قهوة الأحد: الوجهة إلى إفريقيا

بعد سنوات طويلة من البعد والجفاء وحتى الرفض يعود الاهتمام في بلادنا بالبعد الإفريقي في شخصيتنا وتكويننا.فبدأت المؤسسات الصناعية والحكومات المتتالية بعد الثورة إلى جانب مؤسسات المجتمع

المدني والمنظمات الجماهيرية وحتى المواطنين العاديين في الاهتمام بالقارة الإفريقية والتوجه إليها .

وعودة الروح إلى علاقاتنا مع القارة الإفريقية هو إحياء وعودة إلى تاريخ كبير من العلاقات المشتركة تعود إلى قرون غابرة – وهذه العلاقات التاريخية عرفت تداخل الثقافي بالاقتصادي والتجاري والمعرفي والديني لتمكّن شعوبنا جنوب الصحراء وشمالها من بناء مصير مشترك على مدى القرون- فبدأت هذه العلاقات بالقوافل التجارية التي كانت تجوب الصحراء لتنقل المواد التجارية والذهب والفضة.كما لم تقتصر هذه القوافل على الجوانب التجارية والاقتصادية بل أخذت معها العلماء وطلاب العلم وأثمن واهم الكتب لتصبح ممرا أساسيا في تنقل الأفكار والآراء ولتلعب دورا مركزيا في بناء هذا المصير المشترك الذي يجمع شعوبنا.

كما لم يقتصر هذا التبادل على الجوانب التجارية والاقتصادية والمعرفية بل شمل كذلك الجوانب الثقافية والموسيقية.نجد إلى يومنا هذا العديد من المظاهر لهذا التبادل الموسيقي وتعايش الأشكال والأنماط الموسيقية من الجهتين ميزتها هذا التنوع الكبير.

كما عرف كذلك التبادل العلمي والمعرفي تطورا كبيرا وهاما.وأصبحت جامعة تنبكتو في مالي وجامع الأزهر في القاهرة وجامع الزيتونة في تونس منارات علم يقصدها طلاب العلم من كل البلدان الإفريقية لتحصيل المعرفة والفقه.

كما لعب الدين الإسلامي دورا كبيرا في تمتين العلاقات بين الشعوب جنوب الصحراء وشمالها وساهم الدين وتعاليمه في بناء ودعم علاقات السلام والتعاون بين شعوب القارة الإفريقية.

وطبعا لا نريد أن نعطي لهذه العلاقات طابعا مثاليا فلابد أن نشير إلى أنها عرفت مراحل تاريخية مظلمة طغى فيها العنف والظلم وحتى الرق واستعباد الناس.

إلا أن هذه المراحل كانت قليلة وغير مؤثرة في العلاقات الكثيفة التجارية والاقتصادية الفكرية والمعرفية والدينية والسياسية والتي جعلت من الترابط والتواصل بين شعوب جنوب الصحراء وشمالها هو بمثابة المصير المشترك.وهذه العلاقة تختلف جوهريا عن العلاقة بين شعوب جنوب الصحراء مع المستعمر الأوروبي والتي ستكون سمتها الأساسية العنف واحتقار الآخر والنظرة الدونية له والتي هي أساس التمييز العنصري.

وسيتدعم هذا المصير المشترك وهذه العلاقة العضوية في فترة الاستعمار ونضال شعوبنا ضد الهيمنة الاستعمارية فستعرف هذه الفترة تعاونا كبيرا بين حركات التحرر الوطني والتي ستدعم هذا المصير والانتماء المشترك – وستكون الجمعيات الطلابية في إفريقيا حاضنا لكل الطلاب المناوئين والمناهضين للوجود الاستعماري .وستساهم هذه المنظمات إلى جانب أحزاب وحركات التحرر الوطني في التعبئة المشتركة ضد التواجد الاستعماري. ويبقى هذا الجانب والنضال المشترك جانبا غير معروف ويجب في رأيي رفع الغبار عنه لفهم قوة وأهمية هذه العلاقة بين شعوبنا.اذكر مرة أني تجاذبت أطراف الحديث مع صديقي المثقف الكامروني الكبير Achille Mbembe حول هذه الفترة فأعلمني أن الكامرون عرفت حركة شعبية وغضبا عارما ومظاهرات ضخمة بعد اغتيال الشهيد فرحات حشاد في ديسمبر 1952.

والى الآن هناك أغان بالغات المحلية تتغنى ببطولة شهيدنا وبملحمة النضال في بلادنا ضد الاستعمار. وسيتعمق هذا المصير وهذا الانتماء المشترك بعد الاستعمار وفي مرحلة بناء الدولة الوطنية المستقلة – وستساهم بلادنا والرئيس بورقيبة في بناء علاقات تعاون هامة مع البلدان الإفريقية جنوب الصحراء وكان الرئيس بورقيبة يقوم بزيارتين سنويتين إلى عديد البلدان الإفريقية ساهمت في تمتين علاقات التعاون. وبالرغم من ضعف إمكانيات دولة الاستقلال فقد بعثت بلادنا آلاف الخبراء في إطار التعاون الفني إلى عديد البلدان الإفريقية في عديد المجالات الصناعية والتقنية.كما أعطت كذلك بلادنا عديد المنح الدراسية لعدد كبير من الطلبة الأفارقة الذين أموا جامعاتنا ومدارسنا العليا.والى اليوم نجد في عديد مراكز صنع القرار والإدارات في البلدان الإفريقية بعض الموظفين الذين درسوا في بلادنا ويكنون حنانا خالصا لنا.

