حملة استهداف للدولة التونسية ونظامها السياسي الحاكم شارك فيها بعض المؤثرين الافتراضيين الأجانب المنتمين لحركات الإسلام السياسي بدعوى تخلي دستورها الجاري به العمل حاليا الصادر سنة 2022 عن "إسلاميتها" بعد حذف الفصل الأول (عميد الفصول في دساتير تونس ) من دستوري 1959 و2014 والذي نص على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها" وهو الفصل الصامد أمام كل التنقيحات والانتفاضات والتحولات الثورية وكان أشدها ذهاب هؤلاء الغلاة من المعارضين إلى تكفير تونس ورئيسها وإخراجهما من ملة الإسلام بكل سوء نية وجهل متعمد وهو النهج الذي دأبت عليه حركات الإسلام السياسي مع كل المختلف عنها في خلط عجيب متعمد بينها وبين الدين الاسلامي وكأنها هي الممثل الحصري والوحيد للإسلام بل أنها هي الاسلام وفي مقابل ذلك وفي رد فعل غبي جدا وسطحي جدا إنبرى أنصار رئيس الدولة إلى نفي ذلك إلى حد وصلت بالبعض منهم إلى اعتبار إن امتناع الحانات والنزل على بيع الخمور ثاني أيام عيد الفطر سببه تواصل تأثيرات الفصل الأول من دستور 2014 على الفضاءين العام والخاص متناسين أنه تم إلغاء ذلك الفصل وتعويض محتواه في دستور 2022 ليصبح :" تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة " بعد حذف – الاسلام دينها- ، - العربية لغتها – و – الجمهورية نظامها- و تم تحويل هذه القواعد الدستورية إلى فصول لاحقة بأكثر دقة وتفصيلا ، اذ تم التنصيص بالفصل الثاني منه على أن :" نظام الدولة التونسية هو النظام الجمهوري " و بالفصل الخامس على أن :" تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطيّ، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدّين والحرّية." وجاء بالفصل السادس أن :" تونس جزء من الأمة العربية ، واللغة الرسمية هي اللغة العربية ".
لا تتناول هذه الورقة البحث والتأكيد أو النفي في شرعية أو مشروعية دستور الدولة التونسية الصادر في أوت 2022 والذي أصبح أمرا واقعا بعد الاستفتاء عليه ولا في السياقات التاريخية والسياسية التي حفت به بل تتناول فقط مسألة خاصة جدا في محاولة لفهم وإدراك علاقة الدولة التونسية خاصة والسياسة عامة بالدين الاسلامي في محاولة لفهم طبيعة الدولة التونسية ،إن كانت دولة مدنية ديموقراطية ؟ أم دولة تيوقراطية / دينية ؟ من خلال تفكيك بنية الفصل الخامس والتدقيق في مدلولاته ومقاصده الدستورية .
لقد احتوى الفصل الخامس من الدستور على ثلاث كيانات كبرى :
1/ انتماء تونس إلى الأمة الاسلامية .
2/ مقاصد الدين الاسلامي.
3/ تحمل الدولة لوحدها مسؤولية تحقيق مقاصد الدين الاسلامي
* الأمة الاسلامية حقيقة أم وهم ؟
دون الدخول في نقاشات نظرية والتأصيلات الدينية حول مفهوم الأمة وصيرورة تكوِينها تاريخيا ولا فائدة عملية لها اليوم ولا المجال هنا يسمح بالتشريح والتفسير، فالأمة الإسلامية ليست سوى "أمة روحانية " والأية الكريمة 92 من سورة الأنبياء "إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَأَنا رَبُّكُم فَاعبُدونِ" فيقصد بها الأمة العربية التي اكتمل تكوينها بالرسالة المحمدية ليعيش فيها المسلمين والمشركين واليهود والنصارى طبقا "لدستور المدينة" (أو الصحيفة أو كتاب النبي) الذي عقده النبي في 622 م بين سكان / "مواطنات ومواطني" المدينة يسمح لأهل الذمة بحرية ممارسة الشعائر وبدون الحق في الولاية الدينية أو الخلافة لذلك إشترطت أغلب الدساتير الحديثة للدول العربية على أن يكون الحاكم مسلما ،ولا توجد هذه الأمة إلا في ذهن بعض المسلمين وليس كلهم متكونة من مجموعة أمم يجمع بينها الدين الاسلامي حتى وإن كان يعيش بين ظهرانيها مواطنون لا يدينون بالإسلام أو لادينيين أو هم يعيشون منذ عقود في دول اخرى غير مسلمة يحملون جنسيتها ويعاملون معاملة غيرهم المختلف عنهم دينيا وما يؤكد ذلك هو عدم وحدة رقعتها الجغرافية فهي متوزعة بين عدة دول في بعض القارات منفصلة جغرافيا عن بعضها البعض تقول عن نفسها أنها دول اسلامية أو أن دينها الاسلام ( تونس في دستوري 1959 و 2014 مثال على ذلك ) وبعض هذه الدول في تقاتل واحتراب طائفي ومذهبي فيما بينها