وتطور وصعود البطالة لم يقتصر على البلدان المتقدمة بل عرفت عديد البلدان النامية نموّا كبيرا لظاهرة البطالة وبصفة خاصّة بطالة أصحاب الشهائد والتّي أصبحت من احد أهمّ عوامل عدم الاستقرار السياسي في هذه البلدان .
ونموّ البطالة ليس المظهر الأول للازمة الاجتماعية التّي يمر بها العالم منذ سنوات – فالى جانبها نشير إلى تزايد الفوارق الاجتماعية والتّي أصبحت كذلك من أهمّ التحديات الكبرى في السنوات الأخيرة . وقد لقيت هذه الظاهرة اهتماما كبيرا من لدن الأخصائيين والمؤسسات الدّولية كالبنك الدولي اعتبارا لانعكاساتها السلبية على مشروعية النظام السياسي .
وترجح عديد الدراسات أسباب تزايد الفوارق الاجتماعية إلى مسالتين هامتين – الأولى تخصّ الجباية وتراجع النسب المسلطة على أصحاب المداخيل العمالية منذ الثورات النيوليبرالية في بداية ثمانينات القرن الماضي. كما تشير كذلك إلى النموّ الكبير الذي عرفته بعض القطاعات الجديدة واذكر منها قطاع البنوك والقطاع المالي بصفة عامة وقطاع المؤسسات التكنولوجية الحديثة .
ساهمت هذه التطورات الاقتصادية في تكديس ثروات وأرباح كبيرة وفي تزايد الفوارق الاجتماعية في اغلب بلدان العالم لتصبح هذه المسالة قصة مؤرقة للمسؤولين السياسيين والاقتصاديين.
إلى جانب تزايد البطالة والفوارق الاجتماعية لابدّ من الإشارة إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى والتّي ساهمت في تأزم الوضع الاجتماعي . لقد عرف العالم منذ نهاية الحرب العالمية نظاما اقتصاديا واجتماعيا انتظم في إطار الدولة الوطنية وحدودها إلاّ أن تدويل الاقتصاد والعولمة التي عرفها الاقتصاد العالمي نسفت هذه النظام و أسست لبوادر اقتصاد معولم يرتكز أساسا على عولمة الإنتاج وتحويل وتوزيع المؤسسات الاقتصادية وعمليات الإنتاج بين عديد البلدان ليقع تركيزها في نهاية العملية الإنتاجية قرب الأسواق . وكان لعملية العولمة وتحويل الإنتاج إلى عديد البلدان انعكاس كبير على المستوى الاجتماعي. فتقلصت المجتمعات العمالية الكبرى والتّي شكّلت إحدى نقاط ارتكاز النظام الاجتماعي . وكتب الكثير من الباحثين في علم الاجتماع دراسات هامّة حول «نهاية الطبقة العاملة» في البلدان المتقدمة وانعكاساتها السياسية والاجتماعية . إلاّ أن أزمة وانحلال الطبقات الاجتماعية الكبرى لم تقتصر على الطبقة العاملة والشرائح الاجتماعية الشعبية بل مسّت كذلك الطبقات المتوسطة وتساهم في انخرام العقد الاجتماعي الموروث من دولة الرفاه (L’etat providence) التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية والتّي شكّلت جوهر العقد الاجتماعي السائد إلى الآن.
الظاهرة الرابعة والتّي تميّز الحالة الاجتماعية هي هشاشة الروابط والمؤسسات الاجتماعية والتّي ساهمت في تزايد وارتفاع ظواهر التهميش الاجتماعي . ونجد هذه الظواهر في البلدان الأكثر تقدما كما نجدها في البلدان النامية أين تكاثرت المجموعات الفاقدة لكل سند اجتماعي وغير القادرة على تلبية أبسط حاجياتها الاجتماعية.
إذن البطالة وتزايد الفوارق الاجتماعية والانعكاسات الاجتماعية للتحولات الاقتصادية والتقنية ونمّو التهميش الاجتماعي خلقت وضعا اجتماعيا متردّيا وأزمة اجتماعية فائقة لم نشهد لها مثيلا منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى لسنة 1929. وقد خلقت هذه الأزمة وضعا من عدم الثقة وعدم الاطمئنان وحتى من اليأس. أمام غياب الأمل وفقدان المشاريع السياسية القادرة على تغيير الواقع وتحسين الظروف الاجتماعية والخروج من هذه الأزمة .
ولهذه الأزمة الاجتماعية تبعات سياسية هامّة.
