كما نجحت بلادنا في تنظيم انتخابات ديمقراطية في نهاية سنة 2014 مكنتنا من إنهاء المرحلة الانتقالية بنجاح وبانتخاب ولأول مرة رئيس للجمهورية بطريقة ديمقراطية وشفافة ومجلس نيابي .
إلا أن أهم نجاح في هذه المرحلة الانتقالية هو نجاحنا في تجاوز السنة المفصلية في تجارب الربيع العربي بسلام فبالرغم من الآمال والأحلام التي فتحتها الثورات الديمقراطية فقد فشلت أغلبها في المرور من الأنظمة الاستبدادية إلى الديمقراطية بطرق سلمية وتحولت أغلب هذه التجارب إلى حروب طاحنة بين الأنظمة المستبدة والمعارضات التي أصبحت رهينة القوى الإرهابية وكانت بلادنا الاستثناء الوحيد حيث حافظنا على سلمية هذا المسار مما أثار إعجاب العالم ودعمه لتجربتنا .
إلا أنه وبالرغم من هذه النجاحات فإننا نعيش كذلك الكثير من التحديات والصعوبات وحتى الأزمات . ولعل أول هذه التحديات يقع على المستوى السياسي فقد عرفت هذه المرحلة تراجع عديد الأحزاب والقوى السياسية التي لعبت دورا كبيرا في النضال ضد الاستبداد في السابق كما عرفت بلادنا كذلك ظهور قوى سياسية جديدة صار لها دور هام في فترات قصيرة كما عرفنا كذلك دخول الإسلام السياسي في الساحة السياسية ليصبح رقما هاما في المعادلة السياسية إلا أن هذا التعدد والتنوع خلق جوا من عدم الاستقرار كان له انعكاس كبير على النظام السياسي ونظام الحكم.
أما المستوى الثاني من التحدي فهو الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرفها بلادنا وقد أشرت في عديد الكتابات والمساهمات أن هذه الأزمة ليست وليدة الثورة كما يشير العديد بل هي نتيجة اهتراء نظام التنمية الموروث من بداية السبعينات والذي كان يتطلب إصلاحات جذرية وتحويل نقطة ارتكازه من الصناعة ذات الكثافة العمالية العالية إلى الصناعات الجديدة ذات القيمة المضافة الكبيرة . إلا أن وضعية عدم الاستقرار السياسي وغياب الوضوح التي خلقتها الثورة زادت من حدة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها بلادنا فالنمو في اضعف مستوياته والتوازنات الاقتصادية الكبرى شهدت اختلالات هامة كما أن الإصلاحات الاقتصادية الكبرى كالإصلاح البنكي والإصلاح الجبائي وإصلاح منظومة الدعم وإصلاح الصناديق الاجتماعية لم تشهد تقدما كبيرا .وقد نتج عن ضعف النمو وانخرام التوازنات الاقتصادية الكبرى تطور كبير في المديونية وتراكم الضغط على المالية العمومية التي تمر اليوم بأصعب فتراتها منذ استقلال البلاد.
كما عرفت بلادنا كذلك أزمة اجتماعية كبيرة فقد خلقت الثورة انتظارات كبرى على المستوى الاجتماعي كالحد من البطالة ومن الفوارق الجهوية .إلا أن اغلب الحكومات عجزت إلى اليوم عن تحقيق هاته الاستحقاقات والمطالب الكبرى مما زاد الاحتقان حدة في عديد المناطق الداخلية وتنامي الاحتجاجات الاجتماعية والاعتصامات في مناطق الإنتاج كالحوض المنجمي والكامور .
