وجوه من الإبداع (3): نجا المهداوي عاشق الحرف

نواصل في هذه المجموعة من المقالات الاهتمام بوجوه محورية في حقل الفنون والإبداع في بلادنا والتي ساهمت مساهمة كبيرة في نحت مقومات الشخصية التونسية وتفردها في محيطنا العربي والإسلامي – وقد اخترت شخصيات وفنانين لعبوا في رأيي دورا مهما ومركزيا في بناء المشروع الثقافي التونسي .

وبعد السينما والمسرح في المقالين السابقين نمر اليوم إلى الفن التشكيلي في هذا المقال للحديث واستعراض تجربة أحد أهم فنانينا المعاصرين والذي يحظى بأكبر اعتراف على المستوى العالمي هو الفنان نجا المهداوي.

لكن قبل الحديث عن نجا المهداوي دعونا نعود بسرعة إلى تاريخ الفن التشكيلي في بلادنا لنتمكن من فهم المساهمة الهامة التي قدمها هذا الفنان في بناء مدرسة جديدة وفي الثورة على مدرسة تونس التقليدية والتي سيطرت على الفنون الجميلة في بلادنا منذ بداية خمسينات القرن الماضي إلى نهاية الستينات.

وتاريخ الفنون التشكيلية موغل في القدم في بلادنا على خلاف عديد البلدان العربية والإسلامية والتي منعت التصوير والرسم.فقد كان لبلادنا تقليد تاريخي هام في الرسم على الزجاج بقي إلى يومنا هذا – وسيعرف ميدان الفنون الجميلة تطورا هامّا مع البايات الذي ادخلوا الفنون التشكيلية إلى بلادنا لتقليد البلاطات الأوروبية فكان أن استدعوا عديد الرسامين الكلاسيكيين الأوروبيين لرسم صور شخصية للبايات وأعضاء العائلة الحاكمة والعائلات الميسورة.كما ساهم المعمرون والعائلات الفرنسية في تطور الفنون الجميلة في بلادنا وخاصة منحاها الاستشرافي وقد تدعمت هذه الحركية الفنية بخلق الصالون الفني كما هو الشأن في باريس لعرض أعمال الرسامين في بلادنا – كما وقع كذلك في هذه الفترة خلق أكاديمية قرطاج للفنون الجميلة ثم مدرسة تونس للفنون الجميلة.وكان الاتجاه الاستشرافي غالبا في أعمال الفنانين في تلك الفترة وفي مناهج وبرامج التدريس في هذه المعاهد.

إلا أن بداية الخمسينات ستعرف تغييرا كبير مع ظهور مدرسة تونس أو Ecole Tunis والتي ستدخل تغييرات كبيرة في طرق الرسم وكذلك في المواضيع التي سيتم تناولها عند الفنانين وستحاول هذه المدرسة ترك الرسم التقليدي وخلق حركة تشكيلية وفنية تونسية.وتتكون هذه المدرسة من عديد الفنانين المعروفين اذكر منهم القرجي وعمار فرحات والهادي وزبير ويحي التركي وجلال بن عبد الله وعلي بالاغة وغيرهم.

وستختار هذه المدرسة مواضيع من الحياة اليومية وصورا شخصية (Portraits) أما من ناحية الرسم فستبتعد عن الواقعية لترسم هذه المناظر في لوحات وأعمال فيها الكثير من الذاتية وتفتح مجالا كبيرا لمشاعرهم وأحاسيسهم .

وستعرف هذه المدرسة تطورا كبيرا مع دولة الاستقلال وستحمل شعار تونسة الفن التشكيلي وستهيمن على الساحة الفنية من خلال تحملها وتفردها في كل مجالات العمل وبصفة خاصة مدرسة الفن التشكيلي وكل المؤسسات الأخرى المهتمة بالفن والرسم.وسيساهم التمويل العمومي في تطور هذه المدرسة وسيلعب هؤلاء الفنانون دورا كبيرا في تزويق كل المؤسسات العمومية والوزارات والنزل والبنوك.كما أن الشراءات العمومية للأعمال الفنية ستساعد هذه المدرسة في بسط نفوذها وهيمنتها على الساحة التشكيلية في بلادنا.

