قهوة الأحد: XIII وجوه من الإبداع: كوثر بن هنية : سينما حوار الذات مع الآخر

لا تزال بلادنا والساحة الثقافية تعيش على أصداء الدورة 28 لمهرجان قرطاج والتي انتهت منذ أيام والتي عرفت كعادة كل الدورات السابقة إقبالا منقطع النظير من الجمهور ليصبح شارع الحبيب بورقيبة وقاعات السينما عرسا يلتقي فيه كل التونسيين لضرب موعد مع الحلم والأمل.وبدون انتظار ضربت السينما موعدا جديدا مع الجهور العريض مع خروج فيلم

«على كف عفريت» لكوثر بن هنية في القاعات ويشكل هذا الفيلم حدثا ثقافيا بامتياز منذ ايام فقد جرّ جمهورا عريضا من الناس لمشاهدته وتمكن بالتالي من مواصلة ربيع السينما التونسية بعد انتهاء الأيام السينمائية لقرطاج وبهذا النجاح الجماهيري الكبير والذي تجاوز كل التوقعات أسباب عديدة من أهمها أن فيلم «على كف عفريت» يتعرض لحادثة اغتصاب سنة 2012 والتي تعرضت لها طالبة على يد شرطيين أثارت اهتمام الناس لتصبح قضية رأي عام.

السبب الثاني والذي يفسر هذا الإقبال الكبير على القاعات لمشاهدة «على كف عفريت» هو مخرجته كوثر بن هنية والتي نجحت من خلال فيلمين «الشلاط» وزينب لا تحب الثلج» إلى أن تصبح صوتا جديدا ومجددا لا فقط في السينما التونسية بل كذلك على المستوى العالمي. فأفلام كوثر بن هنية أصبحت أعمالا تسعى إلى جلبها أهم المهرجانات العالمية ككان ولوكارنو وبرلين وغيرها.

لهذه الأسباب قررت تخصيص مقال لكوثر بن هنية في جملة المقالات التي اهتم فيها بتقديم وجوه الإبداع في بلادنا والتي ساهمت في بناء المشروع الثقافي في بلادنا الذي دعم المشروع السياسي وأعطاه التفرد والخصوصية اللذين  تميزانه عن كافة المشاريع الأخرى في العالم العربي والإسلامي .

قررت لقاء كوثر اثر مشاهدة «على كف عفريت» والحق يقال تلكأت كثيرا قبل مشاهدة هذا الفيلم لسببين – السبب الأول ان رفض الاعتداء على المرأة يكاد يكون جينيا وبالتالي ارفض حتى مشاهدة الأعمال أو الأشرطة التي تتعرض لهذه الاعتداءات- والسبب الثاني أني أردت البقاء على تقييمي الايجابي لأعمال كوثر بن هنية وخاصة شريط «زينب لا تحب الثلج» فقد كنت شديد الاقتناع أن المخرجة مهما بلغت طاقتها الإبداعية فانه لا يمكنها أن تتجاوز هذا العمل وتقدم عملا أكثر حساسية وإبداعا – إلا أني اثر مشاهدة «على كف عفريت» أدركت أنني اخطأت فقد بهرني هذا الشريط وكانت حساسية كوثر بن هنية والإمكانات الإبداعية الكامنة عندها محل لا فقط إعجاب بل كذلك تساؤل وقلق وحيرة.فمن أين تأتيها كل هذه الحساسية ؟ ومن اين تنبع كل هذه الطاقة الإبداعية عند هذه البنت الهادئة ؟ من أين يولد هذا الزخم الفني والثورة الإبداعية عند هذه الشابة الساكنة ؟