إذن وبالرغم من نجاحنا في تجنب عديد المخاطر وانهيار المسار الديمقراطي كما حدث لأغلب بلدان الربيع العربي الأخرى وفي التقدم خطوات ملموسة في اتجاه بناء نظام سياسي ديمقراطي فان هذا المسار عاش عديد التحديات والمطبات وحتى الأزمات
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو كيف نخرج من أزمات التحول الديمقراطي وندعم هذا المسار الذي سيمكننا من بناء نظام سياسي ديمقراطي؟ ويزداد هذا التساؤل حدة مع تنامي الاحتجاجات الاجتماعية في الأيام الأخيرة وتصاعد وتيرة الأزمة الاقتصادية في الأشهر الأخيرة
إذن كيف يمكن لنا فهم تحديات هذه المرحلة كيف يمكن لنا أن نخرج بأخف الأضرار من أزمات التحول الديمقراطي ؟ هذا التساؤل هو اليوم في جوهر تفكير وتحاليل الفاعلين السياسيين والباحثين والناشطين .إلا أن هذه القراءات والتحاليل اقتصرت على تجربتنا ولم تفتح مجالا للاستفادة من تجارب البلدان الأخرى التي عاشت هذه الثورات الديمقراطية للاستنارة بأخطائها ونجاحاتها وهذا التمشي والاختيار المنهجي جديد في الحقيقة فقد عرفت الساحة الفكرية في بلادنا في السنوات الأولى للثورة اهتماما كبيرا بتجارب البلدان الأخرى .فزار بلادنا العديد من الباحثين والمفكرين حول تجارب التحول الديمقراطي كما نظمنا في بلادنا عديد الندوات والمحاضرات والتي قدمت لنا تجارب البلدان الأخرى
إلا أن هذا الخيار المنهجي المقارن غاب تدريجيا وانخفض حضوره في التفكير وقراءة أزمات التحول الديمقراطي لبلادنا وانحصر هذا التفكير في تجربتنا وصعوباتها وفي إطار جهودنا الجغرافية الضيقة دون النظر إلى التجارب المقارنة الأخرى
وفي رأيي لابدّ من القطع مع هذا الخيار المنهجي في قراءة هذا الوضع ولابد من الرجوع إلى خيار منهجي منفتح على التجارب الأخرى للخروج وتجاوز أزمة التفكير في صعوبات ومخاطر التحول الديمقراطي في بلادنا وفي هذا الإطار أود الوقوف على كتاب هام ومميز صدر تحت عنوان transitions démocratiques تحت إدارة sergio bitar وهو مناضل وناشط سياسي من الشيلي وAbraham Lowenthal وهو أستاذ جامعي أمريكي من جامعة كاليفورنيا ونشير إلى أن الرئيس السابق المنصف المرزوقي كتب تقديم هذا الكتاب الهام
وهذا الكتاب هو عبارة عن حوارات مع 13 رئيس جمهورية أو رئيس وزراء سابقين قادوا تجربة التحول الديمقراطي في تسع بلدان وهي البرازيل والشيلي وغانا واندونيسيا والمكسيك والفيليبين وبولونيا وإفريقيا الجنوبية واسبانيا.وقد خصص الكتاب جزءا لكل بلد نجد فيه تقديما لتجربة التحول الديمقراطي في كل بلد أعدها احد الجامعيين المختصين في العلوم السياسية ثم نجد الحوار المطول مع المسؤول السياسي الأول والذي أشرف وقاد تجربة التحول الديمقراطي .
وقراءة هذا الكتاب متعة باعتبارها تمكنّنا من الوقوف على تحديات هذه التجارب كما تحيلنا إلى أزمات وتحديات التحول الديمقراطي في بلادنا وتعطينا مفاتيح لفهم الصعوبات التي نمر بها كما تمتعت بقراءة عديد الحوارات الشيقة في هذا الكتاب وأذكر منها بالخصوص الحوار مع الوزير الأول الاسباني السابق فيليبي قونزالاز والذي قاد تجربة الخروج من دكتاتورية فرانكو وبناء الديمقراطية في بلاده.
وإلى جانب أهمية الفصول المخصصة إلى كل التجارب فإن أهمّ فصل في رأيي يهم الدراسة المقارنة لهذه التجارب والدروس التي يمكن أخذها من هذه التجارب المختلفة
إذن ما هي أهم ميزات تجارب التحول الديمقراطي في العالم وما هي أهمّ الدروس التي يمكن أن نستخلصها ونحن في إحدى أدق مراحل التحول في بلادنا ؟
أول نتيجة نخرج بها من هذه التجارب المقارنة هي أن مسارات التحول الديمقراطي هي مسارات تاريخية طويلة ومعقدة وتسير بانساق مختلفة حسب الفترات التاريخية . والملاحظة الهامة الأخرى هي أن هذه المسارات ليست تصاعدية فحركتها يمكن أن تشهد بعض التراجعات على مبادئ الحرية والعدالة التي نادت بها الثورات الديمقراطية وتعرف كذلك عودة مظاهر الاستبداد أو حنين الناس للأنظمة القديمة خوفا من عدم الاستقرار الذي تخلقه السلطات الثورية. وهذه الملاحظات في رأيي هامة إذا نظرنا إلى الصعوبات التي تعرفها بلادنا في هذه المرحلة ففي هذه التجارب تبدو هذه الصعوبات والأزمات عادية ولا يجب أن تدعونا لليأس والقنوط.