فقد ساهمت ولعبت دورا كبيرا في زعزعة الاستقرار السياسي في اغلب بلدان العالم ولعلّ ثورات الربيع العربي كانت أهّم وأولى الانعكاسات السياسية للازمات الاجتماعية التي يمّر بها العالم . فقد أطاح العاطلون والمهمشون بآخر الأنظمة الاستبدادية وتبعها بداية تحول سياسي ديمقراطي في المنطقة العربية. إلاّ أن غياب الأمل وعدم قدرة هذه الثورات على فتح آفاق جديدة للمهمشين دفعت بهم في أحضان بائعي الموت ومروّجي الإرهاب.
كما كان كذلك لهذه الأزمات الاجتماعية انعكاسات كبيرة في البلدان المتقدمة على المستوى السياسي. مع انغلاق الأفق السياسي وغياب الأمل تنامت القوى الشوفينية والرافضة للأخر وللانفتاح وللتعدد . ولم تعد هذه الحركات مقتصرة على الهامش بل أصبحت في جوهر وفي قلب الأحداث والدينامكية السياسية وبصفة خاصّة العملية الانتخابية . ولعّل أهمّ نتائج هذه الأزمات هي انتخاب ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وزعيمة النظام الليبرالي العالمي .
هذه الأزمات الاجتماعية دفعت المنظمات الدولية والخبراء إلى تغيير الأولويات السياسية والاقتصادية وجعلت من الاندماج الاجتماعي أولى أهداف التنمية في بلدنا وأهمّها.
وفي رأيي فان فترات الأزمات على حدّتها وعلى انعكاساتها الاجتماعية الصعبة فهي في نفس الوقت فترات مخاض كبيرة. فأهمّ الابتكارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تأتي في فترات الأزمات واحتداد الصعوبات وتناميها . فحالة الاختناق وواقع العجز في فترات الأزمات كذلك يكون فرصة لاستنباط أفكار جديدة للخروج من الأزمات والقطع مع طاحونة الشيء المعتاد.
ولعلّ أهمّ فكرة يقع تطارحها اليوم كردّ على الأزمة الاجتماعية الخانقة التي يعيشها العالم اليوم هي مسالة الدّخل الأساسي أو revenu universel فهذا المقترح لم يبق اليوم مسالة نظرية يتطارحها المثقفون والجامعيون بل أصبح مسالة سياسية يقودها ويناقشها القادة والسياسيون في حلبة الصّراع السياسي كما بينت النقاشات والمنافسة حول تحديد مرشح للحزب الاشتراكي الفرنسي للانتخابات الرئاسية الفرنسية حيث دافع Benoit Hamon عن هذا المقترح ولئن اختلفت التسميات فان الفكرة الكامنة وراء هذا المقترح هي أن تدفع الدولة راتبا حكوميا قارا كحق للمواطنين كل المواطنين وكل المقيمين في بلدانهم لهم الحق في الاستفادة من هذا الراتب سواء كانوا يعملون أم لا . ويدفع الراتب إلى كل المواطنين من ولادتهم إلى مماتهم .
وقد تكونت عديد المنظمات والحركات الاجتماعية التّي تدافع عن هذا المشروع . وحدّدت أهداف الدخل الأساسي في ثلاث مسائل أساسية – المسالة الأولى تخصّ نهاية الفقر المدقع والتّي سيساهم هذا الراتب في تحقيقها – المسالة الثانية والتّي يهدف هذا الدخل الأساسي إلى تحقيقها تخصّ تلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين في مجالات السكن و الصحّة والأكل . أمّا الهدف الثالث للراتب الأساسي فهو إعطاء إمكانية الاختيار للمواطنين بين العمل من عدمه.
ولعلّ الهدف الثالث يشكل : الأساس الفلسفي لهذا المقترح و موقفا جديدا من مسالة العمل ولنعد إلى فترة الأنوار والثورات الصناعية فقد جعلت المجتمعات من العمل والجهد أساس العلاقات الاجتماعية.
فالعمل يساهم في دفع الإنتاج وفي تغطية حاجيات المجموعة البشرية . كما أنّ العمل يساهم غفي ربط العلاقات الاجتماعية وجعل الإنسان كائنا اجتماعيا بالأساس. كما أن العمل يساهم في توفير الدخل الضروري للإنسان لتحقيق اكتفائه.
إذن كان العمل خلال القرنين الماضيين في قلب العلاقات الاجتماعية والإنسانية إلى حدّ أن فلاسفة الحداثة اعتبروه الأداة الأساسية لتحرير الإنسان والحدّ من غربته وتبعيته.
إلاّ أن هذه الفكرة تغيرت في السنوات الأخيرة وبصفة خاصّة منذ ثورات الشباب في فرنسا وفي العالم في الستينات .