كما لعبت بلادنا كذلك دورا هامّا في بناء كبرى المؤسسات الإفريقية كمنظمة الوحدة الإفريقية وساهمنا في دعم آخر قضايا التحرر الوطني في إفريقيا وخاصة حركات التحرر في المستعمرات البرتغالية ونظام الابارتايد في إفريقيا الجنوبية – وقد عاملتنا البلدان الإفريقية بالمثل فدعمت نضال الشعب الفلسطيني والى اليوم وبالرغم من تغلغل العدو الصهيوني في بعض بلدان القارة فان الرئيس الفلسطيني هو ثاني من يأخذ الكلمة في كل اجتماعات القمة الإفريقية.

ولم يقتصر هذا التعاون على المجال السياسي والتقني بل امتد كذلك إلى المجال الاقتصادي فلعبت دورا مهما في دفع التعاون التجاري والمالي مع عديد البلدان الإفريقية كما ساهمنا مساهمة فعالة في ظهور اكبر المؤسسات الاقتصادية الإفريقية كالبنك الإفريقي للتنمية والذي عاش بين ظهرانينا لعشر سنوات كاملة بعد الأزمة السياسية في ساحل العاج.

هذه الملاحظات للإشارة إلى أهمية العلاقات والتعاون بيننا مع بلدان جنوب الصحراء وارتقائها إلى مستوى المصير المشترك.إلا أن هذه العلاقة ستخفت تدريجيا مع الأزمات الاقتصادية والسياسية والحروب التي ستعرفها عديد البلدان الإفريقية في نهاية القرن الفائت.وستعرف هذه الفترة تقوقع البلدان الإفريقية على ذواتها ومحاولة حل أزماتها بمفردها – وحاولنا في هذه الفترة إيجاد في العلاقات مع الشريك الأوروبي ومشروع التعاون المتوسطي بديلا عن الآخر فينا اعني علاقاتنا مع الجانب الإفريقي وبلدان جنوب الصحراء.

إلاّ أن كل هذه التجارب أثبتت محدوديتها وعرفت بداية الألفية عودة الحميمية في علاقاتنا مع جنوب الصحراء- فعادت المؤسسات الاقتصادية للاستثمار.ورجعت العلاقات التجارية ولو بصعوبة .ورجع التعاون المالي والبنكي كما عاد الطلاب يؤمون مؤسساتنا التربوية.وشهدت هذه الفترة كذلك ظهور عديد المؤسسات والجمعيات كمجلس التعاون مع إفريقيا والذي سيلعب دورا أساسيا في دعم التعاون إلى جانب المؤسسات الرسمية.

في رأيي هذا التحول وهذا الاهتمام المتزايد في بلادنا ببلدان إفريقيا جنوب الصحراء هو تطور هام وايجابي إلاّ انّه في رأيي لابد من دعمه بثلاث مسائل أساسية.المسالة الأولى تخص العقلية والتي يجب ان يسودها الالتزام والاقتناع بإمكانية الاستفادة من تجارب البلدان الإفريقية إلى الآن للأسف تسود هذه العقلية فكرة الدخول للأسواق للبيع والربح الآني بدون التفكير في إمكانيات بناء شراكات على المدى الطويل تكون مربحة للطرفين .وفي رأيي لابد من القطع مع هذه العقلية والتعاطي مع الآخر كشريك استراتيجي يمكن أن يستفيد من تجاربنا كما يمكننا الاستفادة من تجاربه من اجل بناء شراكة إستراتيجية طويلة المدى.

المسألة الثانية سياسية وإستراتيجية وبالرغم من تأكيد عديد مؤسسات الدولة والخطاب الرسمي على الجانب الإفريقي في سياساتنا فإنّه حسب رأيي بقي على مستوى الشعارات ولابد من تحويله إلى واقع عملي واستراتيجيات وبرامج ملموسة .

المسألة الثالثة مؤسساتية وتخص عمل المؤسسات المهتمة بعلاقاتنا الاقتصادية الخارجية كالتجارة والاستثمار والتي يجب إعادة النظر في توجهاتها الإستراتيجية لتصبح القارة الإفريقية مركز ثقلها.

تشير اغلب مراكز الدراسات الإستراتيجية والتفكير في العالم أن القارة الإفريقية ستكون المدى الاستراتيجي للعولمة في السنوات القادمة.ولئن قامت بلادنا بخطوات هامة لدعم تواجدنا فانه مازال ينتظرنا عمل كبير وإرادة اكبر لجعل القارة فعلا لا قولا أحد خياراتنا الإستراتيجية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115