إذن تميزت ملامح الساحة الفنية في بلادنا إلى بداية الستينات بهيمنة هذه المدرسة بدعم من المؤسسات الجديدة لدولة الاستقلال وبفضل التمويل العمومي ولم تفسح هذه الهيمنة مجالا لبروز أجيال جديدة من الفنانين والخارجين عن هذا التيار التقليدي.

إلا أن هذه الهيمنة وتهميش الأجيال الجديدة سيكونان وراء تشكيلية منذ منتصف الستينات ستواجه مدرسة تونس ورموزها وستعرف الساحة الفنية في بلادنا معركة ضروس بين الجيل الأول وجيل الشباب.وسيكون نجا المهداوي احد فرسان هذه الثورة الفنية وهذه المعركة ضد القديم.وسيكون احد رواد التجديد والتحديث في المشهد التشكيلي في بلادنا.

وستنطلق هذه الثورة مع مجموعة الستة المتكونة من الهادي التركي ونجيب بلخوجة والصادق قمش ولطيف الارناؤوط .وستلتحق بهم مجموعة أخرى من الفنانين منهم نجا المهداوي ورفيق الكامل وقويدر التريكي وعادل مقديش وعلي الزنايدي وخالد بن سليمان وستنتقد هذه المجموعة هيمنة فناني مدرسة تونس على المؤسسات الفنية الرسمية.كما سيقطع هذا الجيل الجديد من الشباب مع المؤسسين على مستوى العملية الفنية من خلال الخروج من الواقعية ودخول عالم التجريد.وسيكون هذا التمشي الفني في كنف الثورة التشكيلية التي ستعيشها بلادنا في منتصف الستينات.

وقد انغمس الفنان نجا المهداوي في هذه الثورة الفنية بكل جوارحه وإحساسه.ويتحدث عنها الى اليوم بكثير من الحنين والحب.ويشير في حديثه أن هذه الطفرة والثورة الإبداعية لم تقتصر على الفن التشكيلي والتمرد على مجموعة مدينة تونس التقليدية بل كانت ثورة ثقافية شاملة بعد التقاء مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين الجدد والذي سيلعبون دورا كبيرا في بناء المشروع الثقافي التونسي والذي سينحت معالم وخصوصية التجربة التاريخية والحضارية في بلادنا .

وسنجد في هذه المجموعة إلى جانب الرسامين العديد من المثقفين والفنانين الطليعيين نذكر منهم صالح القرمادي وتوفيق بكار وسمير العيادي ورجاء فرحات وعزالدين المدني ومحمد عزيزة وغيرهم.وفي خضم هذا التلاطم من الأفكار والإبداعات سيكون شعار هذا الجيل الطليعي الجديد هو رفع الحدود عن مجالات الإبداع الثقافي والانخراط في مشروع جديد للفن الشامل بعيدا عن التقوقع الذي تعرفه الفنون التقليدية.

سينخرط نجا المهداوي بكل أحاسيسه في هذه الفترة وهذا الخضم من التجارب الفكرية ومن الإبداعات وستكون لهذه الفترة ولزخمها المعرفي والفني تأثير كبير على التجربة الفنية لنجا المهداوي ولينخرط منذ تلك اللحظة في مخاض التجديد والتحديث ليصير أحد أهم رواد الفن العربي المعاصر.

لكن قبل الخوض في مشروع نجا المهداوي الفني دعونا نعود لحظة إلى المسارات الأولى أو البدايات فنجا ابن العاصمة درس الفنون في أحد أهم المدارس العالمية وهي أكاديمية الفنون Santa Andréas في روما.ثم واصل تعليمه في مدرسة اللوفر الشهيرة ومروره عبر مركز الدراسات الشرقية في مدرسة الكوفي سيدفعه إلى الاهتمام أكثر بالثقافة الإسلامية وسيواصل هذا التعلم والاهتمام في اسطنبول وفي المدارس والمؤسسات التركية.