حملت هذه التساؤلات ورحت للقاء كوثر بن هنية والتي تشكل ظاهرة فنية بذاتها.وهي تنضاف لجملة الفنانين والمبدعين الذين أنجبتهم الثورة باعتبارها أعطتهم هذا الهامش من الحرية الذي يحتاجونه للتعبير عن جملة الأحاسيس الدفينة التي تختلج في نفوسهم لمساءلة الذات ونبش المسكوت عنه في مجتمعاتنا وهم بذلك يشكلون تواصلا مع جيل المؤسسين.
ولكن قبل الخوض في جوهر وكنه العملية الإبداعية قررنا مع كوثر بن هنية الرجوع إلى البدايات والتي تنطلق في الصبا في مدينة سيدي بوزيد.وتعود الذاكرة بكوثر إلى يوم اكتشاف المكتبة العمومية والتي ستكون نقطة انطلاق في علاقة العشق التي تجمعها منذ سنوات الطفولة بالحكايات .قضت هناك يومها ساعات طويلة تائهة في هذا العالم الغريب بين هذا الكم الهائل من القصص والحكايات ضاربة عرض الحائط بحيرة الوالدة من هذا الغياب .

ثم سياتي دور السينما واكتشافه عن طريق ابن الجيران الذي دعاها إلى مصاحبته إلى قاعة سينما المدينة في مقر البلدية.ورفضت الام السماح لبنت الست سنوات آنذاك بالذهاب إلى السينما فلاذت بالبكاء طول اليوم وعند عودة الوالد مسح وجهها وأخذها للسينما لتنام مع بداية الفيلم.

ومنذ البداية لم يكن حلمها القيام بأفلام والدخول إلى ميدان السينما بل كان هدفها كتابة الحكايات وصياغتها في روايات جميلة تحظى بإعجاب الناس.وهذا الاهتمام بالقصص والحكايات هو كذلك نتيجة تأثير الوالد محسن بن هنية الكاتب الروائي العصامي.وسيكون أول فيلم محترف لكوثر بن هنية سنة 2005 عن قصة لوالدها بعنوان «أنا وأختي والشيء».
وستكتشف كوثر بن هنية السينما أكثر عند اشتراء آلة فيديو لتدمن على الأفلام الهندية والبوليوود.وكانت تحكي هذه الأفلام كاملة إلى أصدقائها في المدرسة لتصبح محط أنظار أصدقائها .ثم ستكون أول الأحاسيس والاختلاجات مع السينما عند مشاهدة شريط» Carrie» للمخرج Brian de palma عن قصة للكاتب Stephen King .وقد تأثرت كوثر بن هنية شديد التأثر بهذا الشريط لان حكاية بطلة الفيلم كانت تشبه الى حد كبير مسارها.ثم عبر هذا الشريط اكتشفت أن السينما لا تصور فقط عالما خياليا بل يمكن كذلك ان تغوص في الواقع وتنبش في تناقضاته.

وستبتعد كوثر بن هنية عن هذا العالم عند انتقالها الى تونس العاصمة اثر حصولها على الباكالوريا.وسيمكنها نجاحها الدراسي من التوجه إلى إحدى أهم المدارس العليا المختصة في الدراسات التجارية (IHEC) والذي سيجعل منها إحدى نساءات الأعمال الناجحة في بلادنا وتدفن بالتالي نهائيا حلم الإبداع والفن.
إلا أن هذا العالم الجديد لم يكن ليرضي هذه البنت المفتونة بالحلم والإبداع .وبقيت تبحث عن مجال تعيد فيه اكتشاف هذا العالم للساحرة عالم الحكايات والآمال والأحلام فاكتشفت جامعة السينمائيين الهواة عن طريقة حصة في الراديو لتلتحق بأحد نوادي هذه الجامعة ولتتأكد مما كان يختلج في داخلها منذ سنوات أن عالمها هو عالم الفن والإبداع والسينما وليس عالم التجارة والمال والأعمال.

وأتمت دراستها بنجاح في ميدان التجارة نزولا عند رغبة العائلة وبقي السؤال المحيّر :كيف يمكن الدخول إلى ميدان السينما ؟ لم تكن لنا مدارس سينمائية عمومية في بداية التسعينات في بلادنا والمدرسة الوحيدة الموجودة هي مدرسة الفنون والسينما (EDAC) لصاحبتها الفنانة سهام بلخوجة إلا أن معاليم الدخول إلى هاته المدرسة والمدارس الخاصة الأخرى كانت مرتفعة.