منذ مئات القرون لانتفاء شرط اللغة ووحدة المصير المشترك وتحقيق المصلحة في المستقبل وهناك ملايين المسلمين يعيشون في دول ليست اسلامية ولا تنص دساتيرها على أن الاسلام دينها الذي يشكل الرابط الوحيد بينها وكل منها يفسر الدين الاسلامي ومقاصده وفق أهواءه ومصالحه ليتفرقوا شذر مذر إلى ملل ونحل لذلك لا يمكن الحديث البتة عن دولة إسلامية واحدة وهو الغاية الطبيعية والحتمية التاريخية لكل أمة مكتملة التكوين طبقا لقاعدة الأمة/ الدولة Etat/nation وللمبدأ الراسخ في القانون الدولي العام والعلاقات الدولية " حرية الشعوب في تقرير مصيرها " ، وحاليا لا يوجد في العالم إلا أمتين مجزئتين - مع إختلاف الأسباب التاريخية - لا تنطبق عليهما القواعد العامة هما الأمة الكورية المجزئة إلى دولتي كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية التي توجد بها وزارة تسمى وزارة الوحدة ، والأمة العربية المجزئة إلى إثنتين وعشرين دولة منها من يعترف نظامها السياسي ودستورها بالإنتماء للأمة العربية ( الفصل السادس من الدستور التونسي ) ومنها من ينكر ذلك من الشعوبيين إلى حد المطالبة والعمل على جعل الدولة القطرية العربية "أمة " قائمة بذاتها ومن ثمة يبرز الفرق واضحا وجليا بين الحقيقة والوهم ، بين الأمة العربية و"الأمة الاسلامية ".
* ماهي مقاصد الدين الاسلامي ؟
المقصد في اللغة: هو الغاية والمراد وفي الاصطلاح: هو الغايات التي جاء الدين من أجل تحقيقها بين الناس وقيل: هي التدابير التي وضعتها الشريعة من أجل تحقيق مصالح العباد أو المكلفين وهي نفسها مقاصد الدين الاسلامي تهدف إلى حفظ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻨﺴﻞ ﻭالمال كما إستقرت عليه المدونة الفقهية الاسلامية وقد استبدل الفصل الخامس حفظ النسل بحفظ الحرية لتلتقي جميعا حول تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل؛ وذلك بجلب المصلحة لهم ودرء المفسدة عنهم في أمور دينهم ودنياهم ، بما يتحقق معه سعادتهم في الدارين فالشريعة الإسلامية كما يقول إبن تيمية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها" (منهاج السنة: 1/147) وشرع الله مصلحة كله، فحيثما كانت المصلحة فثَم شرع الله (إبن القيم الجوزية ، إعلام الموقعين:3/1) ومصالح الآخرة ومقاصدها مقدمة على مصالح الدنيا ومقاصدها بالاتفاق، كما قال الشاطبي في الموافقات: "المصالح والمقاصد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمقاصد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة" (الموافقات:3/387) وبالتالي ما يجمع هذه المقاصد هو المصالح إيجادا وحفظا بأنواعها الثلاث الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات .فالضرورات أولا هي الأمور التي لا قيام لحياة الناس إلا بحفظها، وإذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضرورات خمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال وقد أتى في الدين الاسلامي من التشريعات ما يحفظ به هذه الضرورات من بينها :
1/ وجوب الحكم بالإسلام ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (سورة المائدة ، الآية 44) وبالتالي لا يتحقق ذلك الا باعتماد الفقه الاسلامي المصدر الوحيد والرئيس للتشريع .
2 / وجوب الدفاع عن الدين ونشره: ولأجل ذلك شرع الله الجهاد، وعقوبة المبتدع المتخلف عنه
3/ ـ وجوب وضع حد الردة: كما قال الرسول صلعم: "ومن بدل دينه فاقتلوه"، وقال أيضا : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " (رواه البخاري ومسلم) وهو ما يطرح اشكالية التعارض مع حرية المعتقد والضمير المنصوص عليها بالفصل 27 من الدستور .
وثانيا الحاجيات: وهي ما يحتاجه الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة، ولكن يصيب الناس ضيق وحرج ثم نجد ثالثا التحسينيات: وهي الأمور التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت خرجت حياة الناس عن النهج القويم الذي تقتضيه الفطر السليمة والعادات الكريمة. ومن أجل حفظها شرعت الطهارة في البدن والثوب، وستر العورة، والنهي عن بيع الإنسان على بيع أخيه.
