كوبا: الخلق، الإبداع والتحدي في ظل الحصار

بقلم: رضا التليلي
كنت أتمنى من الطبقة السياسية، والشعب التونسي عامة، أن يكون لديهم فكرة (ولو محدودة) عن تاريخ كوبا وشعبها الذي عاش خمسا وخمسين سنة تحت الحصار الأمريكي والدولي. كوبا هذه الجزيرة الفقيرة المتواجدة في الكراييب والتي عاشت ثورة متميزة، وخلفت رموزا في تراث الخيال الثوري مثال غيفارا وغيره..

كوبا عاشت تحت الحصار التام، إذ عملت الولايات المتحدة على تجويع هذا الشعب ليثور ضد السلطة الماركسية والحزب الشيوعي الكوبي. لم يتم ذلك رغم كل السيناريوهات التي اعدت لهذا الغرض بل بالعكس دعم هذا الحصار الحزب الشيوعي الكوبي وجعله يقدم نفسه بوصفه الضحية التاريخية للامبريالية والاستعمار.

دخلت كوبا أقصى مرحلة في الفقر بعد انهيار جدار برلين، وتأهل الشعب إلى بناء ثقافة الفقر والتحدي بعدما اغلقت كل الأبواب على اقتصاد الدولة وعلى شعبها . فمن زار كوبا بعد سقوط جدار برلين قد لاحظ كيف توصل خيال الشعب الكوبي إلى إنتاج كل شيء من لا شيء. ففي كل بيت وكل حي نجد الكوبيين قادرين على صنع كل ما يحتاجون إليه بطرق ابداعية تشبه إلى حد بعيد السحر والمعجزة. فأنتج الشعب الكوبي الكهرباء المحلي دون أن يحتاج إلى أي مساعدات خارجية، وأبدع في صناعة البنزين وكل أنواع قطاع غيار السيارات بمختلف أشكالها وأنواعها، وواصل يغني ويحتفل بجمال تراثه الثقافي. كما واصل الدراسة والبحث في كل الميادين؛ وتم تخريج عديد الدفعات من الأطباء، ونجح في تكوين المهندسين والموسييقيين والرياضيين وغيرهم. ورغم تردي الوضع السياسي من خلال التسلط وقمع الحريات، تمكن الشباب الكوبي من صنع ما يشبه الحاسوب (وهي آلة عجيبة مستمدة من التراث المادي الكوبي، وقادرة على القيام بالأدوار الأساسية للحاسوب)، وتلخص هذه الآلة قدرة الشعب الكوبي على التحدي والاعتماد على الذات.

كيف يمكن أن ننسى أو نتناسى هذه المعجزة التاريخية في ظل خمس وخمسين سنة (ومازال متواصل) من الحصار الاقتصادي والسياسي عن طريق ضغوطات الولايات المتحدة الامريكية ومحاولة تغيير السلطة السياسية، والقيام بمحاولات انقلابية متكررة؟ كيف ننسى تدخلات الكنيسة، والحركات اليمينية في أمريكا اللاتينية، بصفة مباشرة وغير مباشرة والتشكيك في الحقوق المدنية للمرأة؟ هذه الحركات اليمينية المتطرفة والعسكرية التي تقاوم الحركات الشيوعية و الحركات الاشتراكية؟ كيف ننسى ونتناسى صمت أوروبا (الديمقراطية) المخجل ومساهمتها في هذا الحصار بشكل غير مباشر؟ وقد تنكرت أغلب الحركات الشيوعية والاشتراكية لمساندة الشعب الكوبي في هذه البلدان؟

وأتذكر حين كنت أعود من كوبا رفقة دانيال ميتران (زوجة فرنسوا ميتران) وهي آنذاك رئيسة جمعية مساندة الشعب الكوبي. حيث يتم إفراغ قاعة الوصول في المطار، ولا يوجد أي ممثل إعلامي أو صحفي يهتم بنقل شهادة ميتران حول الخناق الذي يلف رقبة الشعب الكوبي. حتى تبقى هذه المبادرة شبه شخصية، ويبقى نشاطها مهمشا وغير معروف لدى الرأي العام الفرنسي. بالطبع لا يوجد في الاستقبال أي ممثل رسمي من الحكومة الفرنسية. وغيرها من الأمثلة الأخرى التي تبين هشاشة الدبلوماسية الاوروبية في هذا المجال وتبرؤها من مساندة الشعب الكوبي.

ورغم هذا الحصار فإن كوبا تحتل المرتبة الثالثة في سياسة التمدرس قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتحتل أعلى نسبة أطباء مقارنة بعدد سكانها، وهي من بين الدول المصدرة للأدوية (تصدر كل أدوية التلقيح). وواصلت كوبا تصدرها المراتب الأولى في تصدير أجمل حفلات الباليه... فكيف تمكن الشعب من البقاء والاستمرار؟ كيف تمكن من مواصلة الخلق والابداع في عدة ميادين؟ هل أن الشعب الكوبي شعب مختار يختلف جينيا عن بقية الشعوب العربية مثلا؟ فقد ظلت الحكومات العربية تستأنس بفكرة عودة الاستعمار والعيش في ظل الامبرياليات والدول العظمى، والتي تعتبرها مظلة أبدية لإبقاء الوضع على ماهو عليه. كيف يمكن أن تقرأ الطبقة السياسية التونسية اليوم التجربة الكوبية؟ وكيف يمكن الاستفادة منها في

ظل الوضع الاقتصادي الراهن؟

ولعلنا نجد سر نجاح التجربة الكوبية، في ما يتعلمه الأطفال في المدرسة حيث أن التلاميذ والتلميذات يتلقين تكوينا مدرسيا قائما على جملة من القيم والمبادئ التي تتمحور حول الاعتماد على الذات والتحدي ومقاومة الاستعمار وقيم التضامن بين أبناء الشعب الكوبي، واعتبار الفقر ليس عارا أو مذلة، وليس عائقا أمام الابداع والتميز. بينما القيم التي أصبحت فاعلة في تونس، أن النضال «مقاولة» و«مساومة» حول التعويض المالي، وما أدراك ما التعويض.إذ أننا إلى حد الآن ليس لدينا معلومات كافية حول من استفاد من التعويض بصفة مباشرة وغير مباشرة، والمقاييس التي اعتمدت في هذا المجال. هذه القيم التي أبدع فيها العديد من رجال السياسة في تونس والتي تتاجر بالمبادئ. إذ أنه ليس مستغربا أن نرى يوما ما (إن بقي الفكر السياسي في تونس على ما هو عليه) المبادئ والقيم تباع في البورصة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115