واثر نهاية مرحلة التعلم ستبدأ مرحلة من الإنتاج والإبداع ستمكن نجا المهداوي من أن يصبح في مرحلة قصيرة احد أهم رواد الفن العربي المعاصر.وقد تمت دعوته كضيف شرف إلى اكبر المعارض الدولية في كل أصقاع العالم كايطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والمغرب وكوبا واليابان والإمارات والسعودية وغيرها كثير.كما تحصل على عديد الجوائز العالمية لعل أهمها الجائزة الكبرى لمنظمة اليونسكو سنة 2005.كما اقتنت أهم متاحف العالم لوحاته.اذكر من بين هذه المتاحف البريتش ميوز يوم بلندن ومعهد العالم العربي في باريس وعديد المتاحف الأخرى بواشنطن وكوالامبور بماليزيا وطوكيو واشن في ألمانيا وبغداد وعمان وغيرها كثير من المتاحف .

إذن أصبح ابن تونس وبعد تجربة فنية هامة احد رواد وحاملي لواء التجديد في الفن العربي المعاصر وفي رأيي فان سر هذا النجاح يكمن في علاقة العشق التي بناها نجا المهداوي على مر تجربته مع الحرف العربي ولتجديده لأحد أهم مجالات الإبداع في الفن العربي .

وعندما يحدثك نجا المهداوي عن الحرف العربي تغمره كثير من النشوة والهيام وفي حديثنا عدنا إلى البدايات والى اللقاء الأول مع الحبيب – نقطة الانطلاق ستكون مع زيارته لمعرض سنة 1967 لرسامين صينيين وكوريين يدور حول الحرف في تلك اللغات ومحاولة الخروج من الجانب اللغوي المحدود لسبر أغواره الجمالية وحتى الروحانية.

وسيشكل هذا المعرض وهذه التجربة نقطة لتجربة فنية جديدة لنجا المهداوي فسينطلق في دراسة الحرف العربي واهم مدارس الخط العربي وكذلك خصوصية اللغة العربية.وهذه الدراسة ستمكن نجا المهداوي من الانطلاق في تجربة فنية رائدة ستقوم في رأيي على جانبين أساسيين – الجانب الأول هو فني ويسعى في تقديري إلى الخروج من الحرف واللغة للولوج لعالم الإحساس والفن.فعلى خلاف الخطاطين فان العمل الفني لنجا المهداوي تعزز من اللغة والمفردات ليصبح الحرف فنا وإبداعا وجمالا.

الجانب الثاني والأساسي في تجربة نجا المهداوي والذي يفسر الاهتمام الكبير الذي حضيت به يخص علاقة الحرف بالذات.فقد عمل نجا في عمله الفني على الاعتماد على الحرف للخروج من التجارب الفنية التي تنحصر في تقليد الآخر وتحمل على إعادة إنتاج السائد إلا أن علاقة نجا بالحرف ستكون مدخلا لإنتاج تجربة ذاتية متفردة ليصبح لهذه العلاقة جانب روحي ووجداني هام.فهذا الرجل والغرام بالحرف سيمكن الفنان من تأكيد الذات وإعادة اكتشافها وتأكيد الجانب الجمالي الذي تحمله لتصبح العلاقة مع الذات روحانية.إلا أن هذه العلاقة لا تعني نفي الآخر بل بالعكس تسعى لفتح نوافذ اخذ وعطاء وتواصل معه.ويؤكد نجا انه بدون فتح هذه الأبواب سيكون الانتحار والتقوقع مآل لا فقط إبداعنا بل كذلك مشروعنا السياسي والفكري وستعرف هذه العلاقة الذاتية والروحانية مع الحرف أهمية اكبر مع تزايد العولمة وعملها على نفي كل الخصوصيات من اجل فرض هيمنة الثقافة الواحدة والإبداع الواحد .

هذه اضاءات بسيطة حول تجربة فنية رائدة جعلت من ابن تونس نجا المهداوي أحد أهم رواد الفن العربي المعاصر.وهذه التجربة وإن كانت وليدة الخضم الفكري والثورة الفنية التي عرفتها بلادنا في منتصف الستينات والتي ساهمت في نحت المشروع التاريخي والسياسي في بلادنا فان هذه الخصوصية وهذا التفرد في علاقة العشق بين نجا المهداوي والحرف كانت كذلك نافذتنا على العالم وقارب نجاتنا من هيمنة الآخر في مرحلة العولمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115