ولتحقيق هذه المصالح لفائدة حياة المسلم وآخرته وتبرير المتعارض منها انقسم فقهاء الاسلام إلى مدارس ومذاهب فقهية متعددة كل يؤول ويجتهد حسب ظروف المكان والزمان وكان ذلك سببا في اختلافهم وخلافهم وصلت حد الاحتراب والتقاتل البيني إلى اليوم كل منهم متبنيا " الإسلام دين ودنيا" رافعا شعار "الاسلام هو الحل" لكل المشاكل التي تعترض المسلم في دنياه وفي آخرته. إذ يرى محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية) أن:" المقصد العام للشريعة هو "حفظ نظام الأمة وضمان استمرارها بتحقيق الصلاح في الدنيا والآخرة".
* كيف تتحمل الدولة لوحدها مسؤولية تحقيق مقاصد الدين الاسلامي؟
جاء بالفصل الخامس من الدستور أنه :"...على الدّولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطيّ، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف..." وبذلك تحتكر الدولة بمؤسساتها/ "وظائفها " التشريعية والتنفيذية والقضائية مهمة تحقيق مقاصد الشريعة الاسلامية ساحبة البساط من تحت الأحزاب والتنظيمات وحركات الاسلام السياسي التي وظفت طويلا الدين الاسلامي المقدس في الشأن السياسي المدنس، لا تفصل بين دور الاسلام في الفضاء العام والفضاء الخاص والساعية لبناء دولة دينية باعتبارها الدولة التي تُسير شؤونها بناءً على تعاليم الاسلام ، حيث تكون الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والقانون وفي بعض الأحيان، قد تكون هذه الدولة تدار بواسطة رجال الدين أو تستند إلى سلطة دينية ، فالغاية واحدة وإن إختلفت الوسيلة بين يعمل على تحقيق مقاصد الدين الاسلامي بالوسيلة الديموقراطية الشرعية أي بالإنتخاب أو كما عبر عنه الفصل الخامس المذكور " في ظل نظام ديموقراطي " وبين من يعمل على تحقيق ذلك بوسائل العنف والارهاب والانقلابات الغير شرعية والغير مشروعة ، لكن ماذا لو وصلت هذه الحركات الاسلامية إلى قصري قرطاج وباردو بالصندوق الانتخابي ؟ مما يمنحها سلطات واسعة للمبادرات التشريعية لسن قوانين وتنقيح أخرى متوائمة مع أحكام الفصل الخامس من الدستور دون معارضة تذكر من المحكمة الدستورية المرتقبة ، فالإختلاف بينهما هو إختلاف داخل المنظومة الدستورية الواحدة من وجهة نظر أدبيات الاسلام السياسي حول الوسيلة وليس حول المبدأ ، ولم يكن الفصل الخامس من الدستور فعلا في الواقع بقدر ما كان رد فعل لاعتبارات سياسية ظرفية بحتة لمواجهة بقية المذاهب وحركات الاسلام السياسي ، لنجد أنفسنا قد انتقلنا من الإسلام دين دولة تونس ( المذكور مبدأ عاما في الفصل الأول من دستوري 1959 و 2014) إلى تونس دولة الاسلام ( المذكور تفصيلا بالفصل الخامس من دستور 2022) ، "فالانفتاح على بسط هذه الأحكام الدستورية في فضاء التداول العام قد يستنطق منها إرساء أسس الدولة الدينية " ( المولدي القسومي ، الجمهورية الجديدة والتأسيس الذّي لا يبنى عليه - تمرير في مجال المؤرخ المواطن ، طبعة أولى ، دار الكتاب تونس 2025 ص 325 ) أين يكون الحاكم فوق المساءلة والمحاسبة الذي نجد له تأصيلا في دستور 2022 وقد غابت عنه أي إشارة ولو تلميحا إلى الدولة المدنية القائمة على أساس المواطنة وحقوق الإنسان دون تمييز بناءً على الدين أو المذهب أو العرق ، دولة تستند إلى قواعد قانونية وضعية تُسن من قبل السلطة التشريعية بناءً على مبدأي العدالة والمساواة و يُعتبر الدين فيها شأنًا فرديًا، حيث لا يُفرض على المواطنين دين معين وحتى لا نبقى مصدومين من قبول أغلب الحركات السياسية التقدمية التي أفنت عمرها في الدفاع عن الدولة المدنية لدستور 2022 والتهليل له في مقابل رفض أغلب الحركات الإسلامية له وهي التي أفنت عمرها ومازالت في الدفاع عن الدولة الدينية ، وفي زمن الانحدار الشاهق وغياب المعنى تضيع بوصلة الاتجاهات والمفاهيم الفكرية والتوجهات السياسية ٫ فلا اليمين مازال يمينا ولا اليسار أصبح يسارا.