الإنسان وتخرجهم من حالة اليأس والإحباط وتعيد ثقتهم في أهمية التجربة الإنسانية.
وفي رأيي هنا تكمن أهمية هذا المؤلف وقيمة هذا الكتاب في طرقه لعديد المحاور والأفكار للخروج من أزمة المشروع السياسي والتجربة الإنسانية التي نمر بها اليوم.لا يمكنني في هذا المقال تقديم كل الآراء التي اقترحها المؤلف إلا أننا سنركز على نقطتين مهمتين:
المسألة الأولى تخص فكرة الدخل الأساسي المضمون لكل المواطنين للخروج من واقع الفقر وتمكينهم من القيام بمشاريع جديدة.والكاتب هو من المدافعين الشرسين عن هذه الفكرة ويعود في هذا الكتاب من خلال عديد الأمثلة إلى تفنيد الانتقادات التي وجهها العديد إلى المقترح.ولعل أهم نقد أشار إليه البعض هو أن توزيع الدخل الأساسي ستكون له انعكاسات سلبية على المتمتعين به وعلى مساهمتهم المجتمعية .فهذا الدخل الأساسي المضمون سيزيد من روح الاتكال عندهم والكسل ورفض العمل.إلا أن الكاتب سينقد بشدة هذه الفكرة ليشير من خلال العديد من التجارب إلى أن الدخل الأساسي المضمون ساهم مساهمة كبيرة في تحسين مساهمة الفقراء في عملية الإنتاج ومكنهم من اخذ الوقت لبناء مشاريع ساهمت في تطوير أوضاعهم الذاتية ومشاريعهم المجتمعية.
المسألة الثانية التي أردت التوقف عندها والتي أشار اليها الكاتب والتي دافع عنها بكل قوة تخص تقليص عدد ساعات العمل.وقد كانت هذه المسألة في لب النقاش السياسي منذ سنوات واخذت بعض البلدان مثل فرنسا خطوات في اتجاه تقليص ساعات العمل .إلا أنه وقع التراجع عن هذه الخطوات للرجوع إلى السياسات التقليدية.ويعود الكاتب من جديد للدفاع عن هذه الفكرة والتأكيد أن الخروج من الأزمة الاجتماعية يتطلب القيام بخطوات شجاعة في هذا المجال.
لقي هذا الكتاب نجاحا عالميا منقطع النظير منذ صدور نسخته الهولندية منذ أشهر.وهذا النجاح راجع في رأيي إلى مسالتين – المسألة الأولى تهم جملة الأفكار الواقعية التي طرحها للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي نمرّ بها – والثانية تهم نفور الناس ورفضهم لواقع العجز والإحباط الذي نعرفه وبحثهم عن أفكار وآراء تعطي دفعا جديدا للمشروع الإنساني وتجربة تغيير الواقع إلى الأفضل والتي تبقى في جوهر تجربتنا السياسية.