فأخذت كوثر بن هنية شجاعتها بين يديها وذهبت إلى مقابلة سهام بلخوجة وطلبت منها إعطاءها إمكانية متابعة دروس المدرسة بدون مقابل.فقبلت سهام بلخوجة شريطة أن تقوم بشيء من الدعاية المدرسية لما تصير مشهورة.
اثر هذه التجربة ستواصل كوثر بن هنية تخصصها في ميدان السينما في احد اهم المعاهد العالمية وهو معهد FEMIS في باريس في دورتين : الأولى في دورة تكوينية صيفية ثم خاصة في كتابة السيناريو لتتخصص في هذا المجال .وستتأكد هذه القناعة بعد تصوير شريطها الاول «انا واختي والشيء» سنة 2005 لتكتشف صعوبة مهنة الإخراج.

ثم اثر نهاية هذه التجارب التكوينية ستبدا رحلة البحث عن العمل.وستكون أولى تجاربها مع قناة الجزيرة الوثائقية والتي كانت في بداياتها والتي ستقترح عليها مشاهدة واختيار الأفلام الوثائقية .فقضت سنة كاملة في قطر شاهدت فيها الاف الأعمال الوثائقية ونمت فيها ثقافتها في هذا المجال.إلا أن هذه التجربة ستنتهي عندما طلبت منها القناة المرور إلى مجال رقابة الأفلام الوثائقية.فتركت الجزيرة لرفضها وهي الحالمة بالعمل في مجال الإخراج والإبداع السينمائي أن تكون أداة رقابة.

وستعود اثر هذه التجربة إلى باريس لتبدأ العمل على شريط وثائقي هام بعنوان «الأئمة يذهبون إلى المدرسة» سنة 2008 وموضوع هذا الفيلم كان متابعة خلال سنة لمجموعة من الأئمة طلبت وزارة الداخلية الفرنسية من جامع باريس تكوينهم إلى جانب قضايا الفقه والشريعة في مجالات العلمانية والمواطنة .وكانت الدروس تصير في المعهد الكاثوليكي وقد خلقت هذه التناقضات بعض المواقف الفكاهية وقد لقي هذا الشريط نجاحا كبيرا.

ثم ستبدأ كوثر بن هنية في إعداد فيلم «شلاط تونس» وستلتقي في نفس السنة 2010 بالمنتج حبيب عطية والذي سيصاحبها في مسارها الفني.وستبدأ تصوير هذا الفيلم بطريقة سرية لتفتح لها الثورة مجالا كبيرا والكثير من الحرية في تصوير هذا الشريط.وسيكون لهذا الفيلم تأثير كبير في مسيرة كوثر بن هنية إذ سيصالحها مع الفيلم الروائي وسيمكنها من دخوله من خانة الكتابة الوثائقية .وسيقع اختيار هذا الفيلم في إحدى الأقسام الموازية لمهرجان كان سنة 2014.

وفي الأثناء قامت كوثر بن هنية بإخراج «يد اللوح» فيلم روائي قصير ستحصل به على التانيت الذهبي للأفلام القصيرة لأيام قرطاج السينمائية في دورة 2014.
وبدأت مخرجتنا في تصوير شريطها «زينب لا تحب الثلج» منذ 2009 لتنتهي من التصوير سنة 2015 وليتم عرض الفيلم في مهرجان لوكارنو ثم ليفوز بالتانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي لسنة 2016.

وكانت كوثر بن هنية انتهت من تصوير «على كف عفريت» سنة 2016 عن حادثة اغتصاب طالبة من رجلي أمن والتي هزت البلاد سنة 2012.وقد تحصل هذا الفيلم على دعم وزارة الثقافة .وقد لقي هذا الفيلم ترحيبا كبيرا من عديد المهرجانات العالمية.فتم الاعتذار لمهرجان برلين ليتم عرضه في قسم «نظرة ما» في مهرجان كان السينمائي وهي من أكثر الأقسام أهمية بعد المسابقة الرسمية .ثم تم عرض هذا الشريط في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورة 2017.ومنذ خروجه الى القاعات اثر المهرجان صار شريط «على كف عفريت» حديث القاصي والداني وجلب اهتمام الجمهور العريض ليصبح الظاهرة الفنية الأبرز.
هذه بسرعة أهم مراحل هذه المسيرة الإبداعية الغزيرة في سنوات قصيرة .ولا تزيد هذه الانتاجات وزخم هذه الإبداعات من حدة التساؤل والقلق عن مكمن هذه الحساسية والشاعرية التي تحملها أعمال كوثر بن هنية .

