الشعبوية و"كوجيطو الكراهية "

" اما ان نتعلم العيش معا بأخوة او ننقرضجميعا كالحمقى."

(مارتن لوثر كنغ )
استعرت عبارة "كوجيطو الكراهية " من الكاتب والمفكر التونسي ، فتحي المسكيني، الذي يرى، بحسّه الفلسفي العميق، ان كل من يؤسس هويته على الكراهية ، يقرّ ضمنا بانه لا يستطيع ان يكون من دون وجود اخر يكرهه ،وكـأنه يقول "انا اكرهك، اذن انا موجود" وطبعا الهوية التي يبني عليها الكاره وجوده قد تكون ثقافية او دينية او أيديولوجية ...
والمتفق عليه اليوم بين الباحثين ودارسي العلوم السياسية ان خطاب الكراهية ما انفك يتوسّعمع انحسار الديمقراطية و تعدد شبكات التواصل المنفلتة من كل قيود وتصاعد الخطاب الشعبوي الذي يتأسس ، غالبا ،على ثنائية قطعية للمجتمع، يريد الشعبويون ان يرسموها كخط فاصل بين "النحن"، الشعب النقي والصادق، الذي يختزل الإرادة الطيّبة ويعكس مصلحة الوطن العليا ، مقابل هم "النخب الفاسدة " الذين يجب على الشعب انينبذهم ويساعد على ازاحتهممن المشهد السياسي، و هؤلاء هم سياسيون واعلاميون ومجتمع مدني ومهاجرون، وكل من يعرقل مشروع الزعيم الشعبوي...
تحريك المشاعر السلبية :
وللزعيم الشعبوي طريقة مبتكرة في اثارة قلق الناس وتحريك مشاعرهم الغاضبة والاستثمار في بؤسهم الاجتماعيوخواءهم السياسي لخلق مناخ من التوتر مع القيم الديمقراطيةوزعزعة كل مرتكزاتها.
وقد نشرت مجلة "سيدج دجورنالز (Sage journals )، المتخصصة في العلوم الانسانية والاجتماعية ، تحقيقا مطولا تحت عنوان : " الشعب البغيض ، المواقف الشعبوية تهيئ الى الكراهية بين الاشخاص والجماعات " ( اكتوبر 2022) يصلح ان يكون دستورا مشتركا لكل الشعبويين حول العالم ويمكن اختزال نتائجه في الاتي: هناك ثلاث وسائل لتحفيز الكراهية : أولا ، تقسيم المجتمع الى مجموعات متضادة عموديا (الشعب الطاهر ضد النخب الفاسدة ) وافقيا (شعبنا النقي مقابل الغرباء المشبوهين) وثانيا، توصيف النخب بمختلف مكوناتها بانها تسعى الى "تعكير الاستقرار" و "نشر الفوضى" ، مما يثير مشاعر الغضب والخوف من المجهول لدى عامة الناس ، ثم ، أخيرا ، تضيف الشعبوية طابعا اخلاقويا على سرديتها ، فالنخب، الذين هم في الاصل اشرار ومتآمرين على الشعب ، يفتقدون أدنى وازع اخلاقي ، مما يدفع بالناس الى التبرم منهم،وهكذا "بمجرد تبني الناس لمواقف شعبوية ،فانهم يدخلون في دوامة المشاعر السلبية التي تتحول مع الزمن الى كراهية قوية ."
وسائل التواصل الاجتماعي والتضليل:
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ، مثل فيس بوك وتويتر وغيرها، ثورة في طريقة التواصل وسرعة وصول الخبر والاستهلاك اليومي المتنوع للمعلومات ، الا ان سلاسة التواصل وسرعة تدفق المعلومة اصبح لهما ثمن ، فقد ساهما في نشر المعلومات المضللة والاخبار الزائفة والتنمر ، وقد اشارت دراسة صدرت في سنة 2023 ان حوالي 45 بالمائة من سكان الولايات المتحدة قد تعرضوا لخطاب الكراهية و البذاءة والتحقير والهرسلة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأخطر ان هذا السلوك سرعان ما يتحول من الافتراضي للواقع، وتتحوّل الكراهية الى عنف مادي ...
كما يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعات الأوروبية ، ايريكوربرغمانEiríkur) Bergmann) في مقال بعنوان "الشعبوية وسياسة التضليل الإعلامي " (2020)،ان نظريات المؤامرة انتشرت منذ سنة 2016 ، متخفية تحت عنواين الاخبار ، وقد ساهمت في نشرها وسائل التواصل الاجتماعي ، وهذا المناخ مكّن الشعبويينمن نشر الشك بكل المعارف الراسخة "التي يزعمون انها من انتاج النخبة" والى جانب هذا ، تضالت قدرات وسائل الاعلام التقليدية ، التي تلتزم ببعض الموضوعية وبالأدنى الاخلاقي (صحف ، نشريات جادة، أبحاث ..) ، والنتيجة ، حسب رائه ، ان الناس اصبحوا غير قادرين على التمييز بين الاخبار الصحيحة والمضللة وبين الحقيقة والوهم ، "واحيانا يقع تقديم كليهما تحت نفس الغطاء."