مسألة أخرى تشير إليها هذه الدراسات المقارنة هي صعوبة بناء المؤسسات الجديدة وتركيزها لتكون الأساس الصلب للنظام الديمقراطي وتؤكد هذه الدراسات على أهمية التوافقات الكبرى لا فقط بين الأحزاب السياسية الكبرى بل كذلك مع المنظمات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني وفي رأيي فان هذه نتيجة هامة وأساسية ويجب أن نستخلص منها دروسا لإدارة تجربتنا فالدارسات المقارنة تشير إلى هشاشة المؤسسات الديمقراطية الرسمية وعدم قدرتها على اختزال الحركة الاجتماعية وبالتالي لابدّ للأحزاب والمؤسسات الرسمية أن تبني أواصر الحوار والنقاش والتواصل مع المنظمات الاجتماعية والحركات الاجتماعية والتي تعبر خارج الأطر الرسمية عن جزء كبير من الديناميكية السياسية الجديدة.
مسألة أخرى أشارت إليها هذه التجارب المقارنة و تهم المسالة الاجتماعية ويشير اغلب القادة أن تهميش هذه المسألة ساهم إلى حد كبير في زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي وهشاشة المؤسسات الجديدة وجعل بعض قراراتها حبرا على ورق . وتؤكد هذه الدراسات أن بدايات الاستقرار ظهرت عندما اشتغلت الأنظمة الجديدة على هذه المسألة وأعطتها الأهمية التي تستحقها وبدأت بطريقة جدية في محاربة الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي والجهوي – وتشير أغلب هذه الدراسات إلى أنّه ولئن تتطلب المسألة الاجتماعية سنوات طويلة باعتبارها مشاكل هيكلية فانه لابد من ضبط برامج قصيرة المدى وعاجلة لإعطاء أمل لجيوش المهمشين الذين قادوا الثورة وإعطاء المؤسسات الديمقراطية والحكومة المهلة الكافية لتطبيق الإصلاحات الكبرى
المسألة الأخرى التي أشارت إليها هذه الدراسات المقارنة هي أهمية النظرة الاقتصادية الكبرى والبرنامج الاقتصادي الشامل والذي يقترح ويضبط رؤية واضحة على المستوى المتوسطي والطويل لمستقبل البلاد فأغلب الأحزاب التي حكمت هذه البلدان لفترة طويلة كانت أحزابا لها رؤية وتصورات اقتصادية أعطت البوصلة والتوجه الاستراتيجي وساهمت في تحقيق ثورة اقتصادية سمحت لهذه البلدان بالخروج من الأنظمة الاقتصادية الريعية والدخول إلى الاقتصاد الحديث الذي يراهن على الذكاء والتكنولوجيا والعلم.
مسألة أخيرة أشارت إليها هذه الدراسات المقارنة هي مسألة العدالة الانتقالية وقد أكدت أغلب التجارب على أهمية هذا المسار وفي نفس الوقت على حساسيته الكبرى وقد أكدت هذه التجارب على عديد المبادئ التي ساهمت في نجاح هذا المسار في عديد البلدان الأخرى ومن ضمنها تحييدها عن التجاذبات السياسية ، التوازن ، تجنب روح التشفي ويجب أن تعمل هذه المسارات في إطار البحث عن الحقيقة على إيجاد التوازن بين تعرية الألم وتجاوزات الماضي وفي نفس الوقت ضرورة تجاوزها
قطعت بلادنا خطوات هامة في مسار التحول الديمقراطي إلاّ أن هذا المسار عرف بعض الوهن والصعوبات والأزمات – وتشير التجارب المقارنة في التغيير الديمقراطي والتي لابد لنا أن نستنير بها إلى صعوبة هذه المسارات وتعقيدها - ويرتبط بقدرتها على بناء مؤسسات ديمقراطية منفتحة على الحركة الاجتماعية وقادرة على تجسيد وتحقيق مطالب الحرية والعدالة والاندماج الاجتماعي والجهوي.