وعدت اسأل كوثر بن هنية عن هذا المخزون الإبداعي وتجربتها في الكتابة وفي صياغة هذا الحوار بينها وبين الآخر.وتقول المخرجة أن لها مخزونا من الحكايات وأفكار تتغذى وتكبر في ذهنها كالشجرة.وتبدأ الكتابة عندما تستأذن هذه الحكايات للخروج.
ومخزون الحكايات عند كوثر بن هنية يتغذى من كل ما يدور حولها من الشارع من الأدب من السينما العالمية ومن السينما التونسية وحتى من بعض التعاليق التي قد تبدو سخيفة للوهلة الأولى في الشبكات الاجتماعية فالحياة اليومية تغذي مخيال المخرجة وأحلامها ومخزون إبداعها.

وتشبه كوثر بن هنية علاقاتها بحكاياتها كالأمومة.فالحكاية التي تحملها تصبح كائنا حيا يطرح على المبدعة الكثير من الأسئلة والتحديات لتبدأ الحوار مع هذا الكائن والتي ستساهم في تشكل ملامحه.ويظل هذا الحوار متواصلا في كل مراحل صناعة الفيلم حتى يتم بعثه إلى الوجود كي يراه الناس وليصبح كائنا مستقلا بذاته.
ولعل من أهم جوانب هذه العلاقة العشقية بين المبدعة والأثر الفني انه يعطيها الفرصة لدخول الآخر والغوص في ذاتها وبناء هذا النبش والحوار بين الذات والآخر في كل تمظهراته ومسك تموجاته وانفعالاته .

قضيت بعض الوقت مع كوثر بن هنية محاولا تفكيك وفهم هذا التناقض الصارخ بين هدوئها وسكونها الخارجي والصخب والزخم الإبداعي الذي يتموج في داخلها ويؤذن في كل مرة بأثر فني جديد.

حاولت في هذه المقالة تقديم بعض التفسيرات لفهم هذه المعادلة العصية على القراءة ولئن سيتواصل الحديث والنقاش حول تميز أيقونة السينما الجديدة في بلادنا وتجربتها فاني اعتقد أن هذه التجربة تتميز بثلاث خصائص أساسية ستكون وراء ثورة سينمائية جديدة تقودها كوثر بن هنية إلى جانب جيل الشباب من السينمائيين.الخاصية الأولى هي العلاقة الحسية والعشقية التي تجعهم بشخصياتهم ومواضيعهم وأفلامهم والتي تختلف عن العلاقة السياسية التي كانت في جوهر أعمال الأوائل.

وتكون هذه العلاقة شاعرية تنطلق من محيطنا التونسي والعربي لتطرح قضايا ذات بعد أنساني .الخاصية الثانية تهم أهمية الحكاية ومحاولة كوثر بن هنية وجيلها من السينمائيين بناء حكاية تشد الجمهور إلى آخر لحظة.فالأفكار والآراء ليست لوحدها الهامة كما مع جيل الأوائل بل أصبح للحكاية دورها وأهميتها في العملية الإبداعية ثم وخاصة ما يميز كوثر بن هنية هو هوسها للوقوف وراء الكاميرا ليصبح التصوير عندها إكسير الحياة.فبين الفيلم والفيلم تكون قد بدأت فيلما جديدا.

هذه بعض الأفكار والآراء عن كوثر بن هنية إيقونة السينما الجديدة في بلادنا والتي تنبئ بغزارة إنتاجها وصخب إبداعها بربيع سينمائي جديد قد يكون أكثر إشراقا من الربيع السياسي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115