لا فرق بين الاخبار المضللة (fake news) و الحقيقة:
احدث الطرق المضللة هي استعمال وسائل التواصل الافتراضي لنشر اخبار مضللة وتحقير كل وسائل الاعلام الأخرى ، وخاصة تلك الني تنتقد أداء ومواقف الزعيم الشعبوي ، "فقد اعتاد الرئيس ترامب على وصف كل وسائل الاعلام التقليدية المعروفة بالكاذبة والمنحازة، وذلك في كل مرة تقدم فيها تغطية تنتقد أدائه او تشير الى تجاوزاته ... او حتى لا تتفق مع مزاجه" .
وقد يعتبر ذلك من قوانين الأنظمة الديكتاتورية ، الا ان المحللين السياسيين اخترعوا كلمة "التلاعب بالعقول " gaslighting والتي تعني ان الزعيم الشعبوي ، حتى في الديمقراطيات العريقة ،يقوم ،عبر وسائل التواصل الاجتماعي او مساعديه،بعمليات خداع وترويج اخبار مضللة واحداث متخيّلة الى الحد الذي يجعل ضحاياه يشكّون في احكامهم وآرائهم."
ومن خلال نشر كمّ هائل من المعلومات المضللة والخطابات المستفزة ، يبدأ التشكيك في نزاهة كل وسائل الاعلام التقليدية ويتحول التشكيك الى سخرية ونقد لاذع وتهجم "مما يعطي مشروعية وجود اطراف متطرفة تشكك في كل شيء وخطاب حاد يدعو صراحة للعنف."
وحسب مؤسسة Ipsos)) الفرنسية المتخصصة في سبر الآراء فان "ثلثي المواطنين في 27 دولة كبرى شملهم استطلاع الراي يعتقدون ان الناس في بلدانهم يعيشون داخل فقاعة الانترنت ويبحثون فقط عن الآراء الذين يتفقون معها بالفعل ...وان 60 بالمائة منهم لم يعودوا يهتمون بالحقيقة ، بلهم يسعون الى تصديق ما يريدون تصديقه فقط."(مارس 2023).
من خاصيات الشعبوية العربية :
وان تحمل الشعبوية العربية صفات عديد مثيلاتها في المجتمعات الغربية ، على غرار التضليل الإعلامي وإشاعة نظرية المؤامرة وتبني خطاب الكراهية ، الا ان لها ، أيضا، خصوصياتها التي ظلت ترافقها منذ نشوء الدولة الوطنية ، من بينها ترديد خطاب سيادوي،يحيل الى "حماية االبلاد "و"مواصلة حرب التحرير " (التي مرّ على نهايتها اكثر من سبع عقود) والغاية هيتوصيف الحاكم على انه الوحيد القادر على حماية الوطن من أعداء الخارج، مهما كانت علاقة الزعيم بهذا "الخارج"، وفي المقابل وصم كل معارضة سياسية او مدنيةواتهامها "بالخيانة " و"التبعية لقوى خفية"لها "اجندات مشبوهة"، وهي حيلة مضللة تختزل الوطن في الحاكم وتعتبر معارضته خيانة ، وهكذا ،فإلى جانب القمع والسجون والمنافي ، يحتاج الحاكم العربي الى تحريك "الهويات المنغلقة" ، احد اهم مفاتيح باب الكراهية التي تظل الوسيلة الافضل التي يستخدمها كل ديكتاتور ، حسب جورج ارويل ، للتخويف من الاخر وتنمية مشاعر الحقد ... ففي رواية 1984 الشهيرة، يصر الأخ الأكبر على فرض "أسبوع الكراهية" على شعبه من اجل توحيد مشاعر المواطنين السلبية ، وصرفها عن شخصه وعن حزبه، في اتجاه "أعداء متخيلين في الداخل والخارج" ...
والحصيلة اننا فيعالمنا العربي ، لسنا امام صراع مرير وطويل المدى ،تقوده مؤسسات عريقة في الديمقراطية وصامدة ،تحاول التصدي الى شعبوية ماكرة تنشر الكراهية بغاية استدامة سلطتها ، بل نحن نعيش في اعماقنا هشاشةمتوطنة، لها جذورها الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية ونستبطن كرها افقيا (بين أيديولوجيا وأخرى ومذهب سياسي او ديني واخر ...) وعموديا (بين الحاكم والمحكوم) ،فكيف سنشفى من كراهيتنا لأنفسنا ولمن حولنا؟ يقترح فتحي المسكينيمفتاحين ،أولهما اننبدأ بحب ذواتناالعميقة، اذ لا يمكن ان يستنير شعب يكره نفسه بما ان "التنوير هو بهجة العقل " والثاني هو التخلي عن الهويات الضيقة الحزينة و"الهجرة الى الإنسانية ...لان الانتماء الى الإنسانية هو شكل البقاء الوحيد الذي يحتاجه شعب ما كي لا ينقرض مثل الأمم الغابرة."
لكن ربما هناك شرط يجب تحقيقه: ان نساعد الإنسانية على العودة الى قيمها السامية في الحرية والعدل والانصاف.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115