وهوما ساهم في تجاوز تأثيرها حدودها الجغرافية لتكون لها مركزيتها في نظام العالم، من قرطاج إلى القيروان، ومن الدولة الحفصية إلى دولة الاستقلال. حيث راهنت على هذا الإرث لاحتلال مكانة مرموقة في التوازنات والسياسات الإقليمية والدولية. وهي تواجه اليوم تحديات عديدة في ظل التحولات الجيوسياسية العميقة عالميا وإقليميا. ونظرا لهذه الظرفية العالمية والإقليمية والمحلية وجدت نفسها في مواجهة العديد من الصعوبات تفرض على قياداتها السياسية والاقتصادية -مؤسسات ورجال أعمال- أمام ضرورة تحديد خياراتها في مختلف المجالات وصياغة رؤيتها الاستراتيجية من أجل المراهنة على المكانة في الخارطة العالمية الجديدة من مختلف الابعاد.
ومن خلال دراستنا لهذه التحولات سجلنا على الاقل ثلاث تحديات رئيسية تواجهها البلاد التونسية: التراجع النسبي للدور الأوروبي، الشريك التاريخي الغارق في تناقضاته والتي تفترض إعادة التموقع في التوازنات الجديدة وإعادة صياغة سياستها الأوروبية. التحدي الثاني يتمثل في صعود قوى جديدة بثقة متزايدة على غرار الصين، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة "بريكس" والذي يفرض عليها وضعها في استراتيجيتها المستقبلية. والتحدّي الأخير، يتمثّل في التشرذم المستمر لمحيطها المغاربي والإفريقي وبالتالي العمل على ضرورة التقليص من هامشية سياستها في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من جسامة هذه التحديات، فإنها تخفي في طياتها فرصاً واعدة. فالسياسية التونسية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار التوازن بين مختلف هذه الانساق الجغرا-سياسية والاقتصادية وصياغة استراتيجيا دقيقة تأخذ بعين الاعتبار حماية سيادتها الاقتصادية والسياسية من ناحية وتعميق انتمائها الإقليمي والعالمي، مع تنويع شراكاتها الدولية دون المساس بمصالحها الوطنية
.
تعكس العلاقة بين تونس وأوروبا واقعاً معقداً يشبه علاقة الشريكين العالقين في زواج متوتر لا يمكن الاستغناء عنه ولا استمراره بنفس الشروط. فرغم أن الاتحاد الأوروبي يستوعب 70% من الصادرات التونسية ويوفر 60% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والذي سمح بتحقيق فائض تجاري بلغ 7,7 مليار دينار في عام 2024، إلا أن هذا التكامل مع أوروبا يخفي هشاشة اقتصادية فهذه الأرقام تكشف مدى اعتماد تونس على السوق الأوروبية إلا أنها تخفي ما تتعرض له من منافسة شرسة حول هذه السوق الأوروبية إلى جانب هشاشة وضعها على المستوى العالمي. تعاني تونس من عجز تجاري عالمي بلغ 6,2 مليار دولار في نفس العام، وفقًا لإحصائيات المعهد الوطني للإحصاء، فقد تفاقم العجز التجاري مع بعض القوى الاقتصادية مثل الصين (-9 مليارات دينار) وروسيا (-5,3 مليارات) وتركيا (-2,8 مليار).
يمثل اتفاق "الأليكا" (اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق) نموذجاً واضحاً لتحديات العلاقة التونسية-الأوروبية؛ إذ يسعى إلى تحرير الاقتصاد التونسي بشكل أوسع دون ضمانات كافية لتعزيز تنافسيته أو دعم التنمية المحلية. كما يعاني ملف الهجرة من ازدواجية صارخة؛ فبينما يتمتع الأوروبيون بحرية الحركة، تُفرض على التونسيين قيود صارمة على التنقل، مما يحرم تونس من الاستفادة من طاقاتها البشرية في السوق الأوروبية. لتحقيق شراكة متكافئة، يجب على تونس أن تسعى إلى اتفاقيات تضمن حرية تنقل الكفاءات والمواهب وتحقق تكاملاً اقتصادياً حقيقياً، مع التركيز على مشاريع الطاقة المتجددة، مثل مشروع "تونور" الذي يمكن أن يصدّر 4,5 جيجاوات من الطاقة النظيفة.
أما في الفضاء المغاربي، فإن الإحباط هو السمة السائدة. فرغم ما يجمع دول المغرب العربي من روابط تاريخية ولغوية وثقافية، فإن الاتحاد المغاربي يبقى مشروعًا متعثراً، حيث لا تتجاوز التجارة البينية نسبة 3% من إجمالي التجارة الخارجية، مقابل أكثر من 60% داخل الاتحاد الأوروبي. في المقابل، تقدم منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (ZLECAf) فرصة هائلة أمام تونس للتوسع نحو أسواق إفريقيا جنوب الصحراء. غير أن هذه الاستفادة تتطلب من تونس تطوير بنيتها التحتية وتعزيز قدراتها الإنتاجية والتصديرية، مع الانفتاح على شراكات اقتصادية مربحة.
وفي ظل تراجع النفوذ الأوروبي، برزت قوى جديدة تنافس بشراسة على الساحة التونسية. وفي هذا السياق تسعى تركيا لتوسيع نفوذها من خلال استثمارات وشراكات تجارية، إلا أن الاتفاقيات التجارية، حتى بعد تعديلها في 2018، تفرض ضغوطًا كبيرة على الصناعات التونسية، خاصة قطاع النسيج. أما الصين، فتمضي بخطى ثابتة لتعزيز حضورها في تونس، إلا أن الشراكات الاقتصادية قد تنطوي على مخاطر التبعية الاقتصادية، خاصة في حال تراكم الديون. في المقابل، تظل روسيا شريكًا استراتيجيًا في مجال الطاقة والغذاء، لكنها تمثل أيضًا مصدرًا للتحديات الجيوسياسية نتيجة تعقيدات الصراع مع الغرب.
أمام هذا المشهد المعقد، تجد تونس نفسها مطالبة بتبني خيارات استراتيجية جريئة تقوم على عدة أسس: أولاً، تعزيز الشراكة مع أوروبا على أسس متكافئة تضمن مصالح الطرفين وتتيح نقل التكنولوجيا والمعرفة؛ ثانيًا، العمل على تحقيق تكامل مغاربي حقيقي يكون ركيزة للاندماج الإفريقي الأوسع؛ ثالثًا، تنويع الشركاء الدوليين مع الحرص على عدم الوقوع في فخ التبعية الاقتصادية لأي قوة كبرى.
إن تحديات المرحلة كبيرة، لكن تونس بثقلها التاريخي وموقعها الاستراتيجي قادرة على تحويل هذه التحديات إلى فرص. المطلوب رؤية استراتيجية شاملة تزاوج بين الجرأة والواقعية، لتكتب تونس فصلاً جديداً في تاريخها الطويل، فصلًا يجمع بين السيادة والازدهار والشراكة البناءة مع العالم.