وقد توجه النقد بصفة خاصّة لفلسفة الحداثة التي اعتبرها عديد الفلاسفة الجدد في تواصل مع نيتشه وراء الويلات التّي عرفها العالم في القرن العشرين . فالي جانب المعرفة والعلم فقد كانت مشاريع الحداثة وراء بروز فكرة التسلّط والتوسّع واستعباد الآخر والذّين لعبوا دورا كبيرا في الحروب والتناقضات التّي عرفها العالم والتّي كادت أن تقودها إلى نهاية الإنسان ونفي إنسانيته.
وفي خضمّ هذا النقد العنيف للمشروع الحداثي ظهرت نظريات ما بعد الحداثة والتّي عملت على خلق مشروع تصوري جديد للإنسان ينفي علاقات السلطة والتبعية ويمكن الإنسان من بناء حلم جديد خارج البرامج السياسّية العنيفة والمزمجرة.
وقد صاحب هذه الرؤى الفلسفية الجديدة وأول أفكارها ما بعد الحداثة نظرة جديدة للعمل – فقد انصبّ نقد كبير من هؤلاء الفلاسفة على العمل واعتبروه على خلاف فلاسفة الحداثة عملية وصيرورة تاريخية ساهمت لا في تنوير الإنسان بل في تكبيله والحدّ من حريته . وبالتالي أصبح العمل بمثابة السجن الكبير الذي يقتل كل المبادرات والأفكار الجديدة وتعمل بالتالي هذه الفلسفة الجديدة على التخلّص من العمل وفتح مجالات عديدة للحياة وللتحقيق الذّات هو القيام بنشاطات اجتماعية كالانخراط في العمل الجمعياتي والمطالعة والدراسة .
ويمكّن الدّخل الأساسي من تحقيق هذا المطمح ليصبح اليوتوبيا الجديدة لفترة ما بعد الحداثة.
وقد عرفت هذه الفكرة عديد المؤيدين والمناهضين من تيارات سياسية واجتماعية مختلفة . فقد ساندها عديد المسؤولين النيوليبراليين ومن اليمين . فمثلا فريدمان أكد على هذه الفكرة باعتبارها تمكّن من إدخال بعض النظام على منظومة الأنظمة الاجتماعية إلاّ أنّه أكّد على ضرورة أن يبقى هذا الدّخل ضعيفا حتّى يشجع النّاس على مواصلة العمل.
كما دافعت الحركات والأحزاب السياسية على هذه الفكرة وطالبت بتطبيقها . واعتبرت هذه الحركات على خلاف الحركات اليمينية أن الدّخل الأساسي هو عنوان مرحلة جديدة ويفتح مرحلة متطوّرة من الحضارة الإنسانية يمكّن فيها المواطنين من الاهتمام بقضايا أخرى كالعمل المواطني والثقافي مع ضمان الحصول على اجر.
كما تعرف هذه الفكرة معارضة شديدة من بعض القوى اليمينية واليسارية . فالقوى اليمينية تقول أن هذا المقترح سيصرف النّاس عن العمل ويشجع على الكسل والفراغ. أمّا بعض القوى اليسارية فإنّها تناهض هذا المقترح باعتباره قد يدفع الدولة إلى التراجع عن دورها الاجتماعي.
لقد فتح مقترح الأجر الأساسي أو الدخل الأساسي مرحلة جديدة في النقاش السياسي والاقتصادي .. فهو من جهة أكّد على أهمّية المسالة الاجتماعية وضرورة إيجاد الحلول للخروج من التهميش وأزمة الثقة و انسداد الأفق وبداية حلّ المسائل الاجتماعية هي المدخل الأساسي للاستقرار السياسي. كما أن هذا المقترح يؤكد على ضرورة التعاطي مع المسائل الاجتماعية بحلول ومقترحات جديدة والخروج من طاحونة الشيء المعتاد.
ولئن يصعب التفكير في هذا المقترح في الظروف الحالية التّي تمرّ بها المالية العمومية في بلادنا فإنّه يمكن استخلاص بعض الدروس في بلادنا . والدّرس الأول يهمّ ضرورة التعاطي مع المسائل الاجتماعية وخاصّة مطالب الشّغل والكرامة الوطنية وفتح آفاق للأمل والحلم لمئات الآلاف من الشباب العاطلين ولإبعادهم من أحضان بائعي الأوهام والموت. أمّا الدّرس الثاني فهو أنّ الأزمات الاجتماعية تتطلّب اليوم حلولا وأفكارا جديدة تقطع مع القديم والسائد إلى اليوم بالرّغم عن عجز ه عن تغيير الواقع.